باهتمام ثقافي وإعلامي انطلق مهرجان بيت الشعر الأول في مبنى الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون بالدمام، مساء يوم السبت 28 مارس 2015م، وقد حفل المهرجان بفعاليات ثقافية وفنية وشعرية، وجاء الاحتفاء الأهم بالأستاذ (محمد العلي)، إذ تمّ اطلاق اسمه على دورته الأولى «دورة محمد العلي»؛ احتراما لدوره في خدمة الأدب والفكر، وترسيخا لجهوده في الحداثة والثقافة، والتأسيس لهما عمقا وأصالةً.
وقد تزامن مع هذا الاحتفاء إصدار كتابين؛ أحدهما: كتاب «تلك الزرقة التي علمتنا الأناشيد»، وهو كتاب شهادات، وثانيهما: ديوان شعر بعنوان «لا أحد في البيت»، انتخب النصوص وحرّرها : أحمد العلي، وقد تلقى الجمهور الثقافي هذين الإصدارين بلهفةٍ أدبية، وشغف ثقافي؛ احتفاءً بالقراءةِ عن هذا الشاعر المترسخ في الوجدان الجمالي وطنيا وعربيا.
بدايةً أسجّلُ بكلّ احترام وتقدير كلمةً في جهود الشاعر المهندس أحمد عبدالسلام العلي - - (وهو ابن أخ الأستاذ محمد العلي) – فما بذله من جهد مرهقٍ في جمع مقالات الأستاذ العلي ومقولاته، وأوراقه ومحاضراته في كتبٍ ونشرها في دور نشر متخصصة عبر مؤسسات ثقافية محترمة، مثل: (نمو المفاهيم)، و(البئر المستحيلة)، و(هموم الضوء)، وغيرها لهو عملٌ يستحق التقدير والاحترام، فله بالغ الشكر والامتنان والثناء العاطر.
تأتي هذه المقالة في إطار إعلان موقف أدبي من الطريقة التي تم بها نشر ديوان «لا أحد في البيت»، فمع ما تشاهقَ من فرح وعنفوان في الوسط الثقافي لصدور الديوان إلا أنّ الصّدمةَ كانت هي سيدة اللحظة، إذ ما إن أخذ كلُّ قارئ عدّته الجمالية لقراءة ديوان «لا أحد في البيت»؛ فإذا به يُصدمُ بأنه يقرأ ديوانا عليه اسم محمد العلي، ولكنه ليس له؛ أي أنّ الشعر شعره، ولكنّ الديوان ليس ديوانه، وهذه مفارقة صادمة تلاشى معها ذلك الفرح، وتوارى معها ذلك العنفوان وراء تداعي الأسئلة، وجحيم الحَيْرة: ما الذي حدث يا ترى؟ ما الذي يجري؟ أ تُرى أن الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون بالدمام تريدُ إصدار ديوان للشاعر «محمد العلي» وبالخطأ أصدرت ديوانًا لشاعرٍ (آخر)، هو أحمد العلي؟ هل أنّ ما حصل من تشويه أدبي للديوان، ومن عبث تحريري بعلمٍ سابق من إدارتها، أم دون سابق علم، ولسان حال القرّاء:
فإنْ كنتَ لا تدرى فتلكَ مصيبةٌ
وإنْ كنتَ تدرى، فالمصيبةُ أعظمُ
لن أحاولَ الإجابة عن جميع أسئلة هذه الصدمة، ولن أستطيعَ مناقشة جميع الإشكاليات التي أثارتها خطوة «محرر الديوان»، ولكنني سأحاول الإجابة عن بعضها، وأناقش جزءا من الإشكالية؛ متناولا ما أسماه «المحرر» بـ»مفتاح» الديوان أولا، ثم متناولا بعض النماذج مما يعدُّ شواهد وأمثلة على ما أسميته العبث الأدبي!!
تظلُّ الأسئلةُ تتناسلُ معَ قراءةِ ما أسماهُ الشاعر المهندس أحمد عبدالسلام العلي بـ(مفتاح) الديوان، فإذ به يقولُ جَهَارًا نهارًا لا خائفًا ولا وجِلا:»لا أحدَ في البيت هذا ما غنمتُه، (خَالفتُ) في (تحريري) لهذا الكتاب، و(انتخابي) لما فيه ما هو معمولٌ به في صَنْعَة (التّحرير).. لا (أَبْتَغِي) عرضَ أشهرِ قصائدِ الشّاعر، أو إبرازَ ما (يَستهويني) منها.. تظهرُ نصوصُ الشّاعر هنا بوصفها حُلمًا، حُلمٌ (غزلتُه لنفسي)، فعلَ (قراءتي)..»!!
إنّ الوقوفَ على تفاصيل هذا العبثِ الذي يسميه أحمد العلي «غَنيمَتَه» يحتاجُ إلى جهدٍ ووقتٍ مُضاعفين، إذ إنه في هذا التصرف يُجاهر بـ»اعتدائه» على ما استقرّ عليه العُرْف الأدبي، وقوانين حقوق المؤلف، فهو يقولُ:»خالفتُ ما هو معمول به في صنعة التحرير»، فهي مجرد «مخالفة»، يقولها مطمئنا إلى أن هذا العبث ليس سوى مخالفةٍ، ولا أدري هل لدى الجمعية العربية السعودية قوانين ثقافية تُقرُّ هذه المخالفة، ألم يُعرض هذا «الديوان المخالف» على لجنة متخصصة في صنعة التحرير؛ لكي ترى هل يتلاءم هذا التصرف مع قوانين النشر المتبعة أم لا!!؟ هذا مجرد تساؤل!؟
ومحرر الديوان انطلاقا من مبدأ مخالفة «المعمول به» قد خالفَ حتى قانون توزيع «الغنائم»، فأوّل قوانينها: حمايتها، والمحافظة عليها، ورعايتها، لا تفريقها «أياديَ سبأ»، وتفريغها من قيمتها الأدبية ببعثرتها وتفتيتها و»تمزيقها» شماطيطَ و»خيوطا»؛ إرضاءً لنزعة العبث الأدبي، وابتغاءً «للاستهواء» الثّقافي بحجة أن ذلك حلمٌ قد غَزَلهُ الحالمُ لنفسه، واستهوته أحلامه في غلواء العبث، فما عليك أيها القارئ المدرّب على قراءة شعر محمد العلي أن تغفر لي أحلامي، وغطيطي في استهوائي فهذا فن من «فعل القراءة» لم تعرفه بعدُ!!
فما قام به محرر الديوان من انتخابٍ وتحرير ليس الغاية منه تلافي النقص، وتجاوز أخطاء التجربة الأولى في ديوانه الأول «لا ماء في الماء» كما هي غاية أي إصدار جديد ينشدُ التجاوز.. وإنما غايته، وآخر أحلامه هي في مخالفة المعمول به في صنعة التحرير، وإبراز ما يستهويه من القصائد، وتكريس أحلامه!! أليس هذا سابقةٌ لا أدبية، ونوعٌ من الغلو العبثي في ثقافتنا جهارا نهارا دون احترام لقراءة، أو قرّاء، أو حقوق مؤلف، أو تأليف أو تحرير!؟
فما الذي يستفيده القارئ من تصاعد هذه النرجسية الأدبية لدى محرر الديوان، وغلوّه في «التنرجس» إلى هذا الحد على حساب ديوان شعر لقامةٍ شعرية وطنية بحجم محمد العلي، وكأنه يعبث بذاكرة القراء، وأخيلتهم، وما ترسّخ في وعيهم الشعري عن هذا الشاعر الذي سكننا كالمُخَيّلة!!
ولا يملكُ محرر الديوان، وكدتُ أن أقولَ «مُحَرِّفه» إلا أن يقول لنا مُبرِّرًا تصرّفَه:»القراءةُ في جذرِها محاولةٌ للرّؤيةِ»، ولا أخفي احتفائي بهذه العبارة ذات البعد الجمالي الرائع، ولكنها تفتقدُ قيمتها حينما تُوظّفُ في مقام تبرير العبث والتحريف والتغيير والتبديل في شعر الآخرين بحجة أن ما يقومُ به هو فعلُ قراءة ذاتية لشعر شاعرٍ يسكنُ مخيلة جيل بأكمله، فَمَنْ يختلفُ مع «المحرر» في أن القراءة محاولةٌ للرؤية، ولكن عن أيّ قراءةٍ نتحدثُ، وعن أيّ رؤيةٍ نبحثُ!؟
لقد أسلم محرر الديوان نَفْسَه لنوعٍ من القراءة التي تهتكُ حياض القراءة، وتجرحُ مقام الرؤية، إنّ ما يقومُ به كما يقولُ:»سرقةٌ محترفة، وتلصص مباح»، وقد حلّلَ له المجازُ الأفعوانيّ تلك السرقة، وأباح له ذلك التلصص، وأجاز له ذلك العبث العابث في ضحى النهار وأصيله دون رِعَايةٍ لحقوق الشاعر، ودون احترام لمخيلة قرّائه على امتداد الوطن محليا وعربيًّا!؟
ولا يترددُ محررُ الدّيوان عن سبقِ إصرارٍ وترصّدٍ أنْ يعتديَ على حِمَى قصائد الشاعر محمد العلي، وأنْ يعلنَ ذلكَ في هدوءِ بالٍ، وطمأنينةِ نفسٍ على طريقةِ الشاعر أحمد العلي، وكلُّ ما قامَ به لا يعدو أنّه مزّق أشلاء القصائد ، وأبعدَ الخيوط عن أسمالها؛ لتنفتح أكثر فضائيًّا ورقميًّا وفلكيًّا، يقولُ في ثقةِ المطمئنِّ إلى فعل قراءته:»مزّقتُ أكثرَ النّصوص كالأقمشةِ، أبعدتُ خيوطًا عن أسمالها؛ لتأخذَ بُعدًا فضائيًّا، احتمالاتٍ أكثرَ، كَسَرتُ أسطرًا، ويتّمتُ أبياتًا، وأبكيتُ الخليلَ؛ ليس لأني عاندته، أنا لا أكرهه أبدًا، بل تجاهلتُه، ولم أعرْهُ خاطرِي ووجداني، قسوتُ عليه».
هكذا.. هو فنُّ التجرؤ على الشّعر والحقوقِ والمخيّلة، وهكذا هي الطريقة لمن يريدُ أنْ يتقنَ فنَّ السّطو المُهَلْهَلِ على الشعر والحقوق والمخيّلة وانتهابها وعدّها «غَنِيمَةً» من غَنائِمهِ، كلُّ ما عليه فعله أن يُمزّقَ قصائدَ الدّيوان شرَّ ممزَّقٍ، ولن أبرحَ الأرضَ حتى أسألَ «محرر الدّيوان» عن «فعلِ قراءته» للشّعر، هل هي تمزيقُ قصائد الآخرين، وبعثرة أشلائها؛ لتأخذ بُعدًا فضائيًّا وحسب، حتى ولو كان بُعدًا فضائيًّا يأخذها إلى الثقوب السوداء؟ هل التّعدّي على ما لا نملكه يُعَدُّ من «فِعْل القِراءة»؛ بغيةَ أن تأخذَ احتمالاتٍ أكثر؟
هل ترصّد أبيات الشعر وتعمّد خلخلتها إيقاعيا، وكَسْر عَرُوضِها الخليليّ، وتشتيتها في بيداء الأوهام من «فعل القراءة» أيضا؟ متى كان الإخلال بأبنية الإيقاع عَمدًا، وتحويل الإيقاع «الخليليّ» إلى إيقاعٍ «تفعيليّ» شكلاً لا مضمونًا من «فعل القراءة»؟ وكيف استساغ المحرر أن «يمزق» الإيقاع والموسيقى والوزن والعروض؛ ليأخذ الشعر بعدا فضائيا، واحتمالات أكثر؟ كيف رأى المحرر أن دمج أبيات من قصائد متفرقة في بعضها البعض، ولملمة بعضها من هاهنا وهناك، وتوزيعها بناءً على «قانون العبث الاستهوائي» بأن ذلك يُعدُّ من فعل القراءة؟ وهل أن إبكاء الفراهيدي وتجاهله كنايةً عن امتعاض الشاعر المحرر من «الغول العروضي»، واستيائه من ولع المسلوبين به يعدُّ أيضا من «فعل القراءة» التي صدّع المحررُ بها رؤوسنا، ولم نرَ قراءة ولا هم يقرؤون، ولم يدرِ المحرر أنه بفعله هذا قد أبكى الخليل، وشارل بودلير، وأدونيس، و»مِسْحل بن جَنْدَل» شيطان الأعشى!؟ ولم يدرِ أيضا أن الأستاذ العلي قد قال أكثر من مرّة أن بناءه الشعري «بناءٌ عموديٌّ»؛ أي أنه «بناءٌ خليليٌّ»، ولم يُعقْه ذلك – فنيًّا - عن كتابة «قصيدة التّفعيلة»، و»قصيدة النّثر» بإحساسٍ مرهفٍ، وشعريّة شاعرة، وإنْ كانَ له موقفٌ نقديّ صريحٌ من مصطلح «قصيدة النثر»، وأساليب كتابتها.
ويختمُ الشّاعرُ المحررُ أحمد العلي «مقدمته المفتاح» بأن اقترحَ – متفضلاً - على القرّاء؛ تخفيفًا عليهم من هول الصّدمة أنّ «مَنْ يتغيّى فَهْمَ ذهنيّةَ بناءِ الشّاعرِ لقصائده، وتفكيك تجربته الشعرية.. أو للبحث والتوثيق، فعليه قراءة الديوان الكامل لا ماء في الماء»!!
إنّ هذا لهو العجب العاجب؛ مع أنني لم أستسغْ هذا العجين اللغوي «مَنْ يتغيّى فَهْمَ ذهنيّةَ بناءِ الشّاعرِ لقصائده» إلا أنني سأجتهد في توضيح ما أظنه قصده، فقد فهمتُ منه بعد عناء طويل، بأنه يريدُ أن يقولَ: أيّها القرّاء - نداءٌ هامٌّ - مَن يريدُ منكم فهمَ ذهنيّةِ الشّاعر محمّد العلي، ومعرفةِ بنائهِ الشّعري، ومن يريدُ منكم تفكيكَ تجربته الشّعريّة، أو الرّجوعَ إلى شعرِه بغرضِ البحثِ والتّوثيق فعليكم بقراءةِ «ديوانه الكامل»، هكذا واللهِ يقول أحمد العلي (ديوانه الكامل)، وهو يعني به (لا ماء في الماء)، ومن المفروض أن أحمد العلي خير من يعلم أنّ ديوان (لا ماء في الماء) ليس كاملا، ولا هو بالكاملِ، وهذه جنايةٌ تتعلقُ بدقّة المعلومات، ولكنها تعدُّ أخفَ الأخطاءِ وأيسرِها، أما هذا الديوان «لا أحد في البيت» فهو فرصةٌ لأحلام أحمد العلي وأوهامه، وهو غنيمةٌ من غَنَائِمه لا يشارِكُه فيهَا أحدٌ، فهو «مِرْبَاعُهُ وَصَفَايَاهُ» على حدِّ تعبير الشّاعر القديم!!
ويقولُ مُتجنّيًا:»وبقي أنْ أقولَ إنني قد اخترتُ هنا أيضًا مقاطعَ من (ثماني عشرةَ نصًّا) لم تُدرج في الديوان آنف الذّكر».
فالشاعر أحمد العلي لديه ثمانيةَ عشرَ نصًّا شعريًّا من قصائد الأستاذ محمد العلي لم يطلع عليها القارئُ في ديوان «لا ماء في الماء»، فبدلاً من أنْ يقومَ المحرّر بنشرها كاملةً تامّة؛ حتى تكونَ له ولو إضافة تحريرية؛ وليتسنى للقارئ قراءتها، صرّح المحرر بأنه لم ينشرها كاملةً، وإنما تفضّل مُتَجنّيًا، واختار منها مقاطعَ، ولا أدري لماذا اختار منها مقاطع، وعلى أي رؤيةٍ فنيّة اختارها!؟
ما حصل لهذا الديوان من تمزيقٍ وتبديدٍ تَعَسُّفٌ أدبيّ لا أدري كيف قبلت به إدارة المهرجان، بل كيف قبلت به إدارة الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون - فرع الدمام!؟ وما لم يصدر عنها توضيحٌ تظلُّ شريكة مع محرر الديوان في استساغة العبث باسم الاحتفاء، وفي تمرير التحريف باسم «فعل القراءة ذات الرُّؤية» الفضائيّة!؟
كنتُ أتوقع من الشاعر أحمد العلي أن ينشغلَ بترجمة بعض شعر محمد العلي؛ لكون الترجمة إحدى اشتغالاته، والترجمة هي في جذرها «فعل قراءة» و»رؤية» يمكن أن يرى من خلالها المترجم أحلامه ورؤاه فنيا وجماليا، لا أن يبيحَ لنفسه ما لا يباحُ، ولا أن يستبيحَ شعر الأستاذ محمد العلي؛ رغبةً في الاستباحة.
يقول أحمد العلي - يا جمعية الثقافة والفنون -:»لقد أبحتُ لنفسي ما لا يُعقل، ولا يجوزُ ما قدْ يُغضبُ محبّي الشّاعر، أو المسلوبين بذاك الغُول في ليلِ الشّعر؛ أعني العروض»، يقولُ قَولَه كلَّه: وهو يضحك، ويلهو، ويلعبُ، بل ويُرَاهِنُ في كل ذلك.. على حساب المسؤولية والمناقبية الأدبية؟؟
نعم إننا غاضبون يا جمعية الثقافة، وغاضبون جدّا.. ليس فقط حُبًّا في الشاعر، واحترامًا لشعره، بل نحن غاضبون؛ لأنّ ثمّةَ عبثًا قد وقعَ في شرق الوطن لا يقبلُ به غربه ولا شماله ولا جنوبه، لقد تمّ الاعتداء على مُخَيّلة جيلٍ أدبي بكامله، ولا بدّ من عودة رمانة الميزان إلى موقعها!؟ ولا بد أن يعودَ الاحترامُ لتجربة محمد العلي الشعرية إلى موقعه، ولا بدّ أن نظلّ غاضبين حتى إشعار آخر!!
جابر عبدالله الخلف - الأحساء