(أ)
العزاءُ للدولة والوطن، لعموم المواطنين، لأهالي الشهداء الأبرياء الذين قُتِلُوا غدرًا في مسجد الإمام علي بالقديح في محافظة القطيف، في واضحة النهار، وفي حضرة الصلاة وحُرمة العبادة، والشفاء للجرحى والمصابين.
**
أعود هنا مرّة أخرى إلى دعوة الإعلام والتعليم إلى تمكين ضوابط تسدّ وجود ثغرات يمكن أن يتسلّل عبرها خطاب انقسام وانشقاق، فالإعلام والتعليم مسؤولان عن محاصرة هذا الفكر ليكمّلان جهود الداخليّة الأمنية التي لا تعزّ جهدًا في سبيل بسط الأمن وضبطه على تراب الوطن في جميع مناطق المملكة، وهو الفكر الذي له على أرض الواقع ما يمثّل تصوّراته ومقولاته وتحريضاته، الفكر الذي لا يريد الحياة، ويأخذنا مع أوهامه للموت، تحت فكرة إرهابيّة في تصوّراتها واختزالاتها وعنصريّتها المذهبيّة، فكرة ضدّ الدولة، فكرة ضدّ الإِنسان.
نستمرّ في بحث هذا الموضوع تعزيزًا لخطاب المواطنة السعودية والوحدة الوطنيّة في محاولة ضروريّة لإثبات علاقة الهُويّة الوطنيّة وتمكينها على (الأصول المتبادلة بين الحقوق والواجبات المتساوية)، فأنت لا تعدم - حتّى اليوم- أن تجد مجموعة من المواطنين الذي يعتقدون بجدّية تامّة: (أنّ الوطنَ يخصّهم فقط، دون باقي المكوّنات) وفي الوقت عينه يرفضون الخطاب الإقصائي ولا يشعرون أبدًا بمسؤولية ظنّهم في تأجيج خطاب التحريض والإقصاء.
**
على أثر العمليّة الإرهابيّة في القديح - التي نالت أبرياء وهزّت الوطن بفاجعة لا يصطبر على ألمها إلا عبر الوحدة الوطنيّة حكومة ومواطنين في مواجهة خطاب التحريض والعنف وتصوّراته الطائفيّة والعنصريّة- خرجت إعلاميًا بعض التصوّرات التي وقفت عند إحالة هذه العملية الإرهابيّة الدمويّة إلى جهات أخرى خارجيّة، ويُخشى من الوقوف الحصري عند هذا التصوّر أن يبعد عن تشخيص الواقع وتحمّل تبعاته ومسؤوليّاته، والابتعاد عن ضبطه ردعًا بما يحول دون الوقوع في ويلاته مرّة أخرى، فالظنّ الذي يفترض الإحالة حلاً يرى العملية من شقّها الأمني فقط، والواقع أن الأمن أحكم قبضته، ولا نراه يغفل عن الردّ والتحوّط من المخططات الخارجيّة لضرب الوحدة الوطنيّة والسياسيّة في البلاد، وقد أعلن بشفافيّة وسرعة في إنجاز التحقيقات الأولية: إن الفاعلين مواطنون ينتمون إلى خلية تابعة (للدولة الإسلامية العراق سوريا: داعش)، وهذا الانتماء إلى (داعش) -والذي هو انشقاقٌ صريحٌ عن الدولة وسلمها الأهلي- لا يعني أن الجهة المنفّذة خارجيّة فقط، فتشخيص الخطر الخارجي دون الوقوف على الخطر الداخلي فيه تخفيف عن مسؤوليّة المنفّذين والمحرّضين والمؤيّدين، وفيها إخلاء لمسؤولية انتشار مقولات الخطاب الديني-السياسي التي تتسلّل إعلاميًا وتعليميًا، فما وقع قد حدث بأيدي أفراد تنازلوا عن انتمائهم للدولة، تنازلوا عن وجودهم الإِنساني، وربطوا انتماءهم بما هو خارج فكرة الدولة، وخارج فكرة الإِنسان، ولذلك، فإن تشخيص المجزرة الإرهابية يبدأ مع تشخيص الحالة التي سمحت لهذا الإرهابيّ أن يقوم بهذه العملية الدمويّة، وهو ما تؤكّده وتعمل عليه السلطة على أرض الواقع عبر حزم الداخليّة في محاصرة الإرهاب أمنيًّا، وما يحتاجه جهد محاصرة الإرهاب من تجفيف منابعه عبر التشريعات التي تردع وجود مقولات الخطاب الديني-السياسي، التي تنصبّ في التحريض والعنصريّة الدينيّة في أجندة انشقاقيّة لا تريد السلم الأهلي والوحدة السياسيّة لبلادنا العزيزة بأمنها ووحدتها السياسيّة.
(ب)
حينما يتوقّف خطاب المواطنة السعوديّة عن مواصلة مسيرته ومطالباته عبر القنوات والمنابر الإعلامية والتعليميّة فإنه يمنح الفرصة لخطابات لا-انتمائيّة تستغلّ غياب خطاب المواطنة لخلق (انتماء وهميّ يُغرّر به العديد من المواطنين)، لا يعد كونه بين تصوّرين وحالتين: فإمّا هو ادّعاءٌ لانتماءٍ عربي أو إسلاميّ، وهما غير موجودين إلا عبر أجندات سياسيّة لها أهدافها التقسيميّة، وهو ادّعاء فوق الانتماء. أو يكون ادّعاء (قبلي، مذهبي) يستغلّ التعدّد الوطني ويعمل على تشتيته وتفكيك لحمته وقوّته، وهو ادّعاء دون الانتماء، فكلاهما ليس انتماء سعوديًا، وهما في حالة من التعارض معه، وحالما يحلان في المرء يفقدانه الانتماء الوطني، نظرًا لتعارض الأجندة السياسيّة والنفعيّة بين الانتماء الوطني ومفاهيم المواطنة السعوديّة، وبين الانتماءين الوهميين.
**
المواطنةُ إنتاج عقدٍ واقعيّ يقوم على مبادلة بين الحقوق والواجبات، فالأصل في الانتماء يولد في المرء - الفرد عبر مجموعة الحقوق التي تُفضي عليه منفعة وخيرًا، وهذه الحقوق تُربّي انتماءَهُ للبيئة المنتجة لها، لذلك فإن الانتماء الناجم عن حقوقٍ يُولّد التزامًا بواجبات هي موجبات انتمائه وحافظة لحقوقه، هكذا تكون المواطنة نتيجة المبادلة النفعيّة بين الفرد والمكان الذي ينتمي إليه، عبر مبادلة الحقوق والواجبات على قاعدة متوازنة ومنسوبة إلى المساواة والعدل التشريعيّ، ويأتي على رأس هذه الأصول التبادليّة بين الحقوق والواجبات ما يمثّل أسبابًا مدنيّة وقويّة في تمكين المواطنة المدنيّة المعاصرة: (1) حقّ سلامة النفس وأمن وكلّ ما يتعلّق بها، (2) حق حريّة المعتقد والتعبير، (3) حقّ التملّك وحماية الملكيّات؛ وهي حقوقٌ كُلّما كانت مُشرّعة بالمساواة لعموم المواطنين كانت هذه الأصول تبادليّة نفعيّة: بمعنى أنّها حقٌّ وواجبٌ في الوقت نفسه، فإذا اتّفقنا أن الحقوق العليا للفرد بوصفه مواطنًا قائمة في: (أمنه، حريّته، وملكياته)، ففي الوقت عينه فإن واجباته العليا تُلزمه إلا يقوم بأيّ فعل يخترق هذه الأصول الحقوقيّة الثلاث بوصفها حقوق للغير، وإلاّ فإنه قد فرّط في حقوقه، وبالتالي جرح المواطنة والانتماء، واخترقَ عقدًا وطنيًّا.
وهذه الأصول الحقوق التبادليّة مسؤولة عن تمكين مفهوم المواطنة أو التفريط بها، بحيث كلّما تحقّقت المساواة فيها تنفيذًا في الواقع بنسب عالية كلّما ازداد الانتماء والارتباط؛ وشيءٌ من هذا الاشتراط يدلّ على المواطنة القائمة على الوجود الإنساني على أرض الوطن (المبنى) عبر روابط المنافع والمصالح المشتركة والتعايش السلمي، وليس عبر أي روابط أخرى محلّها أوهام العرق الضيّقة، أو محلّها التعصّب المذهبي.
(ج)
ما معنى (العربيّة، السعودية) في مفهوم مسمّى الدولة، ما هو مفهوم (مسمّى الدولة) بصفة عامّة، وما علاقة المسمّى بالمواطنة القائمة على الحقوق المتساويّة، التي لا يتمايز فيها مواطن عن آخر لأسباب عرقيّة ودينيّة وطبقيّة؟
مفهوم مسمّى الدولة في الاتجاه السياسي الواقعي، هو مفهوم وعائي انتمائي لأجل تمكين المواطنة المدنيّة المعاصرة، التي تعتمد على الجنسيّة بناءً على منظومة من الشروط الواقعيّة، التي توجد في خانة الأعمال الإراديّة للإِنسان، فهي منظومة قابلة للتحقّق الإرادي، وبعيدًا على اقتصار مفهوم المواطنة على إثنيّة عرقيّة أو دينيّة؛ وفي إيضاح آخر، فإن المسمّى أن كان على دلالة مسمّى لشعب تاريخي (بلاد الفرنسين مثلاً) فإن المصطلح تحوّل إلى رمز جديد غير مرتبط ومرهون بمعنى المسمّى التاريخي القديم، وهو في هذا التمثيل تحوّل من تعبير عن قوميّة إلى تعبير عن جنسيّة مدنيّة، وهو تحويل وتعبير ناجم عن خطاب المواطنة القائم على الأصول الحقوقية المتماثلة بالواجبات.
حينما نحن نفهم المصطلح الأول من مسمّى دولتنا: (المملكة)، وهو الذي يمثّل شكل النظام السياسي، ويكاد لا يختلف في فهمه متعلّم أو سواه، أمّا مصطلحا: (العربيّة، والسعوديّة) فإنّنا في هذا السياق نقدّم ما يضبطهما كمصطلحين أصليين في المواطنة الواقعيّة على الأرض وخطابها، وبالتالي، فإن الاستناد إلى مسمّى الدولة أصل في الانتماءِ وأصلٌ في المواطنة، فالمسمّى عنوان نظام الحكم، والمسمّى عنوان وجود المواطنة الحديثة، وهو ضمانة: إن الدولةَ قائمةٌ على دائرتها الكبرى وقادرة على ضمّ الدوائر الاجتماعيّة داخلها دون السماح لدائرة بالتمييز على أخرى، بما يضمّن المحافظة على خصوصيّات اجتماعيّة خاصّة بالأفراد ومحيطهم دون تعميمها على جميع الدوائر، شريطة ألا ترتبط هذه الخصوصيّات على أنّها بديلة عن الدولة، وإلا وقع الانتماء في حالة (دون انتماء)؛
وكما قدّمتُ مفهوم مسمّى (عرب، عربيّة) عبر موضوعي: (المواطنة اللغوية، ومواطنة التقوى) أن دلالته محلّها اللغة كرمزٍ نعتزّ به، وليس للمسمّى أن يتحمّل تأويلاً لا يُعبّر عن مدلول المواطنة السعودية على أرض الواقع، لطالما كان العرقُ منبوذًا في الدين قبل الأعراف السياسيّة المعاصرة، إضافة إلى أن العرقَ قد فشلَ أن يكونَ ضمانة منعة وقوة ووحدة. هكذا تكون العربيّة رمزًا للمواطنة، وتكون اشتراطًا لها بفعل الواقع. أمّا مصطلح (السعودية) فهو الكيان الواقعي الذي يبني انتماءً بعيدًا عن المذهب والعرق وهو ما يحمله خطاب المواطنة السعوديّة، (فالسعودي): هو مواطن بغضّ النظر عن عرقه ومذهبه ولونه وطبقته، هكذا يكون مفهوم الدولة الحديثة أقرب إلى القوّة لأنه يعبّر عن مكوّناتها ولا يختزلها ويقتصر، ذلك أن المسمّى ومعناه الواقعي هو الهوية الوطنيّة، القادرة على تخطّي القبلية والحضرية والمناطقيّة، وأي انتماءات لدوائر اجتماعية ضيقة، تمّ استيعابها جميعة في المواطنة السعودية بتجريد يتطابق فيه المعنى الوطني مع الحدود الوطنية للبلاد، وما تضمّه من مكوّنات متعدّدة.
- جدة