ضمن فقرات حفل التخرج لمبتعثي كندا للعام 2015م، ألقى الروائي والمبتعث لدرجة الدكتوراه بكندا الأستاذ محمد حسن علوان كلمة الخريجين. العلوان مرشح للحصول على الدكتوراه خلال الأشهر القادمة. ونظراً لما حوته الكلمة من معان عميقة وتجاوباً مع رغبات بعض خريجي برنامج الابتعاث الذين رأوا فيها واحدة من أجمل كلمات حفلات الخريجين، تقوم المجلة الثقافية بنشرها، بعد حذف المقدمات والجزء الإنجليزي منها.
أتشرف هذه الليلة بإلقائي كلمة الخريجات والخريجين مستشعراً كثافة ما يكتنفنا جميعاً من مشاعر مختلفة تراكمت عبر أيام ابتعاثنا وليالي غربتنا، منذ أن بدأنا مسيرتنا قبل سنوات حتى اجتمعنا أخيراً في هذه القاعة، لنتوج معاً خطواتٍ طويلة من السعيّ، ويحتفل كل منا بإنجازه الشخصيّ إلى جانب إنجازنا المشترك الذي حققناه كطلبة علم تخرجوا بنجاح وجهات مسؤولة مهدت لنا الطريق إلى ذلك. فالتهنئة الحارة الخالصة لكل من أنجز ونجح، والشكر الجزيل العميق لكل من أسهم وساعد، وأخصّ على سبيل المثال لا الحصر منسوبي وزارة التعليم، وسفارة خادم الحرمين الشريفين في كندا، والملحقية الثقافية، وكافة المؤسسات التعليمية الكندية ذات الصلة.
ليس بوسعنا هذه الليلة ألا ننتبه إلى كوننا أول دفعة في كندا تحتفل بالتخرج بعد غياب الملك الصالح عبدالله بن عبدالعزيز الذي أطلق واحداً من أكبر برامج الابتعاث في التاريخ، وأكبر وفود السفارة الدبلوماسية في العالم، وذلك عندما نصّب كل واحدٍ منا سفيراً للملكة العربية السعودية، فأحسبنا والله حسيبنا قد حققنا رغبته وإرادته ولم نخيب ظنه، وحُق له أن ينعم بجوار ربه محفوفاً بدعواتنا.
والليلة أيضاً نستشعر كوننا أول دفعة تتخرج من كندا في العهد الميمون للملك الوفيّ سلمان بن عبدالعزيز، الذي كثرت أفعاله وقلت أقواله، وجعلنا في الأشهر القليلة التي انقضت منذ أن تسلم مقاليد الحكم نزداد يقيناً وثقة أنّا نملأ وجدانه وقلبه، ونهيمن على فكره وعقله، فلا سعى إلا لنا وما عمل إلا لأجلنا. ونحن نستعد بعد تخرجنا هذا لأن نكون عونه وعضده في مشروع بناء الوطن وتنمية الإنسان بإذن الله. والليلة أيضاً نقف على أعتاب وداع هذا البلد المضياف الذي قضينا في ربوعه سنواتٍ مطبوعة في الذاكرة، وأثيرة على النفس. وتزودنا بزاد الحياة ونور العقول وعماد البيت، وهو العلم، في واحد من أفضل منابعه على مستوى العالم: كندا. فانتشرنا في مدنها وقُراها الممتدة من المحيط الأطلسيّ إلى المحيط الهادي، فلم تخل مدينة من سعوديات وسعوديين يطوفون أروقة الجامعات وقاعات المحاضرات وأجنحة المستشفيات، يشقّ كل منهم طريقه إلى هدفه كل صباح، صحواً كانت السماء أم مطراً، سالكة هي الدروب أو مغطاة تحت الثلوج، سائقين وراكبين ودارجين ومشاة، عاقدين عزمنا على الوصول مهما طالت الطريق، ومصرين على النجاح مهما كثرت العقبات. وقد استشعرنا مسؤوليتنا تجاه ما قدمه لنا وطننا العظيم مما جعلنا أفضل حالاً وأسعد حظاً من أغلب من شاركناهم قاعات الدروس والمحاضرات من طلاب آخرين.
الليلة تأخذ الرحلة شكلها الأخير في الذاكرة، وتنتظم الأيام التي مضت في مسافاتها المتساوية بين الفرح والحزن، والشجن والسكينة، والأمل والعمل. نلتقي بعضنا البعض في هذه القاعة وكل منا يحمل في قلبه حكايتَه الخاصةَ مع الابتعاث التي لا يستطيع أن يحكيها أحدٌ غيره، ولا تشبه قصة أخرى سواها. ولكنها جميعاً تشكل موسوعة كبرى إذا فتشت في فهرِسِها فستجد أكثر الكلمات تكرراً هي: السعي، والطموح، والإرادة، والعزم، والنجاح، والثقة.
قصة الابتعاث مكتوبةٌ بألف قلمٍ، على ألف ورقة، بألف لغة، إلى ألف أفق رحبٍ من الطموح، على ألف سجادة رطبة من الدموع، تحكي ألف يومٍ أو يزيد من العمر، بدأت ونحن نحن، وانتهت ونحن آخرون. أو إذا شئنا قلنا: بدأت ونحن آخرون، ولم تنته إلا وقد صرنا نحن.
قصة تشبه الفسيفاء التي ينظر إليها الناظر عن بعد فيظن أن جمعها سهل، ونظمها يسير. حتى إذا اقترب وتمّعن تبيّن له أن لكل حجر فيها حكاية، ولكل لونٍ مسار. في هذه الفسيفساء يقرأ قصة الأم المبتعثة التي مارست الأمومة وتشجمت الدراسة معاً، فأعطت كليهما حقه. تحمل كتابها بيد وتطعم رضيعها بيد، وتعرف وحدها معنى أن تقسم ليلها بين الطفل الذي انتهبته الحمى بالأمس والاختبار الذي يحدد مصيرها في الغد، وفي أجندتها الأكاديمية تجد مواعيد طبيب أسنان ابنتها، وفي أجندتها المنزلية موعد تسليم أوراق بحثها. تداخلت الأجندتان معاً ولكن ما غفلت عن موعد واحد فيها.
حجرٌ آخر من هذه الفسيفساء يحكي قصة الأب المبتعث الذي يقتحم قلقه على أسرته قاعة محاضراته وليالي مناوباته. تجتمع على مكتبه معادلات الهندسة والرياضيات وأيضاً فواتير المنزل وقائمة الطلبات، فما أهمل هذه ولا نسي تلك. وكان أول الحاضرين في مجلس الآباء في مدارس أطفاله مثلما هو دائماً أول الحاضرين في قاعة درسه أو ليلة مناوبته. حمل على كاهله أسرةً وشهادة، وعرف كيف يجعلهما معاً مولّداً عظيماً للطاقة الإيجابية.
حجرٌ آخر من هذه الفسيفساء يحكي قصة الفتاة التي مشت طريق الابتعاث كاملاً رغم كل ما اعترض طريقها من صعوبات اجتماعية وضغوطات معنوية ممن يظنون أن الابتعاث ينقص الفتاة ولا يزيدها، ويخدش سمعتها ولا يرفع مكانتها. وكل ذنبها من ذلك كله أنها قررت أن تتزين بعلمها فتكتفي بذاتها لا بغيرها، واختارت مقعد الدراسة لا مقعد الانتظار، وأن تكون داخل القطار الذي يمضي وليس على محطته.
حجرٌ آخر من هذه الفسيفساء يحكي قصة الأم التي ودعت أبناءها المبتعثين وبناتها المبتعثات فلم يكن ذلك آخر عهدها بهم، ولا انقطاع أملها فيهم. بل وصلتهم بجسر من الدعوات مدتها إلى السماء، وفيض من الحنان العابر للآفاق. وهي لا تعلم أن اتصالاً ليلياً منها يحيل بيت ابنها المبتعث إلى جنة دافئة في منتصف الشتاء، ورسالةً حانيةً منها تضوع في شقة ابنتها المبتعثة مثل قطعة بخورٍ ثمينة.
حجرٌ آخر من هذه الفسيفساء إلى الأب الذي شجع ابنه على الابتعاث ولم يستأثر به، وأوصاه فأحسن الوصية، وشجعه فأحسن التشجيع، وكان أماناً لابنه إذا هالته الغربة، وعوناً له إذا خدشته الحياة. وذلك الأب هو نفسه النبيل الأبيّ الذي كان درعاً لابنته، يصد عنها سهام المجتمع، فكفاها رضاه عنها عن رضى العالمين، ورجح تأييده لابتعاثها على إرجاف المرجفين، فمشت على الطريق الذي مهده لها أبوها بعونه وتشجيعه ومرافقته إياها محرماً سنين طويلة.. لا لشيء إلا من أجل أن يقف إلى جوارها هذه الليلة فخوراً بها، وقد منحته جبيناً وضاءً وهامة مرفوعة.
وحجرٌ من هذه الفسيفساء للمبتعث الوحيد، الذي حُجب عنه نبل التعب لمجرد أنه لا يعول أسرة ولا يرعى طفلاً. فاتهموه بالسياحة المدفوعة، ونسوا أن الوحدة تثقب القلب، والوحشة توجع الروح. اتهموه بالتهم التي تنفيها عنه الزوايا القصيّة من مكتبة الجامعة، والأعمال التطوعية في الأنشطة الوطنية، والدرجات الرفيعة في سجله الأكاديمي، ثم ها هو يجلس الليلة في هذه القاعة مرتدياً وشاح التخرج وقبعته فهل ثمة ما هو أدل من ذلك على صحة عزمه وعلو همته؟
هذه الفسيفساء وحكايات أحجارها الكريمة وألوانها الجميلة يراها الناظر عن بعد فيظنها كما أسلفت سهلة النظام يسيرة الألوان. ولذلك كان على كثير من المبتعثين أن يتحملوا فوق ما حملتهم الغربة من آلام، وما تطلبتهم الدراسة من أعمال.. من يتهمهم في همتهم فينفي عنهم شرف التعب، أو من يتهمهم في أخلاقهم فينفي عنهم كمال العفّة، أو من يتهمهم في ضمائرهم فينفي عنهم صفاء النيّة. ومن يزايد عليهم في دينهم وعروبتهم ووطنيتهم لمجرد إقامتهم لسنوات خارج الوطن.
ليس منا الآن من ليس في يده شهادة أو على وشك نيلها. ولكن ما تعلمناه من هذه التجربة يتجاوز بكثير كم الدروس والمحاضرات والعلوم والآداب. وليس بوسعي أن أختزل هذا كله، فلكل منا طريقته الخاصة في استخلاص التجربة واستقطار المعرفة، ولكني أزعم أن شيئاً واحداً قد اكتسبناه يكاد يكون مشتركاً بيننا جميعاً، ألا وهو اليقين أنّ كلاً منا قادر على أن يكون من يريد، ويحقق ما يأمل. فإن سنحت له الفرصة وإلا اخترعها، وإن لان له الدرب وإلا ألانه، وإن سمحت له الظروف وإلا تجاهلها.
على بعد عشرة آلاف كيلومتر من مكاننا هذا يوجد الوطن الذي ينتظر عودتنا إليه، ويتوق إلى أن يضمنا إليه بذراعين من شوق وحب. ونحن إذ نستعدّ للعودة إليه لاستلام أدوارنا في رحلة البناء نتذكر أن من سبقنا قد تركوا لنا وطناً لا يتجاوز عدد مواطنيه عشرين مليوناً ولا يتجاوز تاريخ تأسيسه قرناً من الزمان، ورغم ذلك فإنه قبلة المسلمين من شرق وغرب، وواحد من أقوى الكيانات السياسية في المنطقة، وأكثر الدول تأثيراً في اقتصاد العالم، وأعلى المراكز العالمية في مستوى دخل المواطن، وأكثر الدول إنفاقاً على مشاريع التنمية. وسنجد جميعاً فور عودتنا أن الوطن يتسع للجميع ولكل منا دور إذا وسعنا أفق الرؤية فيما يجب أن يكون عليه هذا الدور.
إن أغلبنا الآن في هذا المكان يتوق إلى أن يضع ما تعلمه واكتسبه من علوم ومهارات موضع العمل والإنتاج. ولكني أريد أن أذكر نفسي والجميع أن أحوج المجالات إلى علم العالمين وقدرة القادرين هي الأنشطة التطوعية. فلا ننسى ونحن نقبل على المستقبل بهذا التفاؤل أننا بما أوتيناه من أحوال طيبة وتعليم عال ومستقبل مشرق مسؤولون بشكل أو بآخر عن ثلاثة مليارات شخص في العالم يعيشون تحت خط الفقر، ومليوني طفل يموتون سنوياً بسبب نقص الدواء والغذاء، ومليار شخص في العالم لا يعرفون القراءة والكتابة، وعن ثلث نساء الأرض اللواتي يتعرضن للعنف، وعن مليار ونصف شخص يعيشون بلا كهرباء ونصفهم بلا مياه نظيفة.
نسأل الله ألا يغيّرنا إلا إلى حال أفضل، وأن يديم علينا النعم التي لا تقود إلى تكاسل، والأمن الذي لا يقود إلى تغافل، والاستقرار الذي لا يقود إلى تواكل، والعزة التي لا تقود إلى تجاهل. وأن يجعل بلادنا أنشط حصانٍ في قافلة البشرية، وأعلى طائر في سماء الحضارة، وأرفع وسامٍ على صدر الأرض، وأخصب موسمٍ في مواسم الأمم. ونسأل الله الذي جعلنا قبلة المسلمين أن يجعلنا قبلة العالمين، ومثالاً يضرب في كل مساعي الخير.
محمد حسن علوان - كندا