الطبعة السابعة، الطبعة التاسعة، الطبعة العاشرة.. عبارات ترويجية يضعها الناشرون – أو المؤلفون – على أغلفة كتبهم لجذب القراء والتلويح لهم بأن هذا الكتاب مطلوب أكثر من غيره.. وقد يكون الكتاب جديداً، وقد يكون ترقيم الطبعات المتسارعة صحيحاً، وقد تكون الإشارة إلى رقم الطبعة بفلاش ضوئيّ يشع من الغلاف بشكل ملفت أكثر من العنوان نفسه ظاهرة مفيدة للقارئ وتمنحه الفرصة للحاق بما يتداوله الناس قراءة في هذه الأيام.
غير أن ذلك قد يأتي على مؤلّف الكتاب بصورة سلبية، إذ إنه - من الطبيعي - لا بدّ أن يراجع كل طبعة جديدة، بخاصة إذا كانت تصدر عن دار نشر غير الدار الناشرة للطبعة السابقة، وحتماً سيكون الإخراج جديداً مما يتطلب إعادة الفحص لتصويب الأخطاء التي يحدثها تغيير الخط من جهاز لجهاز، وحتى من ملف لملف. فالطباعة الآن لم تعد محكمة كما كانت في زمن نزار قباني - أول من اخترع تعداد الطبعات بشكل مذهل! - فبقدر تطورها التقني في تسريع عملية الطباعة أصبحت مرتبطة بالأجهزة الرقمية التي تحتاج إلى تحديث برامجها وتطبيقاتها كل حين بما يسبب (خربطة) على النسخة السابقة!
وما السلبية في ذلك؟ أقول: سيستمر المؤلف في الدوران حول كتابه بالمراجعة والتصويب وهو لم يضع مسافة أصلاً بين طبعة وأخرى، وقد كان بإمكانه أن يترك عبارة (الطبعة الأولى) كما هي مهما تكررت الطبعات فلا أحد يمنعه من ذلك، فهو الأوفر للناشر – إذا كان لم يتغيّر، كما في معظم الحالات الراهنة! - عندما يكرر طباعة كتاب كما هو (تصويراً) من دون تغيير الغلاف لإضافة الفلاش السحري (الطبعة كذا) ولا تغيير الصفحة الداخلية للعنوان.
حقيقة، قد تم ذلك مع أكثر من كتاب لي ولم أجد في ذلك نقصاً.. بل كنتُُ أشعر بالرضا أن كتبي قد أعيدت طباعتها من دون بهرجة ليس لها أي داع، وقد تم إعفائي من المراجعة لكتاب قد خرج أصلاً بعد مراجعتي الدقيقة له، ثم إن الناشر نفسه والنصوص نفسها فماذا تبقّى؟ فقط تاريخ الطبعة؛ وهنا تكمن الإحداثية التي قد تُرى خاطئة إذا ما انتبه إليها أحدٌ مصادفة.. ففي بعض كتبي من النسخ ما تحمل العبارة نفسها (الطبعة الأولى) بينما تواريخ الطبعة تختلف، فذلك متروك للناشر وله عذره من أجل المشاركة في المعارض التي تشترط أن تكون الكتب مطبوعة خلال أعوام أخيرة محددة.
وإذا رجعنا لأساسيات صناعة الكتاب وطباعته ونشره، فلا تعدّ الطبعةُ ثانيةً إلا إذا كانت ثمة تغييرات طرأت عليها، أو بتصدير جديد، أو بتقديم جديد. أما إذا كانت هي نفسها فهي الطبعة الأولى في العام كذا والطبعة الأولى في العام كذا.. هكذا أفهم العملية وأبررها!
وطالما أنني أتكلم الآن عن تجاربي مع طبعات الكتب، أحب أن ألفت الانتباه إلى أمر في غاية الروعة والفائدة.. جرّبته مرّتين.. وهو: أن أجعل مسافة زمنية طويلة بين الطبعة الأولى والثانية. وذلك يحدث فقط عندما يكون الناشر للطبعة الثانية غير ناشر الأولى؛ وقد حدث معي في الديوانين الأولين (الخروج من المرآة، والتداخلات) فقد صدرا في الطبعة الأولى عن مؤسستين أدبيتين في الرياض، عام 1997 و 1999، ثم جمعتهما في كتاب واحد صدر في طبعة جديدة عن دار نشر في بيروت عام 2009، وقد عشتُ مع الديوانين أيام مراجعة الطبعة الجديدة فترة من التأملات والوقفات والمحاسبات الضرورية للتجربة الشعرية.. مع الالتزام بالإبقاء عليها كما هي؛ مهما تكن أبعادها غير أبعادها الآن.. وجنونها غيره الآن.. والكون كله غيره الآن.. ولكنّ قاموس المفردات هل تغيّر؟ نعم تغيّر، فهل تطوّر؟ ربما تطوّر إلى الأهدأ، والهدوء الإبداعيّ الأنضج قد لا يجذب القرّاء الجدد!
أسوقُ هذه التساؤلات والاحتمالات الآن لأنني غارق في مراجعة وتصويب الطبعة الثانية – وهي فعلياً الرابعة إذا أردنا تكرار الطباعة فقط – لكتاب (نصف الكتابة – الجزء الأول) الصادر أول مرة في العام 2004 عن إحدى دور النشر في بيروت، وقريباً سيصدر في طبعة جديدة عن دار أخرى في بيروت أيضاً.. فلقد وقفتُ في هذا الكتاب على نصوص لم أكن قرأتها منذ أحد عشر عاماً حتى نسيتها تماماً، والآن من أجل المراجعة والتصويب أجدني أعود في كل جملة إلى النسخة المتبقية من الطبعة الأولى مذهولاً: هل أنا كتبتُ هذا؟ يا الله.. كم كنتُ أنا منذ زمنٍ، وأحسبني الآن تكوّنت!
الخلاصة: ترك مسافة بين الطبعتين، أقلّها عقدٌ كاملٌ من السنين، هو أصدق طريقة تضع المؤلف في كل دورة واسعة من الزمان أمام مرآة أعماله وقناعاته.. إمكاناته وذائقته.. حاضرها وماضيها؛ فقد يسأل نفسه هذه الأسئلة: لو لم أكتب هذا في ذلك الزمن هل كنتُ سأكتبه الآن؟ وهل أستطيع أم سأفشل؟ هل سأعتزّ به أم سأخجل؟
والسؤالُ الأخطر، والذي لا يكون إلا في حالات نادرة من نعمة النسيان: ماذا لو كان هذا الكتاب ليس كتابي، هل سأتمنى أن يكون كتابي؟
ويلغي ذلك كله اعتبارٌ جديدٌ أصبح تقليداً راهناً، لم أستطع حتى اللحظة الاعتراف به أو التعايش معه، وهو: تخصيص كمية كل طبعة بحسب العدد المتوقع للزائرين في كل حفلة توقيع بكل معرض للكتاب!
- الرياض
ffnff69@hotmail.com