إن الوجودية - ببساطة شديدة - تنظر إلى (الشخصية الإنسانية) على أنها كلوحة فارغة عند بداية الحياة، أي أنها تكون لوحة بيضاء مع ولادة الإنسان، وصاحبها رسامها أو فنانها الذي يقوم برسمها تدريجيًا ووضع ألوانه ولمساته طيلة مراحل حياته.. إن شخصية الفرد عندهم كالكتاب الفارغ، الذي يضع فيه الإنسان كل يوم من أيام عمره كلمة أو سطرًا أو جملة، حتى ينتهي الكتاب وتتضح معالمه.
إن الوجودي إذا سلّط الضوء على صفة معينة في إنسان راشد مثلاً، فإنه يُحمِّلُ ذلك الإنسان كامل المسؤولية عن وجود تلك الصفة فيه، أي أنه لا يهتم كثيرًا بالعوامل الأخرى التي يُفسِّر بها غيره وجود تلك الصفة، كالأسباب الوراثية أو العضوية مثلاً وغيرها، بل يصر دائمًا على أنها نتيجة لسلسلة من الأفعال أو السلوكيات التي قام بها هذا الإنسان في مراحل حياته السابقة، فتراكمتْ حتى انتهتْ به إلى هذه الحالة التي أصبح يُنعت فيها بكذا أو كذا من الصفات الحميدة أو الذميمة، باختلاف مقاييس التمييز بين الحسن والقبيح من الصفات والخصال والأخلاق.
ومن الفقرتين السابقتين أدخل إلى النقطة الأخيرة المهمة في نظري، وهي (التربية في ظل الفلسفة الوجودية)، وأعتقدُ أن الجزأين السابقين اشتملا على كثير من النقاط ذات العلاقة بهذه النقطة، والحقيقة أنه من الصعب الإسهاب في هذا، فهذه الفلسفة - في نظر كثير من الباحثين - تختلف عن كثير من الفلسفات، حيث لم تقدّم برنامجًا تربويًا واضحَ المعالم كما فعلتْ الفلسفات الأخرى، كالمثالية، والواقعية، والطبيعية، والإسلامية، والبراغماتية، والماركسية، وغيرها.
ولكني وإضافة لكل ما سبق، أحب أن أجعل مسك الختام تعداداً لأبرز ما خرجتُ به حول (الفلسفة الوجودية والتربية)، على الشكل التالي:
الوجودية تقوم في الأصل على أساس رئيس هو (الفردية) كما أسلفنا وكررنا وشرحنا؛ ولكنها لا تتعارض مع القول بأن الإنسان كائن اجتماعي.. هي لا ترفض كونه اجتماعيًا، بل تتفق مع ذلك في فهمي لها؛ ولكنها تعترض وترفض أن تكون اجتماعيته هذه سبباً في تقييده وإخضاعه لعادات وتقاليد اجتماعية إلزامية رغم أنفه، وبصورة قسريّة لا تقنعه، وتجعله يتعب ويعاني.
فالإنسان عند الوجوديين يجب أن يبحث عن ذاته، وأن يختار ما يريد في كل النواحي بلا استثناء، للإجابة عن السؤال الكبير عندهم، وهو قول الإنسان لنفسه: (من أنا؟).
وللإجابة عن سؤالهم هذا بشكل سليم نافع مريح للإنسان، يجب عليه - عندهم - اختيار كل قراراته بقناعة حقيقية حول ما يناسبه هو لا ما يريد مجتمعه والناس فرضه عليه، ومن ذلك موضوع هام شديد الملامسة لموضوع (التربية) وهو أن الإنسان يجب أن يحدد «مرجعيته الأخلاقية» ومرتكزاته الأخلاقية، ومعايير ومقاييس اختيار الخلق المناسب لضمّه لمنظومته الخاصة.. يجب أن يحدد كل ذلك باختيار حر خاص به، فالقيم كثيرة ومتداخلة، والحسن عند فرد أو مجتمع قد يكون العكس عند فرد أو مجتمع آخر.
فالفلسفة الوجودية أيضًا اهتمتْ من الناحية التربوية في الجملة، بمنح الفرد (الحرية القصوى) قبل أي شيء آخر.. واهتمتْ وركزت أيضًا على الفرد في ضرورة اهتمامه بتنمية مهاراته وقدراته الشخصية، خصوصاً في موضوع (اتخاذ القرارات).
ومن أجمل ما يميز هذه الفلسفة أيضًا في التعليم، أنها تعترض بحزم على بعض الأساليب التعليمية السائدة، التي تبالغ في التعليم بطريقة (التحفيظ والتلقين) التي تجعل الطالب كالوعاء الذي يضع فيه المعلم ما يريد، دون أن تكون له مواقف أو آراء أو قناعات خاصة.
والحقيقة أني أتفق معهم تمامًا بنسبة 100% في هذه النقطة تحديدًا، رغم اختلافي معهم في الكثير، فقد كنتُ وما زلتُ وسأظل للأبد فيما يبدو، من أشد المطالبين بتخليص الطلاب وغيرهم في مجتمعاتنا العربية خاصة، من جميع رواسب التلقين وتبعاته السلبية التي لا تنتهي..
ولذلك أرى أن من أوجب الواجبات المتحتمة على كلِّ فردٍ عربي لنلحق بركاب الحضارة والمجد والتقدم الإنساني، أن يغسل هذا الفرد عقله بماء الحريّة النقي حتى ينظف من كلِّ سموم وأدران الحشو والتعويد المتراكمة، التي تكرَّستْ - في عقول كثير منا كعرب خاصة - منذ طفولتنا دون أن يفكر غالبنا في صحتها يوماً بحياد وصدق.
أنا مقتنعٌ جدًا أنّ أخطر الأضرار هو إظهار الإنسان اقتناعه بشيء ما، بسبب خوفه من وهم ما، أو طمعه في سراب ما، أو هربه من شبح خرافة ما، أو سعيه إلى خيال ما.. كما يحدث باستمرار في مجتمعاتنا العربية على وجه الخصوص للأسف الشديد.. إن ذلك - في نظري - ليس اقتناعاً حقيقياً.. إنه ليس إلا مخادعة رخيصة للنفس وهروباً ذليلاً من رؤية الأشياء كما هي إلى عالم الأوهام والخزعبلات.
إن القناعات كالطوب الذي يُبنى به الجدار، فكل قناعة منها طوبة، والجدار هو الكيان الفكري للإنسان.. فإذا بنى الإنسان كيانه الفكري بقناعات هشة ضعيفة، تبنّاها وارتضاها لنفسه نتيجة لضغوط أو مطامع معينة، أو وفق أسلوب (التحفيظ والتلقين) الأجوفين الأعميين، دون اقتناع حقيقي كامل جاد بها، فإن كيانه الفكري سينهار عند أول امتحان حقيقي، كمواجهة من يحمل قناعات صلبة مضادّة.. أجل، سينهار جسد أفكاره كما ينهار الجدار الذي بُني بأحجار ضعيفة غير متماسكة.
ولذلك ليس هناك - في تصوري - أكثر ثقة في خطواته من إنسان بنى قناعاته فوق قمم جبال الحرية في أجواء فكرية عليلة نقية، بعيدة عن غبار الوصاية وشوائب الولاية وأجواء الخرافات والكوابيس الملوّثة، وعوالق أتربة التلقين والإكراه وفرض الرأي.. إن هذا الإنسان سيمشي في ساحة الثقافة والفكر ملكاً واثق الخطوات دون أدنى ريب، بل بكل يقين.
إني أرى العقول كالصناديق، والأفكار هي ما يُوضع في تلك الصناديق إما ذهباً أو حجارة.. وقد يكون الصندوق الذي يملؤه صاحبه بالحجارة أثقل من الصندوق المملوء بالذهب والفضة، ولكنه لا يساوي شيئاً.. إن قيمته صفر، مهما تعب صاحبه في جمع ووضع تلك الحجارة الثقيلة فيه!
ولذلك أتفقُ تمامًا وتحمستُ كثيراً لموقف (الفلسفة الوجودية) الرافض للتعليم بالحفظ والتلقين، فما أجمل أن تكون قناعات التلميذ ثمينة كالذهب.. ولا يمكن تحقيق ذلك المطلب النفيس، إلا بتربية وتعليم الطلاب أن لا يضع الفرد منهم في صندوق عقله أيَّة فكرة لا تقنعه إقناعًا تامًا، مهما بلغ تقديس المحيطين به لها، أو فرحهم بها، أو حرصهم عليها.
إن أسلوب التلقين والترديد والتحفيظ الأجوف الأعمى مضر بالطالب في كل المواد، كما ترى الوجودية، ولذلك - وبناء على اتفاقي معهم في هذا - أرى وجوب استبداله في كل المواد عامة، وفي مادة (الفلسفة) بخاصة، في كل دول العالم التي تدرّس الفلسفة في مدارسها؛ باستثناء دولة واحدة فقط، هي بلادنا السعودية للأسف، التي تصرُّ على منع تدريس الفلسفة والمنطق في مدارسها لأعذار ومبررات واهية.
إن ضرر أسلوب التلقين والترديد الببغائي كبير في كل المواد، ولكن ضرره في مادة «الفلسفة» أكبر وأشد من ضرره في بقية المواد، واستبداله فيها من باب أولى؛ لأن الفلسفة يفترض أن تعمل على عكسه تمامًا، أي على تنمية الحس النقدي والمهارات العقلية التأملية التحليلية العميقة الشاملة، التي تصعد بالطالب إلى مرحلة الاستقلال الفكري والشموخ العقلي الحر.
بالإضافة إلى أن هذه الفلسفة الوجودية أوجبتْ على المعلّمين والمدارس توفير (المناخات الحرة) التي تجعل الأفراد يبدعون بحرية وبلا حدود ولا قيود، وأوجبتْ عليهم أيضًا التركيز على النواحي الإبداعية في التلميذ كفردٍ له قيمة مستقلة بذاته، لا بوجوده ضمن مجموعات أو (جماعات مدرسية)، وحثتهم على تحفيزه وتشجيعه للعطاء والإبداع القوي الدائم على كلِّ الأصعدة التي يجد فيها نفسه.
كما يهتم كثير من فلاسفة الوجودية بمراعاة (الفروق الفردية) والتفاوتات المختلفة بين الطلاب، ومن ذلك مثلاً مواهبهم، فهي فلسفة تركز على كثير من الفنون كالرسم والموسيقى وغيرها، ولكنها تطالب دائمًا من المنزل والمدرسة التنقيب في داخل أعماق كل تلميذ بحثاً عن مواهبه والمجالات التي يحسنها ويحبها لتشجيعه على مزيد من الإبداع فيها.
ويجب أن لا نغفل (اللعب) فله مكانة كبيرة في فلسفة التربية الوجودية، والفرق بينها وبين كثير من الفلسفات الأخرى، أن غالب الفلسفات تهتم باللعب بشكل عام وبخاصة (اللعب الجماعي).. أما الوجودية فعلى العكس، حيث تهتم بـ (الألعاب الفردية) بصورة أوسع، وكثير من فلاسفتها يفضلون اللعب على الجديّة في كثير من الأحيان، ومنهم سارتر.. وأتفق معهم في هذا وفق تصوري الخاص، الذي يطول شرحه، فالحياة لا تحتاج إلى المبالغة في الجديّة، التي أراها إن زادتْ عن حدّها سببًا في شقاء الإنسان.
وائل القاسم - الرياض