انتهينا في الجزء السابق من الحديث عن الفلسفة الواقعية الكلاسيكية، وننتقل اليوم إلى مذهب آخر من مذاهب الفلسفة الواقعية، وهو «الواقعية العلمية»، وخلاصة هذا المذهب في تصوّري هو أنه (مذهب شكوكي جدًا)، أي أن الفلسفة الواقعية العلمية ترتكز على الشك دائمًا وأبدًا؛ وبالتالي تهتم بالتجربة للتأكد والتيقن والتثبت؛ ولذلك فهي فلسفة لها من اسمها نصيب، فهي تهتم بالعلم أيضًا إلى درجة كبيرة يصبح فيها العلم مقدّمًا على الفلسفة أحياناً، عند محاولة البحث والوقوف على الكثير من الحقائق.
ويقال إن هذا التوجّه الفلسفي قد وُلد من رحم النهضة الأوروبية، حين بلغ العلم والصناعة والتكنولوجيا منازل رفيعة في عصر النهضة، ومن أبرز فلاسفة هذا التوجه العلمي هيوم، وبيكون، وراسل، وغيرهم؛ بالإضافة إلى الكبير «جون لوك»، الذي سنتناوله بشيء من التفصيل كنموذج لفلاسفة هذا المذهب.
فمع أن لوك أنهى دراسة الطب، وحصل على شهادات تمكنه من العمل كطبيب، إلا أنه لم يتفرّغ للطب، ولم يتخذه مهنة رئيسية، بل مال أكثر إلى العلوم الطبيعية، والفلسفة، وخاصة الفلسفة السياسية، حيث درس الفلسفة في جامعة أكسفورد، وعُيّنَ مدرسًا للفلسفة اليونانية في نفس الجامعة.
وهاجر إلى هولندا نتيجة لصعوبة الظروف السياسية في إنجلترا في ذلك الزمن، فقد كانت هولندا أكثر حرية حينها؛ ولكنه عاد إلى إنجلترا بعد نجاح ثورة الإنجليز عام 1688م، فأخذ مكانه المستحق الشامخ بينهم، باعتباره فيلسوف الثورة.
تؤكد نظرياته دائمًا على أن الوضع البدائي هو وضع تسود فيه الهمجية واختلال النظام وغياب القوانين، وعلى أن هذا الوضع لا يمكن القضاء عليه إلا بقيام (العقود الاجتماعية) ومعنى العقد الاجتماعي –ببساطة شديدة- هو أن يعطي الناس السلطة للحاكم القادر على التقدّم والسير بهم نحو دولة الدستور والعدالة والحرية والقانون.
واللافت أنه كان في بداياته يقف مع الملكية المستبدة، حتى تعرف على «أنتوني كوبر»، أحد السياسيين البارزين في الدولة، الذي كان من أنصار البرلمان لا الملكية، فقرَّبَ لوك وحماه، وجعله خليلاً له، فتحوّل لوك من مناصر للملكية إلى مفكر حر مستقل مؤيد للبرلمان، ومنظّر للحريّات والعدل والمساواة وحقوق الإنسان، ومن عضو هيئة تدريس في الجامعة إلى فيلسوف كبير.
ألّفَ جون لوك كتابه الشهير «مقالتان عن الحكومة» بلغة سهلة، حيث وضّح لوك فيه أن الشعب هو الذي يجب أن يمنح السلطة للحكام، حسب قواعد دقيقة معينة؛ ولذلك لا يستطيع الحكام فعل ما يريدون بالسلطة، التي ينبغي أن تعود إلى الشعب مرة أخرى إذا اختلتْ تلك القواعد.
لقد واجه لوك النظام الإقطاعي بكلِّ قوة وحزم، وكذلك فعل مع النظام الملكي المستبد، من خلال نظرياته عن سلطة الشعب، والفصل بين السلطات، والحق الطبيعي، وحق الملكية الخاصة، وحق المواطن في المقاومة... لقد دفعتْ نظرياته إلى التطوّر الذي ساهم وأدّى إلى الدول الدستورية الديمقراطية الحديثة القائمة اليوم.
فقد صاغ هذا الأب الفلسفي لحقوق الإنسان والحقوق المدنية والليبرالية كما يوصف.. صاغ في كتابه «مقالتان عن الحكومة» قوانين الدولة الدستورية الحديثة، وهي القوانين التي تأثر بها كثير من الأفراد والمجتمعات.
وإن كان كثير من الفلاسفة عاشوا حياتهم في أبراج عاجية أو بأساليب انعزالية، فإن لوك على العكس؛ فقد عاش مع الناس دائمًا في قلب المجتمع، وكتب عدّة مقالات في الفلسفة السياسية في بدايات سبعينيات القرن السابع عشر، تدور حول رغبته في تكوين دولة قوية، وتنطلق من أن الحاكم يستمد شرعيته من إرادة الناس، لا من أية إرادة أخرى.
وفي كتابه الشهير «مقالتان عن الحكومة» برَّرَ جون الثورة، وأقام الحجج الفلسفية المفحمة، التي تؤكد وتحث على إسقاط الملك غير الشرعي في عصره، وينطبق غالبها -في نظري- على أيِّ ملكٍ فاسدٍ غير شرعي، وعلى كل مملكة مستبدة طاغية غير شرعية، في أيِّ مجتمع وزمن.
وتم التخطيط فعلاً لهذا الانقلاب، ولكنَّ المخططين انكشفوا، فهربوا مع كثير من مؤيديهم، ومنهم لوك، الذي هرب إلى هولندا كما أسلفنا، في عام 1683م تقريبًا، وضاع بعض أجزاء كتابه أثناء الهجرة، ولكنه نشر كثيرًا منه.
يربط لوك كتابه بالثورة بمدخل جميل، يعطي القارئ الفهم الأولي لأهداف الكتاب ومعاناة مؤلفه.. يقول لوك: «لديك أيها القارئ بداية ونهاية مقالة عن الحكومة. إنه لا فائدة من أن أحكي لك ما حدث للأوراق، التي كان ينبغي أن تملأ وسط المقالة ما بين البداية والنهاية، والتي كانت أكثر من كلِّ ما بقي من المقالة. أتمنى أن يكون الباقي منها كافيًا لتثبيت عرش منقذنا العظيم، عرش ملكنا الحالي (وليم)، ولإثبات مشروعية مطلبه في موافقة الشعب».
لوك بكتابه هذا لا يدعو إلى الثورة فحسب، بل يبرر ويثبت ويدلل على وجوب قيام الملكية الدستورية. ويُعتبر كتابه من أبسط الأعمال الفلسفية المهمة، فهو واضح وسلس جدًا، لا يجد العامة أيّة صعوبة في استيعاب النقاط السياسية الرائعة الواردة فيه، ناهيك عن النخب والطبقات المثقفة.
يحتوي الكتاب على مقالتين، الأولى: تناقش بعض المبادئ التي يراها جون خاطئة.. والثانية: تتحدث عن الأهداف الحقيقية لحكم الدولة في نظره. يعرضها ويشرحها للمتلقي بسهولة ممتنعة.
لقد نقض ودحض في هذا الكتاب بالحجج والبراهين كل ما أورده «فيلمر» في كتابه الشهير «الأبوّة» من نظريات تبرر الملكية المستبدة المقدسة، وأبرزها زعم فيلمر أن العبودية بين البشر ضرورية، بناءً على نظرية عدم التكافؤ الطبيعي، وأن بعض البشر ولدوا سادة وبعضهم ولدوا عبيدًا، ويُرجع كل ذلك إلى نظام الطبيعة!.
لقد رد جون لوك على فيلمر في النقاط السابقة وغيرها من أمثالها، بردود جميلة إنسانية راقية، ومن ذلك قوله الرائع مثلاً: «العبودية وضع محتقر يخزي الإنسان، ومخالف للأخلاق النبيلة وشجاعة أمتنا، لدرجةٍ يصعب معها فهم أن إنجليزيا أهلا للشرف يستطيع أن يدافع عنها».
ويعترض لوك بشدة على تشبيه «فيلمر» الملك برب الأسرة؛ فالفرق كبير بينهما في الواجبات عنده، فرب الأسرة مسؤول عن تربية الأبناء وتأمين الطعام والشراب لهم، أما الملك فواجباته أبعد، حيث إنه مطالب بتأمين الحماية الكاملة للحقوق الأساسية كالممتلكات والحياة والحرية وتطبيق القانون والعدالة والمساواة، وهذا منبثق من الحقوق الأساسية الإنسانية التي رسخها لوك في كتابه، وهي: الحق في الحياة، والحق في الحرية، والحق في الحيازة والملكية.
ولا يرى لوك للملك الحق في حلِّ البرلمان تعسفيًا، أو في التصرف بأموال الدولة دون إذن البرلمان.. كما أوجب لوك على السلطة التشريعية تعيين قضاة مستقلين تمامًا، وطالب باستقلال السلطة التشريعية في مقابل السلطة التنفيذية، ومن هنا اعتبره الكثيرون من رواد فكرة (فصل السلطات الثلاث) التشريعية والقضائية والتنفيذية.
ويصل لوك إلى نتيجة كبيرة في كتابه، مفادها أن الملكية لم تعد ممكنة إلا في صورة «الملكية الدستورية» فقط. وقد كان هذا الكتاب أيضًا مناصرًا للشعب في موضوع «الثورة العنيفة»، فلوك يرى أنه من حق المواطنين الذين يُحرمون من حقوقهم الأساسية أن يثوروا بالقوة للتخلص من حاكم غير شرعيّ، إذا لم يكن التخلص منه بالطرق السلمية ممكنًا!. والخلاصة هي أن هذا الكتاب قد رفع مستوى الوعي الإنساني بحقوق المواطن الحر، بطريقة سهلة واضحة، قلّما نجد لها مثيلاً في كتب الفلسفة السياسية.
وبعد هذا الاستطراد السياسي المهم نعود إلى صلب موضوعنا، والحقيقة أني اجتهدتُ في محاولة استخلاص أبرز ملامح (فلسفة لوك العامة) بوصفه فيلسوفاً واقعيًا، ومع ذلك فليس بوسعي الإحاطة بكل شيء؛ ولكنني سأركز على أبرز ما يميز فلسفته في نظري.
يعترض لوك على الزعم بأن المعارف أو أن كثيرًا منها يعود إلى «الفطرة» -كما يقول الكثير من فلاسفة المدرسة المثالية- ويصرُّ على العكس، أي على أن المعرفة تُنال بالتجارب والخبرات الحسيّة.. ومن هذا وغيره صنفوه أو اعتبروه فيلسوفًا من أبرز فلاسفة النزعة الواقعية الحسيّة العلمية التجريبية في العصر الحديث، فالحواس فقط هي المصدر الوحيد الأكيد للمعرفة الثابتة عنده، حيث أكد على أن الإنسان الذي يفقد حاسة من حواسه، يفقد المعاني المرتبطة بها، وبالتالي يفقد من المعرفة أو القدرة على تحصيل المعرفة بقدر الخلل أو العطب الذي يصيب حواسه!.
وكان لوك يتبنّى أن الوعي بالأشياء أو الأحداث لا يتكوّن إلا بعد أن ندركها بحواسنا، فوعي الإنسان يكون في بدايته كصفحة بيضاء، إلى أن يدرك الأشياء بحواسه، وهي ثمرة تجاربه، فيبدأ تشكل الوعي الخاص بكل فرد، ويتصاعد مع كثرة التجارب.
ويُفرّق جون بين نوعين من الأفكار، فإدراكنا للعالم ببعض الحواس يسميه أفكارًا حسية بسيطة. أما «الأفكار المنعكسة»، الأهم عنده، فهي إخضاع الأفكار الحسية لمجادلات وتحليلات، ومن هنا وصل إلى نتيجة مفادها أن تكرار الانطباع البسيط يولد رؤية تركيبية.
ويعتقد لوك أن العقل البشري يحمل في ذاته فكرة الله، وأن فكرة (وجود الله) ليست فكرة إيمان، بل فكرة عقل ملازم للإنسان!. والزبدة في فلسفة لوك، هي أنها فلسفة تحليلية واقعية نقدية للعقل الإنساني، تقوم على «الحرية» كركيزة أساسية، وهي -أي فلسفته- أوضح وخير ممثل لتيار الفلاسفة الواقعيين التجريبيين عامة، والإنجليز منهم على وجه الخصوص.
نتوقف هنا الآن، ونختم هذا السلسلة في الجزء القادم الأخير بالحديث عن (الناحية التربوية) عند جون لوك خاصة؛ ثم عن (الفلسفة الواقعية والتربية) بشكل عام.
وائل القاسم - الرياض