كان خالد بن الوليد سيف الله المسلول من أعظم أبطال التاريخ الإنساني، وليس التاريخ العربي أو الإسلامي، وتلك البطولة استحقها من خلال الفتوحات العظيمة التي أعزّ بها الدولة الإسلامية، إلا أنه في نهاية الأمر قام الخليفة عمر بن الخطاب بعزل خالد بن الوليد، وعندما كثُر اعتراض المسلمين لعزل خالد بن الوليد واعتبروه ظلماً، ردّ عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: «إني لم أعزل خالداً عن سخطة، ولا خيانة، ولكن الناس فُتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويُبتلوا به، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض الفتنة».
لو تتبعنا مفهوم البطولة والبطل في الأدب العربي قبل الإسلام، سنجد أن هذين المفهومين مختفيان من التراث العربي الجاهلي، وقياس الاختفاء هنا مبني على المفهوم النموذجي لشيوعه عند اليونان والرومان.
ويمكن أن نحدد ثلاثة عوامل لهامشية مفهوم البطولة والبطل عند العرب قبل الإسلام، وهي:
1 - طبيعة الشعر العربي. 2 - غياب فلسفة الوثنية. 3 - غياب المسرح وصناعة الدراما.
غلب على الشعر العربي قبل الإسلام الشعر الغنائي الذي يفتقد إلى الوحدة العضوية، ولا يُمكن الإنكار أن الخصائص الفنية للشعر الغنائي عند العرب قبل الإسلام قد أسهمت في جفاف خلفية الشعر العربي من أي تأثير درامي.
فقد اتسم الشعر العربي بالوجدانية النشطة، والصورة الفنية ذات أحادية المستوى والمعجم لغوي الثابت الدلالة، إضافة إلى غياب دراما الحدث بسبب فردية الرؤية التي تعتمد على ما يعتقده الشاعر، بصفته الراوي العليم وتلكم الصفة فيها تعزيز لأحادية رؤية الفرد.
إضافة إلى لحظويّة الفكرة وقصرّها وفراغها المعنوي وفقدانها لقيمة التأمل، حتى الحوليات لم تكن تُصقل لإنتاج قيم تأملية بقدر ما كانت لسبك النسيج اللغوي للقصيدة، وتلك الخصائص كان مرجعها طبيعة البيئة البدوية الصحراوية المتطرفة.
صحيح أن الشاعر الجاهلي تطرق إلى الأفكار ذات المفاهيم الجدلية مثل الحب والموت والسلام والقدر، إلا أنه لم يستطع أن يُنميها فلسفياً إنما كانت تأتي عرضاً تحت «قالب الحكمة» والحكمة هي تصوّر فلسفي وليست تصويراً فلسفياً.
وموجز القول ها هنا إن الشعر العربي قبل الإسلام لم يتمكن من صناعة البطل الأسطوري للأمرين الآتيين:
1 - عدم وجود بُعد فلسفي للأفكار ذات المفاهيم الجدلية وتجميدها في قالب الحكمة.
2 - اللحظوية التي غلبت على بنية القصيدة العربية من خلال تعدد الموضوعات والتي أضرت وحدتها العضوية ومنعت من صناعة حدث حكويّ قادر على إنشاء صراعات ثنائية.
والعامل الثاني لهامشية البطل في الأدب العربي قبل الإسلام، هو غياب فلسفة الوثنية.
كانت الوثنية عند العرب قبل الإسلام وثنية غير أصيلة، فقد كانت مُجمّعة ومُقلّدة أتى بها العرب من خلال رحلات تجارتهم للبلدان الوثنية، كما أن العرب لم يكونوا ذوي وحدة دينية؛ فهناك الحنفاء وهناك عبدة الأوثان، وهناك عبدة الطبيعة، وهناك النصارى واليهود.
وغياب الوحدة الدينية الوثنية لم تُمكن العرب من تشكيل مفاهيم فلسفية تتعلق بوحدة الديانة الوثنية، كما كان عند اليونان والرومان وتمنحهم فرصة التأمل الفلسفي الذي يدور حول تلك الوثنية وعلاقاتها بالملكوت الأعلى ودورها في الأبعاد القدريّة للإنسان والموت والحياة والحب والسلام.
إن عقلَنة العلاقة بين العقيدة الوثنية وأنسنَتها بالنسبة للفرد هي التي دفعت مفكريّ تلك الوثنيّة إلى إيجاد مفاهيم تقاربية بالاقتران من خلال تمثيلات تجلّت في «الأبطال الأسطوريين» الذين جسّدوا تلك الآلهة وأفعالها على الأرض.
إن القيم المادية في الحضارتين اليونانية والرومانية هي التي دفعت مفكري تينك الحضارتين إلى البحث عن مفاهيم تجوّز الانتقال من ما هو في الاعتبار الإلهي إلى الاعتبار الإنساني، وحتى يكون هناك تناسب منطقي لذلك الانتقال لا يضرّ بقدسية تلك الآلهة أو صورتها في الذهنية الجمعية جاءت فكرة «الخارقية» كمعالجة درامية تُأنسّن وتعقّلن ذلك الانتقال، وبذلك استطاعت الفلسفة أن تصنع المفهوم الخارق.
إن الماديّة تقوم على التشيّئ والشيّئيّة «تحوّل المجرد إلى شيء» قابل للعقلَنة والتمثيل؛ ليُصبح مصدراً للتأمل والتأويل والمعرفة ثم الاعتراف به.
أما العامل الثالث لهامشية مفهوم البطل والبطولة في الأدب العربي قبل الإسلام.
3 - غياب المسرح وصناعة الدراما.
إن إنشاء أي مسرح يحتاج إلى أربع وحدات؛ الوحدة المكانية، الوحدة الدينية، الوحدة الاجتماعية، والوحدة الفكريّة.
والعرب قبل الإسلام افتقدوا تلك الوحدات؛ فأغلبهم بدو رُحل يركضون خلف الماء والكلأ، وكما قلت سابقاً لم يتوحدوا خلف نوع واحد من الديانة، أضف إلى ذلك أن العرب لم يكونوا وحدة اجتماعية كانوا وحدة عرقية، لكنهم اجتماعياً كانوا قبائل متفرقة، ولم يستطيعوا تكوين مملكة عربية أو إمبراطورية عربية بسبب التحالفات الثنائية المتضادة وشيوع صراع الثأر.
أما فيما يتعلق بالوحدة الفكرية لا يُنكر أحد أن العرب قد استطاعت أن توحّد لغتها الشعرية من خلال «النموذج اللغوي القرشيّ» كما أن هناك مشتركات على مستوى الأمثال والحكم، لكن وحدة اللغة الأدبية والمشترك النثري لا يكوِّنان فكراً.
فالوحدة الفكرية لا تتم إلا من خلال؛ الاتفاق على طريقة تفكير واحدة، الاتفاق على مضامين المفاهيم، وحتى يتحقق هذان الأمران لا بد من وجود صنّاع لخطاب تتجلى فيه الوحدة الفكرية، وهنا يبرز الفلاسفة وصنّاع الدراما.
إن الخطاب الفكري الذي شاع عند اليونان مثلاً كان نتيجة تأملات الفلاسفة، ثم صنّاع الدراما لتمثيل تلك التأملات وتقريبها للذهنية الجمعية.
وقد نشأ في ضوء تلك التأملات الفلسفية «قيمة التطهير» فالإنسان لن يتخلص من أنانيته إلا إذا رأى بالتجسيم عاقبة تلك الأنانية وقس على ذلك أنواع الشر، ولذلك ربط أرسطو الدراما بالمحاكاة، إن الدراما هي تقليد للفعل الإنساني الذي يهدف إلى «تطهير الذات» من آثار المعاصي والدفع بالمرء إلى قيم الخير.
وبعد الإسلام لم يُضف ما يُذكر في مجال تطوير دراما البطل في التاريخ الإسلامي، إنما انحرفت دلالتها ليحل الفقيه درامياً بديلاً للبطل؛ لأسباب نتناولها في حديث لاحق إن شاء الله.
- جدة