هل عدم الالتفات إلى الأبحاث الجديدة والاتجاهات الجديدة والبقاء على معطياتها قبل عشرين عاماً أو الاكتفاء بأثر المشرف مدة سنوات سبب في ضعف الدراسات الألسنية؟.. الجواب: نعم. أتذكر كلمة لأستاذ في الترجمة يقول: اللغويات أو اللسانيات في العالم العربي يعيش أزمة البقاء في هامش الترجمات أو أزمة الاكتفاء بالدراسات العربية القديمة، أو أزمة تعميم الاختصاص، وهي أزمة جديدة. ويعني الأخير أن المختص الواحد يحكي لنا اختصاصه وكأنه العلم كله.
وعلى أية حال؛ ليس هذا هو مربط القصد وأسّه لحقل اللغويات، حيث إن هذا العلم واسع سعة قد يصل بها إلى رسم خطاطات بتسمية شعبه وببنط خطي حجمه 12 ليمتد بسعته من حيث فروعه وقضاياه وتداخله مع العلوم الطبيعية والاجتماعية إلى أطراف صحيفة مساحتها تسعة أمتار مكعب. إن هذه القضية تؤكد أن العلم شُعبٌ، وأن فهم هذه الشعب بالكليّات يضمن فهمًا أعمق للجزء المراد الاختصاص فيه، وفهم التداخل الاختصاصي بشكل علمي ومنهجي دون التعميم أو البقاء في هوامش النقل والتأثير الإشرافي، ومعظم المختصين في اللغويات في العالم كله ينخرطون في هذا الحقل بأثر الإشراف، ويجعلون العلم كله محكورًا بإطار الإشراف وزواياه، دون توسيع النظر إلى اللغات واللغويات كما هما حالهما في التوسع المرهق والمذهل بشكل واقعيّ! بل إن ثمة مشرفين لهم دور كبير يُظهر صناعة ما يقدمه الباحث المختص اللساني في حياته مستقبلاً من مشروعات وعلم ومعارف لسانية.
وسأخبرُ القارئ المهتم بالدرس اللساني بمنهج المدرسة الألمانية الذي يلعب دور المتابع لكل قضايا وأبحاث اللسانيات في العالم، ومن ثمة يحصرها في قضية علم المعجم lexicology، وهو علم يعالج المعجم الذهني، وليس المعجم بمفهوم القاموس. وتنطلق معالجة علم المعجم (الذهني) من أصغر وحدة صوتيمية حتى أضخم نص لغوي رقمي، ويتضمن تداخلات بحثية في النفس والتعليم والاجتماع والآلة واللغويات الحاسوبية، ورائده التنظيري ليونارد ليبكا Leonard Lipka (2002).
وتتنوع بنيات المدخل المعجمي الذهني بتنوع مفاهيم الوحدات المعجمية الصوتيمية والصرفيمية والتركيبية والدلالية والذرائعية والخطابية المكتوبة والمنطوقة، ولكل مدخل معجمي ذهني وحدات لغوية، وبفعل الدراسات التراكمية لحقل المعجم الذهني الشمولي، جاء تفريق دقيق لمداخل كل وحدة معجمية مستقلة بذاتها في النص أو الكلام، والاستقلال هنا مرهون بالمسافات الخطية الكتابية أو المسافات الإحالية المرجعية في العالم المشار إليه، وحري القول إن مصطلح كلمة word غير مرغوب فيه وليس علمياً بالمرة في سياق التحليل المعجمي الذهني وفي سياق كل اللغويات، أما مصطلحي الجذر root والجذع stem فهما دقيقان وبينهما فرق يمكن أن أوجزه في الآتي: الأقل في الأصل للأول والأقل في اللاحقة التصريفية من غير الاشتقاقية في الثاني.. وكلاهما يعدان مدخلين معجميين ذهنيين lexical entry، ويكون هذا المدخل جذراً أو جذعا أو وحدة معجمية lexical unit أو مادة معجمية lexical item، وتلخيص الفرق بين الاثنين يكمن في المثال الآتي: فكلمة جون تعد مادة معجمية، وليست وحدة معجمية؛ لأن الوحدة المعجمية لا تطلق إلا على المدخل الذي يحمل معنى معينا في سياق معين.
وعليه نقول: الجون: مادة معجمية lexical item، والجون الأبيض: مدخل معجي lexical unit، والجون الأسود: مدخل معجمي lexical unit. ولو كان المعجم الذهني أكثر شمولية، لأصبحت مهمة تحديد خطاطة المدخلات الأصلية والصوتيمية والتركيبية والدلالية والثقافية والمعرفية صعبة؛ لأن هذه الوحدة يتعين منها أن تتعرف بذاتها في ذخيرة المعجم الذهني من حيث تنوع استعمالات باستعمال فواصل على غرار الفاصلة والفاصلة المنقوطة والأرقام والرموز مثل + أو * للدلالة على التحولات الطبيعية لذخيرة اللغة الذهنية.
ولنضرب مثالاً لكلمة beat بمعنى الضرب، فالمدخل المعجمي beat يكون اسما ويكون فعلاً، وفعلاً متعدياً وفعلاً لازماً، وله معاني لغوية متشابهة ومتشعبة وفق السياق اللغوي والموقفي.. ويمكن اعتباره مادة معجمية وليست وحدة معجمية، بل هي وحدات معجمية لمادة معجمية ذهنية واحدة.
وتستعمل هذه الكلمة بمعنى الضرب beat somebody يضرب أحدًا ، أو الفوز في منافسة Brazil beat Manchester البرازيل تهزم مانشستر، أو القيام بعمل أفضل the company’s profits are likely to beat من المتوقع أن تتحسن أرباح الشركة، أو التفضيل Fresh milk beats powdered milk الحليب الطازج أفضل من حليب البودرة، أو الخلط والمزج she beats the eggs with the milk تخلط البيض مع الحليب... إلخ.. هذا من دون تعدد مداخلها الذهنية في التعبيرات الاصطلاحية التي تتجاوز الثلاثين.
إن معالجة المعجم الذهني قد انطلق من نظرية كل من ميلكوك وزولكوفسكي Mel’™uk and Zholkovsky 1988 التي تسمى بنظرية نموذج المعنى النصي Meaning-Text Model Theory نظرية المعاني النصية النموذجية، وهي نظرية قد لاقت استحساناً من لدن الحاسوبيين اللغويين في التسعينيات من القرن العشرين، حيث تقترح هذه النظرية بناء معجم اندماجي تعليلي Explanatory Combinatorial Dictionary أساس بنيويته قائم على مَيكنة المعاني السياقية للكلمة الواحدة، وميكنة كل الكلمات ذات الدلالة المتشابهة - المتقاربة، ومن هنا بدأت معالجة اللغة الطبيعية Natural Language Processing.
وأظن في هذا السياق أنه بإمكان المواد المعجمية أن تكون أكثر دقة وفرزًا للمعاني السياقية الاستعمالية للكلمة الواحدة، وعلى الأخص: الكلمة التاريخية والوصفية، والمعبّأة في كلٍّ ثقافيًا وخطابيًا، وذلك عن طريق الاستعانة بما قد تفيده حزمة واحدة من النصوص اللغوية الرقمية الضخمة التي تتجاوز النصف مليار في ذاتها.
وخلاصة ما قيل، كان لفضل الحاسب الآلي براهين عديدة في تقديم فهم عميق ودقيق خالٍ من الاختيارية والعشوائية والانطباعية للغة وطبيعتها، ومن بعد هذه النظرية، نال مفهومُ حوسبة اللغة النصوص المكتوبة والمنطوقة المفهومَ الشمولي النظري للمعجم الذهني وذلك بشكل تطبيقي رياضي دقيق.
لقد اتسعب الدراسات اللسانية بشكل مركب ومتشعب، ولن يتداركها من لا يتقن قراءتها باللغة الإنجليزية، وفي حقولها التطبيقية على وجه التحديد، ويُمسك بزمام مفهوم التداخل، ويتقن الإحصاء على وجه الخصوص، لأن أي درس لساني أو بحث لساني لا يتضمن إحصاء اللغويات نفسه، ومنه برنامج R studio لحقل اللغويات، فلا أظن بأنه سيُكوّن لهذا العلم اتجاهًا جادًا للدرس اللساني العربي واللغة العربية.
سلطان المجيول - الرياض