وسيقول البعض إنها مسجلة منذ عام تقريباً في قائمة التراث العالمي، وموعودة بكثير من الرعاية والاهتمام؛ وهو كلام جميل وجزء من حظوظها التاريخية الممتدة فعلى أرضها التقت حضارات شتى وأبناء أمم مختلفة شكلوا فيها نسيجاً فريداً تعرفه المدن الساحلية، وفاقت عليها بكونها بوابة الحرمين الشريفين.
لكن خبر إدراجها ضمن «مواقع التراث العالمي» كان مدهشاً فهي تتعرض لإهمال واضح منذ سنوات، وتفقد عدة ملامح منها سنوياً بفعل العوامل الطبيعية ومغامرات الناس أحياناً، ولم يبق منها سوى أطلال محملة بالذكريات وثكنات للحنين تفيض على قلوب أبنائها عندما تستبد بهم إيقاعات الحياة الراهنة، وتقسو عليهم واجهات المباني الزجاجية.
وعلى أرض الواقع تتجول القطط في ممرات المدينة، والمباني الآهلة بالذكريات غدت سكناً للعمالة ومخازن تجارية، وأبوابها صدئت أقفالها دون أن تحنو عليها عمليات ترميم منهجي أو إحياء واع بقيمتها وتاريخها ومعنى «التسجيل العالمي»، ولم نر عملاً معرفياً واحداً، على أقل تقدير، يشير إلى معنى «المدينة التاريخية» وحدودها وقيمتها والأدوار الملقاة على المؤسسات الرسمية والأهلية والمالكين تجاه الوضع الراهن، وكيفية اقتسام المسؤوليات، وأداء المهام بعيداً عن الضجيج الإعلامي وبهرجة الصور المغمورة بالشوق الذي لن يعيد الماضي، ولن يصدق ويفي بأدوار الحفاظ وإعادة التأهيل لمكونات ثرية إنسانياً، واقتصادياً، ومعرفياً.
بعد أسبوع تبدأ فعاليات المهرجان السنوي الثالث الذي تشهده المدينة في الإجازات وشهر رمضان. البرنامج احتفالي لاستعادة نكهة الحياة، وتقاليدها، وألفتها، وربط الأجيال الجديدة بها؛ وهي خطوة جميلة لم تخل من توجه تجاري استثماري، لكن المجتمع وجد فيها متنفساً في ظل سطوة الأسواق الحديثة التي تكرس النزعات الاستهلاكية، ولا تحفل بالقيم الإنسانية كثيراً فكان النزوع نحو الأمس وتفاصيله رغم ضعف بعض الفعاليات، وعشوائية تنفيذ البعض الآخر، وتداخل النشاطات، وضعف الترويج، لكن كثيرين مولعون بما يعيد لهذه المدينة عمقها وإنسانيتها مهما كان المستوى بسيطاً وعابراً فقد يئسوا، كما أظن، من وجود عمل منظّم متكامل ينقذها، ويمنحها معنى الرعاية الحقيقية.
الاحتفالية قدمت عناصر استعادية وحديثة تغيب طيلة العام في مدينة لا يجد زائرها في بقية الأشهر متحفاً جديراً بالزيارة، أو مطعماً يقدم قائمة الطعام التقليدية، أو فندقاً تقليدياً متكامل العناصر، ولا مكاتب لاستضافة أصحاب مشاريع إحياء التراث و استثماره، ولا مقهى مما عرفت به جدة طيلة حياتها يليق بجلسة زائر أو محب يحقق الهدف السياحي والجدوى الاقتصادية في آن واحد.
ما نرجوه ألا يشغل المهرجان الجهات المسؤولة عن التنبه لعمليات الهدم والفقد والمسخ والتخريب التي تتعرض لها أجزاء من جدة التاريخية التي غدت اليوم ضمن السجل العالمي فهذا التسجيل، وفق خبير اليونسكو منير بوشناقي «لا يعتبر الوصول لمرحلة النهاية ووضعها كـ»زينة» أو أن تصبح متاحف، بل هي بداية مشروع متكامل لكي تكون مصدراً للحياة والتفكير والإلهام، وتتحول إلى مدينة حية» وهي في ظني عملية شاقة، وليست بعيدة المنال.
المهرجان يزيد من شعبية الموقع، ويعزز الفرص الاستثمارية الدائمة، لكنه قد يجني على الأبنية التاريخية وملامحها التي تتعرض لعمليات التغيير لمواءمة العروض وجذب الجمهور تحت «وطأة التسويق» إن لم يرافق ذلك جذب رؤوس الأموال،وتشجيع المبادرات المدنية، وتنويع الموارد للحفاظ على الموقع ومكوناته وشكله وعلاقته بما حوله، والتشجيع على الدراسات الثقافية والتاريخية والعمرانية التي تستحضره، وتتأمله، وتضمن اتصاله بالراهن والمستقبل.
محمد المنقري - جدة