إن طبيعة الوضعية المتردية للأنا والتي تداعت إليها الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها هو ما يجعل التجديد هدفاً أولوياً يفترض تبنيه كخيار أساس بالضرورة لتجاوز حالة الوهن وهذا المستوى من الكلالة المثبطة والتي تجلى فيها الـ»ما صدق»لهذه العبارة النبوية الشهيرة:»بل انتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل».
ولو تأملت في الخطاب القرآني لأ لفتيه محتفياً بالتعبير وداعياً إلى تجسيد حيثياته مؤكدا في الوقت ذاته طبيعة ذلك الارتباط بين الواقع المعيش وبين ذلك الفكر الذي ينتجه وأن ثمة حالة جديدة تحكم العلاقة بينهما في الصميم ومن هنايأتي النص مقرراً {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} الأمر الذي يؤكد أن مثل تلك الحالات من العقابيل الرازحة على كاهل الأمة لن تنزاح إلا بإزاحة هذا الفكر الذي يولدها باستمرار.
كل حالة تقدمية وكل فرصة تنموية وكل خطوة تصب في رصيد المجموع هي إفرازطبيعي لتغير إيجابي يطال البنية العامة على مستوى التفكيروبهذا نفهم لماذا نددت المفردة القرآنية كثيرا بذلك النمط من التفكير الرجعي الآبائي والذي يتشبث بمعطيات الأسلاف ويستوحي من متبنياتهم ما يجعل منه دليلا على الصوابية وسلامة المنهج، مفردات التنزيل هنا شجبت هذا الاتجاه في التفكير واستنكرته وفي قالب لغوي ساخر {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ}.
«طول الأمد» مرض أمي طالما أنتج مفاعليه السالبة في الأمم السالفة ولذا فالقرآن الكريم حذَّر منه كثيراً وذلك لما يكرّسه في الذهنية العامة من حالات التكلس وأشكال التحجر التي تقضي على الألق وتصادر الحضور الفاعل وتحول بين الوعي العام وبين المراجعة والمكاشفة والتعديل والإضافة وبالتالي انعدام فرص التجاوب مع معطيات الرسالة السماوية التي لم تنزل إلا لتغيير الواقع وترشيد فضاءاته والتحوير في كيفية التعاطي مع تفاصيله.
إن الأحداث الضخمة والتحولات النوعية الكبيرة والمؤثرة في سياق الصيرورة التاريخية كثيرا ما تهز الوعي وتغير في طبيعته وفي طريقة ترتيبه للأولويات.
هذه الظروف السياقية كثيراً ما تكون عاملاً فعَّالاً في إحداث ما من شأنه أن يقود إلى زعزعة كثير من القناعات الحادة وعلى نحويضع الوعي أمام نفسه وجها لوجه الأمر الذي يحدوه لمراجعة حساباته ومن ثم اكتشاف ذاته من جديد وهذا تقريبا ما حصل مع جملة من الذهنيات، حيث هالها التقدّم النوعي للآخر وخصوبة حضوره وكثافة ما أحرزه من نجاحات على الصعيد المدني و على نحو حفز الذات الجمعية وجعلها تشعر بالتململ من واقعها المثقل بالجراحات هذا التململ واكبه أحياناً شعور ما يُسمى بالصدمة الحضاريه التي أصابت البعض فاندفعوا وبشكل لا محسوب للعبّ من مستنقعات الاغتراب حد الثمالة وبشكل حال بينهم وبين تشكل وعي نقدي كشرط أولي لفاعلية التثاقف وهوشرط تفرضه طبيعة اللحظة وقد أفضى افتقاده إلى حالات من الاستلاب كإفراز طبيعي لضمور الوعي وعدم امتلاك الحساسية المطلوبه لتقييم المفردات وإدراك طبيعة المتغيرات المتسارعة ومن ثم الدخول معها في علاقة جدلية حيّة قادرة على توليد الاستجابات المنسجمة مع الملابسات القائمة!
المغلوب كثيرا ما يدفع ثمن خضوعه للهيمنة ولذا فهو - كما يقرر ابن خلدون - مولع بتقليد الغالب كثمن لفاعليته فيه, المغلوب هنا مجرد منفعل ولذا فهو يتعاطى مع شروط الغالب ورمزياته ونماذجه باعتبارها صوابا مطلقا بغض النظر عن موقعها من سلم الموضوعية أونسبتها فيها, والحضارة المسيطرة دائما توظف هذاالسلوك الانحيازي فتفرض على نظام الوعي قيودها وأدبياتها ورموزها الاعتبارية بل وتصنع - كنتيجة طبيعية لتمددها الإمبراطوري - الشروط المفضية إلى التماهي مع ثقافتها والإنفعال ببرمجتها بل وطريقة نظرتها للتاريخ وآلية استيعابها لحراك الواقع.
هذاالاحتكاك مع الآخر قاد الذات - في بعض السياقات - إلى التفكير بضرورة مراجعة الواقع القائم وتفكيك قسماته ومحاولة تلمس بواعث تخلف الأنا وسر تقدم الآخر وهذا السؤال القلق بدوره خلق رؤى متنوعة بل تجاوزت التنوع إلى التضاد فتباينت المسارات وتعددت التوجهات فثمة من انحاز لنموذج معرفي وتماهى مع منظومة ثقافية مغايرة تمام المغايرة وتحكمت في لا وعيه تلك الأدبيات المركزية لثقافة الآخر فا ستأسر لعالمها وجسد حالة من التقليد الأعمى؛ لأنه لم يكن يمتلك تلك الحالة من الاستشعار الحدسي لتلمس معالم النقيض الموضوعي لاستدعائه والدخول من ثم في سياق مقارناتي يجلي الحيثيات السلبية والإيجابية في كل من طرفي المعادلة,هذا الصنف لم يكن يمتلك تلك القدرة الاستنارية التي تؤهله لنقد تلك الأدبيات ومحاكمتها محاكمة علمية رفيعة المستوى.
وهناك في المقابل من تراجع لديه الحس النهضوي لصالح الانكفاء والاكتفاء والإخلاد إلى المورث وتقديس مفرداته، بل والإعجاب الخرافي بمتبنيات الأنا مقابل الشيطنة التامة للآخر والتعاطي مع كل ممارسة إبداعية بوصفها سلوك إ بتداعي يفترض محاصرته واضطراره إلى أضيق الطريق وبين هؤلاء وأولئك طرائق قددا!
وهكذا فهم يختلفون لكن يظل سؤال التجديد قاسما مشتركا بين الجميع فالكل يتطلع إلى التغيير ويروم مبارحة تلك الأزمة التنموية الشاملة ومن هنا بدأت مراجعة التراث ومنظومته الثقافية فهناك من غاب فيه وتعاطى معه بوصفه أحد المفردات المكتنزة بكافة أدبيات الاستنارة بل وأحد المقدسات التي لا يسوغ مسها بحال من الاحوال وعلى النقيض هناك من تعاطى مع التراث باعتباره المرجعية المؤسسة للتخلف وقد توسطت طائفة ففصلت في الأمر وفرقت بين المقدس وغير المقدس بين الغث والمسمين وباشرت لونا من الفلترة الذهنية لهذه المعطيات فساءلتها وفحصت قدرتها على مواكبة الصيرورة وهل بمقدورها التجدد وبنفس ديناميكي من داخلها ومن ثم التفاعل مع يستدعيه الظرف اللحظي من إجابات أم هي تشكل ضربا من الوعي الغير مؤهل لدخول العصر ومن ثم البقاء خارج دائرة التاريخ!
...(يتبع)
- بريدة
Shupandy77@gmail.com