نواصل مع دراسة بروفيسور مليكة زيغال:
ويرى كريسيليس أنه، بحلول نهاية الستينيات، بدا من الواضح أن العلماء لن يقوموا بدور أيديولوجي نشط لرفضهم استيعاب التحديث: «لقد نجح العلماء في تأخير التحديث في مصر. ونتج عن ذلك التأخير ضرر هائل للإسلام والعلماء، وأصبح الشيوخ معزولين تماما عن قطاعات المجتمع التي تمر بعملية تحديث، وأصبحت وجهات نظرهم التقليدية مرفوضة تماما تقريبا».(10)
ما أسماه كريسيليس، في عام 1972، «استسلام العلماء للدولة» (11) كان، في الواقع، فترة خضوع «مؤقتة وسطحية» تعلّموا خلالها، بذكاء، كيف يعملون كجزء من البيروقراطية الحكومية. إن عدم قدرة العلماء على إنتاج رد أيديولوجي على الثورة الناصرية لا يعود فقط إلى عدم امتلاكهم وسائل لإنتاج أيّ رد فعل في مجال الأفكار؛ ولكن يعود، أيضا وغالبا، إلى أن القيود السياسية المحيطة بهم كانت خانقة للغاية في ذلك الوقت. ونظرا لكونهم سُلبوا قوتهم الاقتصادية والسياسية، لم يكن أمام العلماء أيّ خيار سوى الرضوخ لمطالب النظام الناصري، حيث أصبحوا يصدرون بفتور - وأحيانا بحماس - فتاوى لشرعنة سياساته. وتبدو المعارضة الأيديولوجية للإصلاح، والتي كانت لا تزال موجودة خلال الخمسينيات (12)، كما يتبيّن من مقالات بعض العلماء في «مجلة الأزهر»، متناقضة تناقضا حادا مع الخضوع السياسي الظاهري للعلماء في الستينيات.
لقد قام النظام الناصري، في يونيو 1961 قبل فرض القوانين الاشتراكية، بإصدار قانون لإصلاح الأزهر يتكون من شعبتين. أولا، قام هذا الإصلاح بتحديث «مضمون» المعرفة التي يتم بثها في معاهد وجامعة الأزهر، حيث جرى إدخال موضوعات جديدة مثل العلوم الطبيعية والرياضيات والجغرافيا في المناهج الدراسية إلى جانب الموضوعات الدينية في المعاهد التي ستحل محل هيكل الدراسة الدينية التمهيدية القديم المسمى بـ«الكُتَّابْ». وعلى مستوى الجامعة، تجلى الإصلاح في فتح كليات حديثة (مثل الطب والصيدلة والهندسة) في القاهرة، وفي عواصم المحافظات الكبيرة لتكون بجانب الكليات الدينية (الشريعة وأصول الدين واللغة العربية) (13). ثانيا، قام قانون 1961 بإعادة هيكلة إدارة الأزهر وجعلها خاضعة تماما لرئيس الدولة.
لقد كان إصلاح 1961 الناصري يهدف، في الواقع، إلى أكثر من فرض سيطرة مُحكمة ومُباشرة على المؤسسة الدينية؛ فمن خلال إدخال معرفة حديثة وجهاز بيروقراطي تدّعمه الحكومة وتسيطر عليها الدولة، كان يمكن لناصر «تركيع العلماء» بدون إبادتهم تماما. فقد كان النظام الناصري الثوري بحاجة لشرعية دينية يمثلها علماء دين تابعون للدولة، بغية التصدي للنفوذ السياسي للإخوان المسلمين وصنع توازن في العالم الإسلامي مع النظام السعودي «الإسلامي». وكان عبد الناصر يأمل في أن الأزهر، بعلمائه، يستطيع تحقيق هذا الهدف السياسي الناصري إذا جرى إصلاحه إصلاحا صحيحا.
تأسيس الاحتكار الديني الأزهري
وضع ناصر، أولا، اللمسات الأخيرة لإصلاحات القرن الـتاسع عشر عبر حرمان العلماء من استقلالهم الاقتصادي وتجريدهم من سلطتهم القضائية (محاكم القضاء الشرعي). ومن ثم - في مفارقة مدهشة - وضع الأزهر تحت سيطرته عبر عملية إصلاح غامضة. ولحرمان أية مجموعات أو مؤسسات أخرى من ممارسة سلطة دينية مستقلة، اضطر ناصر لمنح احتكار تفسير الدين لمجموعة من المتخصصين (أي علماء الأزهر) الذين يمكنه السيطرة عليهم من خلال إعادة هيكلتهم وتشكيلهم ليصبحوا جزءا من البيروقراطية الحكومية. وبناء عليه، فقد كان ناصر يؤسس سِلْكًا لرجال دين يستلمون مرتبات من الحكومة ويحتكرون الدين ويشكلون سلطة عليا فيما يتعلق بالمعرفة المقدسة، على الرغم من سيطرة الدولة على مؤسستهم. وقبل بدء هذا الإصلاح وحتى أثناء تنفيذه، أنتج النظام خطابا ينطوي على درجة عالية من العدوانية ضد العلماء والقيم والسلوكيات التي يمثلونها. ففي الخمسينيات، وخلال قيام عبد الناصر بعملية تدمير الأوقاف الإسلامية وإلغاء نظام القضاء الديني، شنّ نظامه عدة حملات صحافية ضد العلماء ليحرمهم من المنزلة الاجتماعية الرفيعة والمتعارف عليها لرجال الدين. وعلى سبيل المثال، اتهمت الصحافة الرسمية، في صيف عام 1955 وقبل حل المحاكم الدينية، كل من القاضيين الشرعيين الشيخ الفيل والشيخ سيف بإقامة علاقة جنسية محرّمة مع سيدتين متقاضيتين في دعويين منظورتين أمامهما. واستمرت هذه الحملات في الستينيات بهدف تشويه منزلة العلماء وحرمانهم من أية منزلة اجتماعية رفيعة بصفتهم يمارسون مهنة وقورة، كما يتضح من كلمات عبد الناصر: «لا يفكر الشيخ في أي شيء، ما عدا الفرخة والطعام الذي يملأ بطنه. إنه ليس سوى عميل للرجعية والإقطاع والرأسمالية» (14). وللتعبير عن معارضته لوجود منزلة خاصة لرجال الدين، قال ناصر: «منذ البداية، كان الإسلام يدعو إلى العمل، وكان النبي يعمل مثل أيّ شخص آخر. الإسلام، في حد ذاته، لم يكن مهنة مطلقا».
ولكن، على الرغم من تلك الحملات، فقد منح إصلاح 1961 العلماء - في مفارقة مذهلة - «مهنة» كانت وظيفتها إضفاء الشرعية الدينية على قرارات النظام الناصري وممارساته السياسية؛ وذلك في مقابل رواتب من الحكومة ومنزلة محترمة كـ «موظف مدني». وأصبح الأزهر تحت السيطرة المباشرة للرئيس، الذي يعيّن شيخ الأزهر؛ وتأسس «مجمع البحوث الإسلامية» كهيئة جديدة في الأزهر، أي ما يعادل «هيئة كبار العلماء». وفتحت كليات حديثة بجانب الكليات الدينية، وأصبح كل من المعلم والبروفيسور والإمام والخطيب المتعلمين في الأزهر موظفين في الخدمة المدنية ويستلمون مرتبات حكومية. وأعطى قانون عام 1961 شكلا جديدا للمعاهد الدينية التي بقيت تحت ولاية الأزهر نفسه. وفي بيروقراطية تتوسع، تَنَوَّع السلم الإداري مقدما مجموعة كبيرة من الوظائف الإدارية للعلماء. هذه الوظائف في الأزهر كانت، كمثيلاتها في الجامعات الحديثة، مشكلة بتسلسل هرمي. واستقبل المشايخ الوظائف الدينية والوظائف الإدارية (البيروقراطية) الجديدة استقبالا حسنا جدا، خصوصا لأنها تؤكد الهُوية الإسلامية للأزهر. وكما وصف لي أحد المشايخ الوضع بأثر رجعي:
«قالوا إنهم سيحوّلون الأزهر إلى جامعة حديثة... ولو تأملتَ جميع الخريجين من الجامعات المصرية، فستجد أن أكثر من نصفهم أقباط... ويتمتّعون بوضع اقتصاديّ جيد جدا... الأزهر للمسلمين، وسيبقى للمسلمين. وبالنسبة إليّ، كان هذا الأمر مطمئنا جدا. لقد كان مشروع تطوير الأزهر مفيدا للغاية. ففي جامعة الأزهر، لا يمكن لقبطي أن يضع قدمه».(15)
ومن هنا، يتضح أن مشروع ناصر لتطوير الأزهر كان غامضا منذ البداية؛ فالقانون الجديد أخضع العلماء للدولة إخضاعا أكثر وضوحا من ذي قبل، ولكن في مقابل ذلك أعطاهم الموارد الإدارية وأسس لهم «منبرا سياسيا»، والذي من خلاله كان عليهم - خلال الحقبة الناصرية - أن يكتفوا عبره فقط بإضفاء الشرعية على النظام. لقد انتقد النظام المشايخ علنا؛ ولكنه أيضا حاول أن يقنع المشايخ بشرعية تطوير الأزهر، عبر إعادة تأكيد هُويته الإسلامية وتعزيزها.
المعرفة الدينية مقابل المعرفة الحديثة:
ما هُوية الأزهر؟
يتضح غموض الإصلاح الناصري للأزهر حتى في مجال التعليم. لم يساند النظام الناصري الاقتراح الذي تقدّم به طه حسين، عام 1955، من أجل إلغاء الأزهر تماما. لقد كانت فكرة وزير المعارف السابق هي بتر نظام «الكُتَّابْ» والمعاهد الأزهرية القليلة في ذلك الوقت، وتحويل جامعة الأزهر إلى كلية دينية بحتة يتم استيعابها في إطار النظام الجامعي الحديث. وبالنسبة إلى طه حسين، كان ينبغي زرع الأزهر في نظام التعليم الحديث؛ ولكن فقط كـ «مؤسسة للدراسات الدينية العليا». وينبغي إلغاء نظام التعليم الأزهري الابتدائي والثانوي، وكذلك إلغاء «إدارة الأزهر» نفسه.
النظام الناصري يؤسس
الاستخدام السياسي للأزهر
ولم تكن مقاومة العلماء الشرسة (16) لاقتراح طه حسين هي السبب الرئيس لعدم العمل به وإدخال إصلاح من نوع آخر؛ بل كان السبب هو أن نظام عبد الناصر قد بدأ يستخدم الأزهر، بالفعل، كرمز للاستقلال الوطني. لقد منح الاستخدام السياسي لمنبر الجامع القديم شرعية دينية لناصر، واستمر في إثبات فائدته للنظام. ومن ثَمَّ، كان ينبغي أن يبقى الأزهر كمؤسسة وطنية. وهكذا، بدلا من زرع التعليم الديني في «العالم الحديث» ، كما اقترح طه حسين، كان الحل الذي اُعتمد هو توسيع مؤسسة التعليم الديني؛ وذلك عبر إضافة المعرفة الحديثة إلى المناهج من المرحلة الابتدائية إلى التعليم الجامعي العالي، وإضافة كليات علمية حديثة.
طالب الأزهر:
من «المجاور» إلى الطالب الحديث
عشية إصلاح 1961، كان جميع طلاب جامعة الأزهر، الذين ينحدر معظمهم من أصول ريفية وأوساط متواضعة، يتخصّصون في المعرفة الدينية. ومنذ تأسيس الجامعات الحديثة بمصر، بدأ أبناء العائلات الأزهرية الثرية وبناتها يتوجهون إلى تلك الجامعات الحكومية الحديثة. وهكذا، تُركت المعرفة الدينية لأولئك الذين لم يتمكنوا من حضور المدارس الحديثة، أي «المجاورون»؛ وهم أولئك الذين عاشوا بجوار المسجد الأزهر أو حول أروقته في مركز القاهرة القديم، وعندما كانوا أطفالا درسوا في «كتاتيب» قراهم، حيث حفظوا القرآن الكريم عن ظهر قلب، وفي حوالي سن الثانية عشرة درسوا في أحد معاهد الأزهر في القاهرة أو طنطا أو مدن المحافظات الرئيسة الأخرى بعدما اجتازوا الامتحان الشفهي. وبدأت عملية تحديث التعليم في مصر تُخفض منزلة الطالب الأزهري، لأن المنهج الديني الأزهري حرمهم من الوصول إلى سوق العمل مقارنة بالطلاب الذين تلقوا تعليمهم في الجامعات الحكومية الحديثة؛ وهو ما خلق الكثير من الاستياء في نفوس طلاب الأزهر بالنظر إلى هبوط منزلتهم في سوق العمل. ونصّ قانون 1961 على أن الإصلاح يهدف إلى رفع منزلة الطالب الأزهري، ليصبح مماثلا لوضع طالب الجامعة الحديثة (17)؛ وهو التبرير الذي يعدّ بالنسبة إلى النظام طريقة أخرى لإضفاء الشرعية على إصلاح الأزهر في مواجهة معارضة بعض العلماء. ولتحقيق هذا الهدف، استولت المعاهد الدينية - من عام 1961 فصاعدا - التي أنشئت في عام 1930 على «الكتاتيب». ولم يعد «الكُتَّاب» القناة الوحيدة لتعليم الطلاب الأزهريين. لقد قدّمت المعاهدُ المعارفَ الحديثةَ والدينيةَ على المستوى الابتدائي والثانوي، وأعدّت طلاّبَها لدخول الكليات الدينية أو الحديثة في الأزهر، وَوَحَّدَ النظامُ المدارسَ الابتدائيةَ والثانويةَ الأزهريةَ لتصبح مركزية وتحت إدارة المعاهد الأزهرية التي كانت واحدة من خمس إدارات أزهرية.
يتبع ....
ترجمة وتعليق: حمد العيسى - المغرب
Hamad.aleisa@gmail.com