اكتب.. اكتب ككاتب مغمور بلا أمل .. اكتب وكأن لا أحد سيقرأ ما تكتبه، وأخبر العالم بأن الناس ليسوا دائماً ما يبدون عليه، لا يحتاج الأمر إلا أن تكون صادقاً مع نفسك، حين تكتب فأنت تستخدم الكلمات لتحويل ما لا تعرفه إلى ما تعرفه. بعبارة أخرى أنت تخترع، وتعيد اختراع ما تعرفه. يظن الكثير من القراء أن الكاتب عادة ما يقرر أن يكتب في الوقت الذي يختاره. يجلس إلى منضدته، ويعتصر أفكاره ليخرج ما تجود به خزينته اللغوية والمعرفية من حكم وأفكار. في الحقيقة، إن المعرفة والثقافة أدوات تساعد الكاتب في عمله الأدبي، لكنها لا تصنع كاتباً، ولا تؤسس لرؤية. أنصت لمخيّلتك فقط، واصنع عالمك، ثم قم بتأثيثه، ولا تشارك لون ستائر عالمك مع أحد. ويؤكد ذلك الكاتب الكرواتي الشهير (ميروسلاف كيرليجا) عندما ذكر في إحدى المناسبات أن كل عمل غير فردي في الفن والإبداع يساوي صفراً. إذن، أساس الإبداع هو الإنسان بمفرده وبكينونته من الداخل؛ فالحياة في روح الكاتب هي تنبع من الداخل لا الخارج؛ فالمبدع الكاتب يصارع دائماً مشاعره الوجودية الأساسية، وهي: الضيق والحذر والخوف والشعور بالذنب، يخطوها الكاتب نحو عالمه رغبة منه في فهمه لا تغييره بالضرورة، إيماناً منه بأن الفن سيختفي يوماً لكن الإنسان الفنان سيبقى. ستختفي الأعمال لكن المشاعر باقية. والتقدم الثقافي الإنساني مجبول على الأسئلة لا الأجوبة؛ فالثقافة لا تعرف سوى السؤال، وكلما كبرت الحياة واتسعت كبر معها السؤال؛ لذلك الأمر بتلك الصعوبة للكاتب فالأمر أشبه باعتقال اللحظة المناسبة للبدء بمشروع الكتابة؛ فلا يمكن أن يكون واجباً يومياً أو أسبوعياً؛ فعندما أستلم عقل وروح الكاتب الموجودة بين يدي في كتاب أتوقع منه أن يستطيع استلاب أنفاسي. منذ البداية نقلي من حالة الواقع الممل إلى العالم الخلاّق المفترض أن أجده أمامي، ورفع خيالي درجات عما أستطيع توقعه. والكاتب يتوقع أن يجد قارئاً متحرراً صبوراً وشغوفاً، ولديه الاستعداد لتذوق الفن.
وكطقس مريح لبعض الكتّاب كان المتنبي يصوغ شعره على إيقاعات خطواته جيئة وذهاباً، كمن يعزف لحناً بطيئاً. وأيضاً وافقه «نيتشه»عندما قال: «أعظم الأفكار تلك التي تأتينا ونحن نمشي».
ويوافقهما الرأي «فلوبير» صاحب رواية «مدام بوفاري»، وهو مستغرق في الكتابة يحبّ أن يروح ويجيء في الغرفة المغلقة، ضارباً الأرض بقدميه، متفوّها بكلمات يرغب في التعرّف على مدى موسيقيّتها وصداها لدى القرّاء، لاعناً، باكياً، مطلقاً الأنين والصراخ، مردّداً لأبيات من الشعر القديم تعينه على نحت جملة من جمله. وعندما سأل الخدم زوجته عمّا يحدث في غرفة السيد فلوبير أجابت: «السيد بصدد تهذيب أسلوبه».
وتأكيداً لأن الإبداع والفن أبناء الدهشة كان «سارتر» يأخذ صديقته الكاتبة «سيمون» إلى أنفاق المترو، ويشرح لها كتباً وهمية يؤلفها، فإذا لمس عندها إبهاراً فإنه يعود لتأليفها.
وأكثر اللحظات حزناً عندما قال الكاتب العظيم دستويفسكي: يضطرني الفقر إلى الإسراع بكتابة شيء أعيش منه، يكون ذا تأثير سيئ على مؤلفاتي.
فالكتابة محاربة علنية على كل ما هو صامت وإعلان للحقيقة، ونوع من الإلهام والاستغراق في الواقع بنفس درجة الاستغراق بالخيال. هي تلك الأفكار الصغيرة التي تداهمنا يومياً بدون أن نلتفت لها أحياناً. إن أكثر الصفات التي قد تلفتك ككاتب هو مدى استغراقك في الملاحظة الدائمة لكل ما هو عادي جداً. تأملك في كل ما يعتبره الناس من المسلّمات: قهوة الصباح قد تكون قصيدة، مشوارك الصباحي للعمل قد يكون بداية رواية عظيمة، وجه حزين في الطريق لعامل قد يكون مشروعاً للوحة بورتريه.. هذا هو الفن، وهذه هي مهمته: مؤانسة البشر، وجعلهم يرون تفاصيل اليوم الصغيرة من مكان آخر، ومساعدتهم على فتح نوافذ على الروح. وكم أن الحياة تستحق منا أكثر مما نقدمه، وتستحق أن تعاش رغم ما نعانيه. أنت تكتب في الأصل لإسعاد نفسك، وإن استمتعت بفعل الكتابة فستروِّح أيضاً عن قرائك الذين يستحقون الكتابة لهم. يقول الروائي وليم فوكنر «ليس لدى الكاتب الوقت ليستمع للنقاد. الذين يريدون أن يكونوا كُتاباً يقرؤون مراجعات ونقد الكتب، ولكن الذين يريدون أن يكتبوا ليس لديهم الوقت لقراءة تلك المراجعات. إن النقاد أيضاً يحاولون أن يقولوا (نحن هنا). إن دور الناقد ليس موجهاً للكاتب نفسه؛ فالكاتب أفضل منه؛ لأن الكاتب يكتب شيئاً يحرك الناقد، بينما يكتب الناقد شيئاً يحرك الجميع ما عدا الكاتب نفسه». يمكنك الوصول إلى نوع من الانفتاح تجاه الحياة، بحيث ترى في كل جوهر شيء من القداسة، أن تكون منهمكاً في شيءٍ داخل نفسك وكينونتك، الحقيقة أنك لن تصبح كاتباً ما دمت لا تقرأ، وما دام هنالك قراء سيكون لدينا كتّاب. إن الأمر بهذه البساطة.
أحلام الفهمي - الدمام