(الحقد غضب الضعفاء)
ألفونس دوديه
(1)
خرج عبد الله القصيمي من خب الحلوة (قرية غرب بريدة) لينشر بعد سنوات أحد أشهر الكتب التي طُبعت خلال القرن العشرين في المكتبة العربية.. لكن العرب الذين كانوا (ظاهرة صوتية) في ذلك الزمان، ما عادوا على ما عهدهم به ابن خب الحلوة، الذي يُقال إن والده جاء من حائل وسكن القرية نهاية القرن التاسع عشر. بحثت كثيراً عن خب الحلوة في الخرائط. بدأت البحث عن قرية غرب بريدة كما توضح سيرة القصيمي، لكني وجدت البكيرية ورياض الخبراء والبدائع والنبهانية.. ثم بعد تضييق البحث اتضح أن خب الحلوة لم تعد قرية، بل حي من أحياء المدينة التي كانت قبل قرن قرية.. لعل هذا التحول وحده، يتضاد مع قول القصيمي بالظاهرة الصوتية.. التوسع الجغرافي والتنمية والطرق السريعة التي عزلت الخب عن الحمر والدعيسة، هي من خصائص أمة لا تتكلم فقط، بل تتكلم وتعمل.. غير أن العنوان - الشعار الذي تحوّل من كتاب ينتقد حال العرب في زمن ماضٍ إلى شعار وحجة لقوى الاشتراكية التي أنتجت أنظمة البؤس مثل البعض وغيره، لم يعد اليوم، مثالاً يُقتدى به في وصف حال العرب.
تفترض الواقعية القول، إن العرب صمتوا طويلاً، لا لأنهم خرسٌ، بل لحكمة، تبيِّن أنهم كانوا يستعملون الصمت دواءً لعلاج علاقاتهم بأنفسهم وبالآخر.. إذ تقتضي الحكمة، أن لا يذهب المرء إلى رد الفعل فوراً، وبقي حال العرب كما تصفه كلمة فرنسية (Ambivalence) لا يوجد لها مرادف مباشر بالعربية، وهي تصف حال الفرد المتناقضة حيال مسألة معينة لا يمكنه أبداً إبداء رأيٍ فيها.
والحق إن العرب لم يقضوا جل وقتهم في الصمت، فقد عملوا على أمور أهم، ليس أولها ولا آخرها التنمية، فصاحب الكتاب نفسه تكلم وهو عربي، وإن كان المقصود بالكتاب، كما يفهم منه، احتلال الأراضي العربية في فلسطين.. فإن المنطق يستدعي التفكير ملياً وطويلاً في الأسباب والدوافع وليس في الصمت حيال الحدث.. إذ إن هذا الاحتلال جاء بعد حرب كونية قسّمت العالم وفوّضت دول الاستعمار القديم التحكم بمصير الدول والكيانات الصغيرة ورسمها رسماً بيناً تاماً لا نقاش فيه، ذلك أنه ليست نتيجة الحرب وحدها، إنما نتاج تفكك آليات الاستعمار القديم والانغماس التدريجي في الثورة الصناعية وتفريغ الحضارات القومية من المكونات غير المتجانسة فيها، وهو ما أثبت الوقت أنه لم يحصل. بهذا، فإن إسرائيل ليست مجرد احتلال لأرض عربية، بقدر ما هي وليدة مشروع الحضارة الغربية الحديثة التي نتجت بعد الحرب.. وهي بالتالي كيان يسانده العالم كله، فيما كنا، ذلك الوقت، نحتاج إلى خطط كي نقنع العالم بحقنا في الأرض. الحروب تستغرق الوقت، لكنها في هذا الوقت تدمر كل شيء، وبعض العرب اختاروا الصمت كي يعملوا لا كي يغردوا كالغربان على جثث الأبرياء.. والجميع يعلم ماذا فعلت بشعوبها، الأنظمة التي حملت شعار تحرير فلسطين من حافظ الأسد حتى القذافي.
حافظ الأسد نفسه الذي أنشأ سجناً خاصاً أسماه (فرع فلسطين).
(2)
كان العرب في صمت، نعم، بعضهم يعمل في التنمية والبعض الآخر يعمل في السلام وكيفيات التوصل إليه. والجميع تقريباً، يسعى لإقناع البعض المتصلب في الخطاب الديماغوجي، التخلص من هذا الخطاب والدخول في سباق التطور الذي تستحقه شعوب المنطقة العربية، بعد نصف قرن من التوتاليتارية والحكم البوليسي. خرج الشباب العربي إلى الطريق. في تونس تجلت خاتمة الحكم بحرق أحد الفقراء نفسه أمام المرآة، من هناك تفجرت المعنويات، في مصر، التي كانت تعيش وطأة الحكم الأوليغارشي، قبع شبابها ستة عشر يوماً قبل أن يتنحى الرئيس مبارك.. لكن الثورة لم تنتج ديمقراطية حقيقية، ذلك أن الفساد الذي أنتجه حكم عبد الناصر والضباط الأحرار، ترسخ بحيث أصبح منظومة متكاملة لا يمكن أن تسير الدولة من دونها.. أما في سوريا، التي تعاني منذ السبعينيات، من قبضة النظام الحديدية، فقد جعل منها حافظ الأسد مزرعة عائلية مدمراً كل مقوماتها الأساسية.. وبعد أقل من ساعات على الصرخة المحقة التي قام بها أطفال درعا، تم رميهم في السجون حيث عذبوا حتى الموت وانفجرت الثورة سلمياً لستة أشهر قبل أن تصل إلى الجيش الذي بدأ بالتفكك رويداً رويداً. نعم، صمت العرب.. لكنهم بنوا دولاً ومؤسسات واستثمارات ضخمة وحقيقية.. وكي لا نقول إن هذه دول الملائكة، فإن الفساد لا يزال يتحكم ببنية العقلية الاجتماعية في بعضها.. وهذا إن كان له علاج حقيقي وثابت، فهو تسيّد منطق القانون والمحاسبة والعمل على تحسين بنية التربية والتعليم لتخريج أجيال جديدة من الطاقات الإنتاجية التي تعمل على إكمال مشروع التنمية كما يجب أن يتم.
(3)
لو أُتيح لعبد الله القصيمي أن يعيش في هذا العصر، لكان بدَّل عنوان كتابه من العرب إلى الفرس.. قد يستغرب البعض هذا الكلام، لكنه في صلب الحقيقة.. فالفرس أو دولتهم التي يتسيّدها الملالي، عملوا على أخبث مشروع عانت منه شعوب المنطقة منذ الثمانينيات.. فقد دمر هذا المشروع في مرحلته الأولى، المرجعية الدينية للشيعة العرب في النجف، ثم بناء الأحزاب الموالية لعقيدة الولي الفقيه، التي تهدف في جوهرها إلى ربط الشيعة العرب فيها بعد نزعهم من الانتماء لأوطانهم الأم.. فالشيعة اللبنانيون وبعد سنوات على تغلغل الفكر الديني الفارسي جنحوا بغالبيتهم، بفضل تعزيز العصبية الطائفية، إلى الولاء للولي الفقيه الذي يقدمون اليوم خيرة أبنائهم على مذابحه، ورغم التململ في مشروعية الموت على الأرض السورية، فإن الحزب الإيراني الذي أصبح بعد استشهاد رفيق الحريري يحتل لبنان فعلياً، لا يزال يمسك ويتحكم بمصير الشيعة في لبنان وسوريا وكذلك في البحرين دون أن ننسى اليمن الذي كاد أن يتحول إلى مستعمرة إيرانية جديدة لولا تدخل القيادة العربية، وعلى رأسها الملك سلمان بن عبد العزيز.
عمل الفرس منذ اليوم الأول على القتال مع الغرب بدماء الشيعة العرب. من لبنان إلى سوريا بالتحالف مع الديكتاتور الأسد (الأب والابن) ثم وصولاً إلى البحرين التي لم تسقط بالقبضة الإيرانية حتى اليوم ثم اليمن الذي يتكبد فيه المشروع الإيراني هزيمة مدوية.. عملوا على الصراخ والصراخ فقط.. وهم وإن كانوا يحتلون لبنان ويسيطرون على سوريا وبعض العراق، فإن الرد العربي القاسي في مواجهتهم وضع حداً لألاعيبهم بثقافة الشيعة العرب الذين لا يمكن لهم إلا الإنخراط في المشاريع الوطنية الساعية إلى التطوير وتعزيز التنمية والتعليم.
لو أُتيح للقصيمي أن يعيش في هذا العصر.. لكان جلس إلى طاولة في مقهى ونظر بإزدراء إلى الخبث الفارسي وكتب كما يكتب المواطن العربي الذي ينتمي لهذه الثقافة.
الفرس ظاهرة صوتية.. وأكمل الكتاب.
سيمون نصار - باريس