جريدة الجزيرة هذه هي بنت مجلة الجزيرة التي أخلت الطريق لابنتها حين صدور نظام المؤسسات الصحفية (1963) وفي الجزيرة الأم عرفت علي محمد العمير، وزادت محبتي له لأنه من (الموسم) وهو الاسم الذي كان يتردد على لسان والدي كلما تحدث عن ذكرياته في جازان، هنا ترابطت المجلة وعلي العمير وجازان لتتشكل علاقة خاصة مع من سأعرفه لاحقاً في جدة وستحل كنيته: أبو فوزي.
ظل أبو فوزي يتجدد بسماته التي جذبتني إليه حين كان مدير تحرير مجلة الجزيرة (الأم) وهي السخرية الأدبية اللاذعة مع مهارات الثراء اللغوي ومهارات التلاعب الأسلوبي في الكلمات، فإذا أحب رأيت في كتابته أنهارا تتدفق، مع ما بين سطورها من تشعبات حتى ليسخر من نفسه ومن حياته ويجعلك تنظر فيه وكأنما يقوم بتشريح ذاكرته، إما إن غضب فسترى كيف يدير معركة الكلام ويوظف الأسلوب الساخر بعبارات لا هي قدح يمس كرامة الطرف الآخر لكنه رصاصات تأتي على هيئة حمراء تبدو ظاهريا وكأنها وردة وهي في جوفها معنى متفجر بالسخرية اللاذعة التي شهرت أبا فوزي، حتى خاف منه الناس، وهذا ما حدث لي أول ما سكنت جدة حيث حذرني أحد الأحبة من ثلاثة رجال في جدة وقال لي لا تحتك بألسنتهم مهما حدث، وذكر على محمد العمير كواحد منهم، فقلت له إني أعرفه منذ عقود، وكنت أقولها بصيغة الإيجاب لكن صاحبي ظن أني أقصد السلب، ولعلي تركته على ظنه ولم أكشف له عن مقصدي، حتى جاء يوم وقعت فيه معركة لي مع الدكتور إبراهيم الفوزان، وحينها زارني أبو فوزي في مكتبي بالجامعة وكان طربا لصوت المعارك وبارك عنفي اللفظي المهذب كما وصفه وقال أنت تذكرني بشبابي، وحينها قلت له إني أعرف شبابك، ومن تلك اللحظة صرنا أصدقاء وأحبة، وظللت أنا أتابع كتاباته في المقالات وفي الكتب، واستعنت بكثير من أقواله، ومنها ما كتبته في كتابي (حكاية الحداثة) حيث خصصت تجربته مع اكتشاف الكتابة وسيرته مع الكتب وفيها رمزية ثقافية عميقة عرضتها في كتابي.
أقول هذا عينة على كنوز كبيرة وعميقة غرسها أبو فوزي في قلبي وفي قلب ثقافتنا وتاريخنا، وهو يغيب عن صحفنا التي كانت مسرحه ومضماره لأسباب صحية أقعدته عنا ولكن إن غاب عن العين الحسية فهو في عمق أعماق قلوبنا وحسنا الثقافي والإنساني، وكتاباته مدرسة في الأدب الساخر والماتع والجاذب في خطابه وفي مقاصد تفكيره، حفظ الله لنا حسك وذكراك يا أبا فوزي.