1- الخطاب الغذامي.. والأشبار المخاتلة:
في فاتحة كتابه الممتع: رحلة إلى جمهورية النظرية يُورد عبدالله الغذامي - نقلاً عن كتاب القزويني: آثار البلاد وأخبار العباد - قصة طريفة عن الدَير المبني على قمة جبل الجُودي، فقد زعم الرواة أن مقدار طوله يختلف في كل مرة يُقاس فيها، وأنه كلما شُبِر اختلف عدد الأشبار التي تحدد طوله، وقد نقل الغذامي هذه الحكاية ليذكِّر القارئ بصعوبة الوصول إلى استنتاجات ثابتة ودقيقة عن سمات الثقافة الأمريكية وعن خصائص البلدان والشعوب بعامة، فالواقع دائم التغير، والاستيعاب الذهني له متطور باستمرار.
ويمكن هنا أن نضيف إلى ما قاله الغذامي ونمدّ بساط القياس ليشمل الأشخاص أيضاً؛ إذْ لا تستطيع مهما اجتهدتَ أن تصل إلى خلاصة دقيقة عن «حقيقة» أيّ شخص، وإنما قُصارى ما يمكن أن تصل إليه هو مقاربة ظرفية ومؤقّتة لسماته الشخصية واتجاهه الفكري، أولاً لأنه هو يتغير، وثانياً لأن استيعابك له يزداد بالتدريج، وفهمك لشخصيته يرتقي ويتطور، وثالثاً - وهذا هو الأهم - لأنك أنت أيضاً دائم التغير؛ حتى لو لم تشعر؛ فكأن التغير هو القانون المسيطر، وكأن أعجوبة الدير في القصة السابقة هي ببساطة أعجوبة الدنيا التي نعيشها، والناس الذين نخالطهم، والذات التي نتكلم باسمها.
ولعل قانون التغير لا يسري على أحد بكل زخمه وعنفوانه كما يسري على الغذامي؛ ولا سيما مع غزارة إنتاجه الثقافي، والحيوية الفكرية المدهشة التي تتسم بها كتاباته، ولطالما حيّر الغذامي بديناميكيته المتجددة عشاق الثبات من كل الاتجاهات النقدية والفكرية الذين يتفقون - رغم منازعهم المتباينة - على الامتثال للحكمة الشعبية التي تقول: الرجل عند كلمته.. جاء الغذامي ليقول لهم: إن الرجل الحق هو «الذي ليس عند كلمته !.. هو من تعجز كلمته عن تقييد فكره، والتحول: شهادة حياة وحيوية؛ ولذا فإنني ابن التحول» !
الرجل الحق إذن عند الغذامي هو: المفكر الحر بأوسع معاني الحرية التي تتضمن التحرر أولاً وقبل كل شيء من تصنيف الذات لنفسها: فكرياً، أو نقدياً، وحين تتحرر النفس من هذا التصنيف ستكون دروب الحكمة كلها مفتوحة أمامها؛ أليست الحكمة ضالة المؤمن ؟.. وأن تكون الحكمة ضالته يعني أنها ما تزال مختبئة بوجه ما عنه.. تتكشف له رويداً رويداً؛ ليستمر طوال عمره باحثاً عنها، ومنقّباً بين أساسات المعرفة - وبين ركامها أيضاً - عما يظنّ أنه: الحكمة، وعن أعمدتها الذهبية السبعة.
2- مفلسِف النصوص.. من يُفلسفه:
تستطيع - من حيث المبدأ - أن تأخذ على الغذامي اندفاعه نحو تبني الأفكار الجديدة؛ بحماسة كبيرة للتغيير تقترب من سياسة: الأرض المحروقة، وهو ما يعقبه بعد فترة اندفاع مقابل في رفضها والدعوة إلى تجاوزها، حدث هذا مثلاً مع مفهوم الحداثة الذي بشّر به الغذامي طوال الثمانينات الميلادية، ثم لم يلبث أن دعا إلى تجاوزه أواسط التسعينات إلى مفهوم: ما بعد الحداثة، كما تكرر هذا أيضاً مع النقد الأدبي الذي جنّد نفسه له سنين عديدة، ثم أعلن بعد ذلك موت النقد الأدبي، منتقلاً منه وبالحماسة التبشيرية نفسها إلى مهمة: النقد الثقافي، وحدث هذا ثالثاً مع الشعر الذي طالما سامره، وناجى نصوصه، ثم انصرف عنه مترحِّماً عليه، ونافضاً يديه منه؛ غير أن تحفظك تجاه هذه التحولات الغذامية سيتضاءل كثيراً إذا ربطتها بسمتين أصيلتين في شخصيته، وهما: حيويته الفكرية المتوثبة للجديد، والبعيدة عن النمطية والجمود، ثم بحثه الدؤوب عن الوسائل الأكثر نجاعة لفهم الواقع، والإسهام في تغييره نحو الأفضل، ولعل هذه المرونة الفكرية التي تدفع الغذامي إلى المراجعة المستمرة لمواقفه وأفكاره هي التي حرّرت فكره من المراوحة والجمود، وهيّأته ليكون: شبيهاً مختلفاً على حدّ تعبير حاتم الصكر. ومن المفارقات الطريفة التي تكشف عمق التحول في مسيرة الغذامي النقدية أن بعض الآراء التي كان يُعرِّض بها ويسخر منها سابقاً أضحى بعد سنوات مقتنعاً بها، ومنافحاً عنها، فقد سخر في «السحارة» من شخصية حداد بن حارث الجزاري، مُورِداً على لسانه بعض العيوب الأخلاقية التي انتقدها على شعر المتنبي، والتي تُوجب في نظره الامتناع عن نشر ديوانه؛ ولكنّ بضع سنوات أخرى كانت كافية ليتبنى الغذامي نفسه وبمنتهى الجدية عدداً من هذه الحجج «الثقافية» التي سخر منها في السابق.
على أن التأمل المتمهِّل للنسغ الحي الذي يمتح منه فكر الغذامي ونقده سيكشف ما يجمع بين هذه التحولات الظاهرية، وما يُحيل هذا التنوع الواسع في الاهتمامات النقدية والثقافية عنده إلى ما يشبه الوحدة، فلطالما كان صاحبنا معنيّاً بفكرة (الأنموذج) الثقافي المضمَر في البنية العميقة للظواهر الإنسانية والمجتمعية بعامة، وهو الأنموذج الذي يمكن الكشف عنه من خلال تحليل الخطاب اللغوي المعبِّر عن هذه الظواهر، حدث هذا مع أول كتبه: الخطيئة والتكفير الذي حاول فيه أن يلخِّص رؤية الشاعر حمزة شحاتة للحياة في أنموذج: الخطيئة والتكفير، وهي فكرة ذات أبعاد دينية وثقافية متجذِّرة في النفس الإنسانية، واستمرّ هذا التوجه في كتبه اللاحقة؛ مثل: الكتابة ضد الكتابة الذي راح يتتبع فيه أنموذج المرأة عند ثلاثة شعراء معاصرين ينتمون لأجيال شعرية متتابعة، ثم اطّرد البحث عن الأنموذج بعد ذلك في كتبه المؤسَّسة على النقد الثقافي؛ مثل: الثقافة التلفزيونية، والقبيلة والقبائلية، والفقيه الفضائي، والليبرالية الجديدة، هذا يعني أن انتقال الغذامي الناقد من الأدبي إلى الثقافي كان انتقالاً مقدّراً ومتوقّعاً؛ لأن ما كان يبحث عنه منذ بداية الرحلة هو: الأنموذج الثقافي المضمَر، وسبق أن بيّنت في المقالة الثانية من هذه السلسلة أن هذا الاستنتاج هو ما يقدّم تفسيراً معقولاً لسبب احتفاء الغذامي ببعض الشعراء ذوي القدرات الفنية المتواضعة جنباً إلى جنب مع احتفائه بالشعراء المتميزين فنياً، فقد كان الأنموذج الثقافي - وليس الفني - هو ما يستحوذ على بؤرة اهتمامه منذ بداياته النقدية المبكِّرة، وأنا هنا لا أتحدث عن آليات التحليل النقدي التي يستعملها الغذامي عند مواجهة النص، فلهذه الآليات بُعد فني لا يُنكَر، وإنما أعني البنية العميقة للنص التي يستهدف الكشف عنها بوصفها ثمرة التحليل، فهذه البنية المستهدَفة في معظم تحليلاته هي بنية ثقافية، وليست فنية أو لغوية. والتعلق بالأنموذج الثقافي هو الذي يفسِّر كذلك تقدير الغذامي لغازي القصيبي «الروائي» أكثر من غازي الشاعر؛ لأن البُعد الثقافي في روايات القصيبي أوضح؛ مع أن التميز الفني لغازي إنما يظهر في شعره لا في رواياته.
وهكذا يتبين أن جذور التحولات عند الغذامي أبعد مدى مما قد يبدو لأول وهلة، إذْ هي تعود إلى بواكيره الأولى، وتحديداً إلى كتابه الأول: الخطيئة والتكفير الذي يكتنز بذور معظم التحولات الفكرية والنقدية التي مرّ بها هذا الناقد، وحين تقرأ هناك مثلاً حديثه عن تحول النقد إلى نظرية للنص؛ لتحل محلّ الفلسفة وتنوب عنها في أداء وظيفتها الثقافية؛ ستجد أنه منذ بداياته كان يعدّ نفسه ليكون: مُفلسِفاً للنصوص، وأن وصوله إلى الأنساق المضمرة في هذه النصوص لم يكن سوى مسألة وقت، فقد كان النقد الثقافي على مرمى حجر من هذه الرؤية الفلسفية المبكِّرة لمهمة النقد.
هذا بالإضافة إلى ما طُبعت عليه شخصية عبدالله الغذامي من مثالية تأبى الرضوخ لحكم الواقع، وهي التي أوصلته - على المستوى النفسي - إلى النقد الثقافي المعني بتفكيك قوة السائد؛ من أجل تمكين الضعيف المحاصَر.. المثالية المنحازة بوضوح إلى العدالة، والتي تجعله في مواجهة فكرية دائمة مع القوي المركزي، ومؤازرة مستمرة للضعيف المهمّش. وربما كان هذا التوجه المثالي هو ما جعل الناقد عبدالله إبراهيم يلحظ أن الغذامي يتحول في مواضع كثيرة من كتاباته إلى ناقد إصلاحي وأخلاقي.
3- مختبر الكيمياء:
عقلية الغذامي هي عقلية متسائلة ومتجددة ومنفتحة إلى أبعد الحدود، ولديها قدرة واسعة على الربط بين مسائل متباعدة تبدو لأول وهلة وكأنه لا رابط بينها؛ ولكنه حين يصل بينها بحبال المنطق يتبين للقارئ مدى الانسجام المعرفي بينها، وكأنما بذر في تربتها الهامدة حبوب اللقاح، فاهتزت وربت، ومثل هذه العقلية التلقيحية نادرة في ثقافتنا العربية، وأنا أعني بالعقلية التلقيحية: تلك العقلية التي ترفض الخضوع لوهْم التخصص، فتنشر أجنحة قراءتها المكثّفة فوق ميادين وعلوم كثيرة، وهو ما يهيئ لها أن تلمح مناطق الاشتباك المعرفي بين مسائل العلوم المختلفة، فتلقحها بعضها ببعض، لتنتج علماً جديداً، أو تفتح باباً معرفياً في الجدُر الفاصلة بين التخصصات، حدث هذا سابقاً في تراثنا العربي فانتفعنا بعقلية كبيرة مثل عقلية عبدالقاهر الجرجاني؛ لأنه رفض أن يحصر أسئلته المعرفية في ميدان علم النحو بأبوابه المدرسية المعروفة، فقد أراد أن يعرف كيف يمكن أن يجيب علم النحو على أسئلة البلاغة التي يطرحها البيانيون، وعلى أسئلة الإعجاز التي حار فيها علماء الكلام، وبتلقيح هذه العلوم الثلاثة بعضها ببعض توصل إلى نظرية النظم، وهو التلقيح الذي سيؤدي حتماً إلى توسيع الرؤية لدقائق كل علم، فيصبح النحو علماً للعلاقات المعنوية بين التراكيب، ويغدو علم البيان علماً منضبطاً يدقق كثيراً في دلالة المصطلحات الجمالية التي كان يستعملها بأسلوب إنشائي دون فرز وتمييز، ويتخلى علم الكلام عن حججه الخطابية القابلة للنقض متجهاً إلى استثمار الأدلة البرهانية المبنية على فحص دقيق للفروق بين التراكيب وأساليب التعبير.
وليس المقصود بالعقلية التلقيحية ما يُعرف في تراثنا العربي بالعالِم «المشارك» الذي يتقن أكثر من علم، فقد كانت هذه ظاهرة شائعة لدى أسلافنا؛ ولكنها ليست مرادة هنا، وإنما المقصود: العالِم أو المفكِّر الذي يستطيع استحضار آليات وأفكار ونصوص من حقل معرفي معين فيما هو مشغول الذهن بمعالجة قضايا وظواهر تنتمي لحقل معرفي آخر، وهذا الاستحضار هو الذي سيقوده في النهاية إلى التلقيح والاستثمار، وفي هذا بالتحديد يكمن الفرق الهائل بين الذهن الحافظ المتقِن، والذهن التجريبي الخلاق، بتعبير آخر أقول: إن بعض الأذهان مثل فهارس المكتبات: جميع المعطيات مصنَّفة؛ ولكنها لهذا السبب منعزلة ومنطوية على نفسها، وبعض الأذهان مثل مختبرات الكيمياء: هناك دائماً تجارب مثيرة لمركّبات جديدة.. عبدالله الغذامي هو ذهن كيميائي بامتياز!
4- ما الذي سيبقى من الظاهرة الغذامية:
عبدالله الغذامي بحيويته الذهنية، وحواره الخلاق مع الأفكار الجديدة، ومتابعته الحثيثة للتحولات الثقافية والاجتماعية المعاصرة، والمستجدات الفكرية العالمية أولاً بأول، هو في كل ذلك مُلهِم لروّاد الطريق الثالث؛ فهو يدفع قارئه دائماً إلى المراجعة المستمرة لمواقفه، وأساليب تفكيره، ومجالات اهتمامه، وفي هذا تحديداً يكمن تميز الغذامي أكثر بكثير من مواقفه المؤقتة ومشاكساته العابرة مع بعض الأشخاص والتيارات المجتمعية.
ما الذي يميز الغذامي عن كثير من المفكرين العرب المعاصرين؟ لعل من أبرز مزاياه: قبوله للاختلاف إلى درجة تثير الدهشة أحياناً، فخصومه من المحافظين الذين لا يقبلون آراءه التنويرية، والذين سبق أن هاجمه بعضهم بقدر كبير من الشراسة؛ هؤلاء كلهم لا يعدّهم حفنة من «الظلاميين» أو الرجعيين المعادين للحضارة الإنسانية والمدنية المعاصرة؛ إلى غير ذلك من الأوصاف الحادة التي يُفضِّل أدعياء الليبرالية العرب إطلاقها في مواجهة التيار المحافظ، وإنما يعدّهم مختلفين عنه في النظر إلى الواقع، وتحليل معطياته، وهو يفضِّل - وبخاصة في الفترة الأخيرة - تشريح طريقة التفكير؛ عِوضاً عن مهاجمة المفكِّر، ولعلّ مردّ هذا الموقف عنده أنه لا يرى نفسه وصيّاً على الناس واختياراتهم، ومن هنا بشّر يسقوط النخبة - وهو أحد أعمدتها - وصعود الطبقة الشعبية، وربما هذا ما دفعه إلى أن يلاحق بمؤلّفاته الأخيرة توجّهات العامة: تفسيراً، وتحليلاً، واستلهاماً؛ متحرراً من الانزواء في دائرة الخصوصية المتوهّمة، ولدى هذا الناقد من الانفتاح الفكري، والتواضع المعرفي ما يُهيّئه دائماً للتعلم من الجميع؛ دون أحكام ثقافية مسبقة، وهو في تحليله للظواهر المجتمعية يحترم كثيراً منطق الرقم؛ ولهذا ستجده يتوقف في كتابه: اليد واللسان عند ظاهرة الكتب الأكثر مبيعاً عندنا وفي الغرب، ثم يتناول كتاباً بسيطاً في بنائه المعرفي، وهو كتاب: لا تحزن للشيخ عائض القرني؛ محاولاً معرفة سبب الإقبال عليه، وعلاقة ذلك بالتوجه «الاستشفائي» عند قطاع عريض من القرّاء.
قد تختلف مع الغذامي في هذا التوجه المبالغ فيه نحو الشعبوية، وفي اعتماده كثيراً - وبخاصة في خطابه التويتري - على ثنائية: المثقفين، والبسطاء، فهو يمتدح البسطاء لعفويتهم وخفة ظلهم، ويذم المثقفين لتعجرفهم (وثقل دمهم) كما يقول، وهي نظرة لا تخلو من رومانسية تُغفل البُعد النفسي وهو المؤثر الأهمّ في تكوين هذه الصفات عند الشخص، فالتعنت والمكابرة، والتواضع والمرونة الفكرية هي في الأساس صفات نفسية وعقلية، وليست فكرية أو ثقافية، وكم رأينا من مثقفين بسطاء ومتسامحين، وكم واجهنا من «شعبيين» متعنّتين.. صحيح أن هذه الصفات تكون أكثر ثقلاً بوجود الحجج الثقافية، والاعتداد الأكاديمي الزائف؛ ولكنها في النهاية قسمة الله في نفوس عباده وعقولهم، والتقسيم الأدق ليس هو: المثقف، والبسيط، بل: العقل المرِن المنفتح، مع النفس المتواضعة؛ في مقابل الانغلاق الذهني، والنفس المتكبرة التي لا تقبل النقد.
5- النجم الثقافي:
تفاخر نزار قباني ذات قصيدة بأن الشعر قد استحال على يديه إلى خبز ساخن.. ماذا عن حال النقد مع عبدالله الغذامي؟ لا نبعد في القول إذا قلنا: إن النقد أضحى بين يديه طبقاً ساخناً مشبَعاً بالبهارات، ومليئاً بالمفاجآت، وكان غازي القصيبي قد أشار مرة إلى قدرة الغذامي المثيرة على توجيه الأنظار باستمرار إليه؛ عبر تحويل الناقد في شخصيته إلى «نجم» ثقافي واجتماعي، كما وصف محمد البنكي الغذامي بأنه: مسوِّق ثقافي يتطلع للاستحواذ على أكبر نصيب من السوق؛ ولهذا فهو مستعد لمفاجأة المتنافسين معه بتغيير قواعد اللعبة، واتخاذ مسار جديد للسباق لم يألفوه من قبل، ولم يستوعبوا بعد لوحاته الإرشادية، ومنعطفاته المرورية الحادة ! أمّا رفيق النشأة الدكتور عبدالرحمن السماعيل فيصف الغذامي بأنه: إشارة حرة؛ تماماً كما وصف الغذامي فارسه رولان بارت في كتابه: الخطيئة والتكفير، ويُتابع بأن لدى الغذامي قدرة خارقة على التحول الدائم والتطور المستمر، كما أنه مغرم إلى حد الهيام بمفاجأة القارئ من حيث لا يحتسب؛ سواء من حيث تنوع الموضوعات أو الحقول الثقافية التي يُطل على القارئ من خلالها، أو من حيث غرابة الرأي وجِدة الموقف الذي يتبناه وطرافته أحياناً.
تعطيك مؤلفات الغذامي المتنوعة تصوراً واضحاً لمدى عمقه وحيوية أفكاره؛ بالإضافة إلى ما تقدمه لك من متعة القراءة؛ ولا سيما في كتبه الثلاثة الأقل تنظيراً والأكثر إمتاعاً، وهي: الجهنية، واليد واللسان، ورحلة إلى جمهورية النظرية؛ لكن إذا أردتَ أن تلمس عياناً الحيوية الفكرية المتدفقة فارجع إلى سلسلة مقالاته التي صدرت أخيراً في ثلاثة أجزاء؛ لترى كيف تنتقل بك الصفحات من فكرة لافتة إلى أخرى، ومن تنظير نقدي إلى تحليل تطبيقي، ومن تداعيات إبداعية إلى عرض متجدد لمشاريع ثقافية متلاحقة، ثم كيف تحضر أمامك مصادر المعرفة الغزيرة والمتباعدة أيضاً؛ حتى لتعجب كيف تتآلف بين يديه، وكيف تنصهر في فكره المتسائل العميق.
صحيح أن كثيراً من هذه المقالات أخذ طريقه بعد ذلك إلى كتبه اللاحقة؛ لكنّ جمعها في سياق واحد، وبهذا التسلسل التاريخي الدقيق يقدم ثروة معرفية لمن يريد تتبع التطور الفكري عند الغذامي، ورصد المحطات المفصلية التي تكشف بدايات تململه من الوضع القائم، وتهيؤه لوثبة جديدة من وثباته الفكرية الملهِمة.
د. سامي العجلان - الرياض