هل أضحتْ عمليةُ الإبداع الأدبي سهلةً في الفترة الأخيرة؟.. وهل زاد عدد المبدعين في بلادنا؟ إن كانت الإجابة بـ(نعم)، فما الأسباب التي أدَّت إلى ذلك؟.. وإن كانت الإجابة بـ(لا) فما تفسيرُ هذا الإنتاج الضخم الذي تدفع به دور النشر في كل يوم، وتمتلئ به رفوف المكتبات؟
الحقُّ أنَّ السؤال يحمل فخاً منذ البداية، فمن الذي زعم أنَّ أغلب ما نشهده إبداع أدبي؟.. ومن الذي توهَّم أنَّ أكثر ما تغص به معارضنا هو من قبيل التجارب الفنية الناضجة؟.. ومن الذي ضحك علينا وأخبرنا أنَّ أغلب مَن يتصدَّر المشهد الثقافي وأكثر مَن يعتلي منصات التوقيع هم مبدعون أصلاً؟
إني أتمنى بهذه المناسبة أن يقوم أحد الباحثين الجادين بجمع الإنتاج (الأدبي) في السنوات العشر الأخيرة على الأقل، ويدرسه دراسةً وافية، حتى يُقدِّم لنا تقييماً حقيقياً لمستواه، وحجم الجودة أو الرداءة الذي وصل إليه، والأسباب التي جعلته يظهر بهذا المستوى، مع أنَّ نتائج مثل هذه الدراسات لن تكون خافيةً على القريبين والمتابعين من حركة الإنتاج الفني المحلي!
سأستبق نتائج هذه الدراسة وأتنبأ أنَّ نسبة الرداءة ستكون عالية، ولعلَّ ذلك يرجع في رأيي إلى أسبابٍ كثيرة من أهمها: فساد الذوق لدى غالب المجتمع، وانخفاض مستوى الإدراك الأدبي لديهم؛ لبعدهم عن الفصحى، وانغماسهم في عامية أضحت تحكم ألسنتهم ليل نهار، ومنها تنافس دور النشر على الكسب المادي البحت دون الالتفات -مجرد التفات - إلى جودة المنتج، وما دام الذائقة الأدبية لدى القارئ رديئةً فإنَّ إقباله على المنتج الرديء سيكون حتمياً، خصوصاً إذا أبدعتْ دور النشر في طريقة الطباعة وفخامة التغليف وجمال التجليد، وتوَّج هذه المؤامرةَ المؤلفُ المتذاكي حين اختار عنواناً برَّاقاً يكمل به اللعبة، ليقع القارئ المغفَّل في فخ هذا الإنتاج الذي لا يضيع وقته وماله فحسب، بل يزيد في فساد ذائقته، ويعطيه صورةً نمطيةً عن الإبداع بأنه على هذا المستوى أو قريبٌ منه.
أضف إلى هذا انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي كانت سلاحاً ذا حدين للإنتاج الأدبي، فهي وإن أسهمتْ في تطوُّر العملية الإبداعية بشكلٍ ما فقد ساعدتْ في الوقت نفسه على انتشار إنتاجٍ في غاية السوء والرداءة، فتجد أحدهم مثلاً يشتهر بموهبةٍ مقبولةٍ أو تافهةٍ سخيفة، وحين يتهافت عليه الناس ويطبلون ويصفقون، تأخذه العزَّة بـ(الإبداع)، ويرى نفسه حقيقاً بإصدار كتابٍ كغيره، فيسطِّر المضحكات والمبكيات، ويحشو ما بين الدفتين بنفاياتٍ تفوح رائحتها النتنة، ولا مانع من أن يتبعه بآخر وثالث، ما دام دور النشر تفتح ذراعيها للشباب (المبدع)! وما دام أنَّ القارئ الجيد أضحى عملةً نادرةً في زمنٍ أصبح المؤلف الجيد فيه أعزَّ من الكبريت الأحمر.
ثم إن الشللية في ثقافتنا المحلية والمجاملات العلمية والسعي إلى تحقيق المصالح الشخصية أمور باتت تنخر في مشهدنا الثقافي، وأدَّت إلى تسهيل إنتاج مثل هذه الأعمال الرديئة وإصدارها وانتشارها، وقد قلتُ مرَّةً إنَّ من أهم الأسباب التي تجعل الناقد يتجه إلى هذا النوع من الأعمال الرديئة مجاملته لصاحبه المؤلف، وتبادل المنافع بينهما، حيث يضطرُّ إلى التطبيل لما يقول، والثناء على عبثه، لأنه لا يريد أن يخسر صاحبه، ومردُّ هذا كله إلى انعدام الأمانة الأدبية لديه، واتخاذه من النقد وسيلة للتسلق وتحقيق المكاسب الشخصية، واستخفافه بعقول القراء، والنظر إلى الممارسة النقدية على أنها مجرَّد كلامٍ لا يستحقُّ معه أن يكتسب بسببه عداوةً من هذا الصاحب الوفي حتى لو كانت حروفه لا تساوي الحبر الذي كُتبت به.
إني أدعو في هذا المقام إلى وضع ضوابط وشروطٍ لفسح الإنتاج الأدبي، وعدم السماح لأي عمل بالصدور إلا بعد تحكيمه والنظر في مستواه الإبداعي وقيمته الفنية، وفق معايير معينة؛ حرصاً على المكانة الأدبية والفكرية للملكة، وتوفيراً للأوراق وأحبار الذي تهدره دور النشر حين تصدر مثل هذه الأعمال المخزية.
- الرياض
Omar1401@gmail.com