من آخر ما نشر العالم الموسوعي وعميد الرحالة العرب الشيخ محمد بن ناصر العبودي من كتبه عن الرحلات هو كتاب (السفر والأوبة من كوبا) - 234 صفحة – والذي يحمل رقم (121) مما طبع له عن الرحلات. طبع الكتاب عن طريق دار الثلوثية للنشر والتوزيع بالرياض عام 1435هـ/ 2014م، أهداه لزواره في جلسته الأسبوعية – الاثنينية – بين صلاتي المغرب والعشاء وكان الدافع لهذه الرحلة اقتراح من الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله –. بدأت قراءته ولم أستطع الفكاك منه قبل أن أنهيه في جلستين، ووجدت فيه وصفاً دقيقاً إذ لم يسبق لي أن قرأت مثله عن هذه المنطقة البعيدة، فيجدر بي أن أشرك القارئ ولو بجزء بسيط مما علق بالذاكرة، وقد بدأها الشيخ العبودي مع مندوب رابطة العالم الإسلامي (رحمة الله بن عناية الله) وقد أشاد باستقبال رجال الجوازات والأمن بمطار كوبا، وقال بوصف دقيق: «.. وجاء ضابط أكبر في سنه وفي مظهره، وهو أبيض كأنه سوري أو لبناني فحيانا بأدب ثم تركنا مع الضابطين اللذين أدخلانا دون سوانا في مكتب لا يقف أمامه أحد، وأخذا يتأملان الجواز والتذكرة حتى أن أحدهما ظل فترة يملي على الآخر خط السير الموجود في تذاكرنا وهو خط طويل، وهما يتعجبان من ذلك، ويقولان لنا: أتذهبون إلى كل هذه البلدان؟ فقلنا: نعم، ثم ختما الجوازين، ورحبا بنا ترحيباً حاراً وهما يودعاننا.. » وقال أن أصل معنى كوبا التي زارها في الفترة فيما بين 10 – 14 ذي الحجة 1420هـ/ 2000م، أن كولومبس عند اكتشافه لأمريكا رأى أجزاء من جزيرة (كوبا) أول ما رآه من أرض العالم الجديد، وكان يرافقه طائفة من المغامرين وصفوا ما شاهدوه قائلين (قبة، قبة!) بلغة عربية فحرفها الأسبانيون وأسموا المكان (قبه) أو (القبة) التي أصبحت بعد ذلك (كوبا) لأنهم شاهدوا قمة جبلية في جنوب الجزيرة كالقبة البعيدة..
وقال وهو ورفيقه في طريقهما إلى (البيت العربي) الذي يجتمع فيه المسلمون من غير الكوبيين للصلاة: «.. ثم نزلنا نتمشى على أقدامنا في شارع ضيق قديم ولكنه جيد قد رصفت أرضه مثل المنطقة التي يقع فيها من المدينة بالحجارة الصغيرة بديلة من الزفت وهو ذو أرصفة جيدة مصونة، بل معتنى بها مما جعلني أعجب، بل يطول عجبي من كون كوبا خرجت عن القاعدة التي تكاد تكون عامة في الدول الشيوعية والتي كانت شيوعية مثل روسيا التي تجولت في أنحائها وكتبت عنها كتباً بلغت العشرة أو كادت، فرأيت الشوارع والأرصفة فيها مهملة، بل هي مكسرة ومحطمة وبعضها تلف حتى صار لا يوجد في زفته شيء، فالشوارع فيها الحفر والنقر، والأرصفة حلت محلها أرض ترابية سيئة المنظر.
أما هافانا فإن كل شيء فيها مصان، بل مرتب وجميل.. » وقال عن الشعب أنه مبتسم وودود ويحب العرب. وأول دولة تفتح سفارة لفلسطين خارج البلاد العربية هي كوبا.
وأخذ يصف بيت العرب وصلاة الجمعة مع المسلمين وعددهم (39) مصلياً. ولقاءه بعبدالرحمن المحمود من قطر والذي طلب منه زيارة قرية كوبية دخل بعض أهلها الإسلام بوساطة جمعية الدعوة القطرية، فذهبا في اليوم التالي لها وهي: (بلا يا دول روسا ريو) تبعدها عن هافانا نحو 100 كيلو متر. حيث استقبلهم إمام المسلمين (حنيف الإسلام) والتف حولهم مجموعة من أبناء القرية المسلمين وخاصة الأطفال وأربعة منهم أسلموا حديثاً وهم في أعمار لا تتجاوز الثانية عشرة، وقرأوا عليه سورة الفاتحة، ثم وزع عليهم التمر الذي أحضره معه، وقال بعضهم: هذا من مكة المكرمة، وقال: «.. ثم جاءت النسوة من دون احتشام حتى نسوة المسلمين، ولنقل إنهن المسلمات الجدد، لأن بعضهن أسلمن قبل أن يسلم أزواجهن، ولكن ليس لديهن من يعلمهن آداب الإسلام في اللباس، وكيفية لقاء الرجال الأجانب، وهذا أمر طبيعي مرحلي لا شك في أنه سوف يتغير عندما يخالط الإيمان مشاعرهن، وعندما يوجد عندهم رجل أو امرأة من الدعاة إلى الإسلام الذين لديهم بصيرة فيه».
وقال إن هناك امرأة تبرعت لهم بمنزلها ليكون مسجداً يصلى به لأنها تسكن بمنزل زوجها وقال عنها: «.. كانت الأخت الكريمة التي تبرعت به مع الجمع الذي ذهب معنا للمسجد، ولكن لم تتقدم القوم ولم تتبجح بعملها فناديتها واسمها الإسلامي (يسيرة) واسمها قبله (ليسادرا سالينا) قالت: اسمي الآن (يسيرة ليساندرا سالينا).
وعلموا أن هناك امرأة أخرى لم تسلم قد تبرعت بمنزلها كمسجد لأن أختها أسلمت وبعض أقاربها. وقد أخبرتهم (يسيرة) أن هذا البيت كان لها قبل أن تتزوج وأن زوجها كان له بيت قبل الزواج، ولذلك زاد هذا البيت عن حاجتهما فتبرعت به مسجداً.
وقد جاء عدد من المسلمين طالبين منه تجديد عقد زواجهما على الطريقة الإسلامية، كما حضرت امرأة ذكروا أنهم كانوا يحاولون أن يجعلوها تسلم لأن إسلامها نافع للمسلمين، ولكنها لم تقبل حتى اليوم. وقد دعتهم (نورا) إلى بيتها حيث أقامت لهم وليمة فرغم تواضع مستواهم إلا أنه رأى في منزلها جهاز تلفز يون وغسالة وداخله نظيف.
وقال: «.. ومن الطريف أن فتى أسلم وسنه 12 سنة واسمه (خالد) وكان اسمه قبل إسلامه (خوليو) وإنه أسلم قبل والديه وأهله – وأن والديه أسلما لإسلامه، كما أسلمت بقية أسرته، ويظهر أن عقله أكبر من سنه، فقد كان يجلس معنا يتابع ما يقال، ولا يلعب مع أطفال القرية..».
وقال: «.. ان امرأة يظهر من لباسها البعيد عن الاحتشام أنها غير مسلمة أو قفتنا وقالت وهي تشير إلى بيت أمامنا: إن هذا البيت قد تبرعت به من أجل أن يكون مسجداً للمسلمين. قالت ذلك وهي لم تسلم بعد ولكن أختها (نورا) أسلمت قبل نحو أربعة أشهر.. ».
وعادا إلى هافانا وهو يصف النقوش العربية الأندلسية في أماكن منها، ووصف فندق (انغيليترا) الذي كان يشغله المسرح الوطني وقد حول إلى فندق فوجده تشغل كثيراً من حيطانه الفيسيفسا الأندلسية ويتخللها الكثير من العبارات العربية المشهورة في الأندلس كالشهادة (لا إله إلا الله) ولكنهم يكتبونها مقلو به وجملة (لا غالب إلا الله)، وقد ذكروا من بناء هذا المبنى أنه في عام 1885م، وقال عن اسم هافانا وأرجعها إلى اللغة الأصلية للسكان من الهنود، وأن القبيلة التي كانت تسكنها تسمى (هافانوا) وقد انقرضت كلياً.
ثم انتقل إلى مدينة (سانت ياقو) وهي المدينة الثانية في كوبا، ومعناها القديس أيوب، وقال أن الطائرة غادرت هافانا في العاشرة و37 دقيقه ضحى متأخرة 7 دقائق.. وقال عن المضيفة: «.. وكان حظنا جيداً، إذ لم يكن الجو غائماً وإن كانت توجد قطع من الغيم الأبيض لا تمنع الرؤية، وليس في الطائرة إلا مضيفة واحدة ذات سمرة ندية كأنها سمرة البدوية من أهل نجد، والملاحظ عليها أنها مثل كثير من نساء البلاد تبدو كما لو كانت تستحيي من الرجال الأجانب فلا تحد النظر إليهم.. » وأنهم لم يقدموا للركاب سوى كأس ماء أو كاكولا.. وبعد قليل أحضرت المضيفة زجاجات الشراب الثقيل والدخان لتبيعه.. وبعد أن وصلا للفندق استقبلتهم فتاة جميلة كانت جالسة على مكتب منفرد قائلة لهما: سوف تشربان ضيافتي وأحدثكم عن المدينة فطلبوا عصير برتقال وقال: «.. قالت الفتاة وهي جميلة جداً إلى درجة أن أقول إنها أجمل فتاة رأيتها في مرورنا بفرنسا وفي كوبا: اسمي (يديرة) وأنا أسبانية ولكن اسمي عربي حدثتني أمي أنها رأت (فيلماً) سينمائياً بطلته اسمها (يديرة) وأنها أعجبت بالبطلة فسمتني على اسمها فما هو معنى (يديرة)... فقلت لها: إن هذا الاسم هو (جديرة) وذكرت لها معناه وقلت لها: إنه يدل على أنك جديرة بهذا الجمال التي منحك الله إياه... » وقال إنهم سيعودون غداً إلى هافانا ولهذا لابد من جولة سياحية وقال عن الدليلة: (.. إنها امرأة في الأربعين من عمرها متوسطة المظهر أي ليست بذات مظهر فيه إغراء أو جاذبية، ومع أننا لم نطلبها فإنهم أرسلوها ولم نعترض حرصاً على ألا تفوتنا الجولة في هذه المدينة الكوبية النائية التي لا نملك فيها إلا وقتاً ضيقاً ولا ندري أتتاح لنا فرصة زيارتها مرة أخرى.. وقالت إن اسمها (جورجينا اندو واتون) ولا حظ أنها شديدة العداء للولايات المتحدة الأمريكية.. فقالت أن أصلها أسبانية فذكر لها عن تاريخ العرب.
فقالت: هذا صحيح فزوجي وهو إسباني مسيحي اسمه (عمر) وابني اسمه (عمار يتو). وقالت: إن والد زوجها منحدر من أصل عربي إسباني.. وكانت تذكر العرب بالتقدير وأرجع ذلك إلى كونها مثقفة ولكون كوبا الموالية للعرب نكاية بأمريكا واليهود. وقد أخذ لها معه صورة في مدخل البرج السياحي في (سان جوان).
وقال عن دقة وصفه لأمور قد لا تلفت نظر غيره في فندق (سانت ياقو)، «.. ومن لطيف ما صنعوه في الغرفة أن مصباح القراءة الذي يكون عند الوسادة قد وضعوا فوقه قبعة متحركة من أجل أن تصد النور عن عيني القارئ فلا يقع عليهما مباشرة فيؤذيه ذلك، وقد يؤثر على راحته عند القراءة».
وكذلك وصفه لجراب الوساده والذي جعلوه طويلاً وحزموا طرفه بحيث لا يلي خد النائم ووجهه، وأن السرير ليس بالعريض ولا بالضيق ولكنه يتسع لحبيبين.
وقال: إنهم زاروا منطقة الأثرياء الذين غادروها عند انتصار الثورة عام 1959م وأن هناك تجاراً عرباً ولهم منازل ذات طراز عربي أندلسي، وقد حولت تلك المنازل الفاخرة إلى روضات للأطفال. ثم زاروا جامعة سانتياجو وقابلوا الطلاب العرب والذين يبلغ عددهم ألف طالب، وأن التعليم بجميع أنواعه يقدم مجاناً.. وقال لها: إنني أحب أن أعرف بهذه المناسبة ما إذا كنت مسيحية أم لا؟ بمعنى أنك متدينة بالمسيحية أم ملحدة؟ فقالت: لقد ولدت مسيحية كاثوليكية، ولكنني لا أو من بالكاثوليكية ولا أعتقد بالكنيسة ولارجالها، ولذلك لا أذهب إلى الكنيسة مطلقاً. قلت لها: هل معنى ذلك أنك غير متدينة فأجابت قائلة: أنا أومن بالله، وأعتقد بأنه موجود، ولكن لا يحملني على أن أذهب للكنيسة.. وقالت عند سؤالها أن أعضاء الحزب الشيوعي في كوبا 33 ألف من أحد عشر ملوياً هم سكان كوبا. وقال عند زيارته للمتحف أنه رأى صورة كاسترو دون لحية وعند سؤال الدليل قالت أنه ترك لحيته بعد نجاح الثورة ليكون رمزاً للثورة. وقال أنه رأى كثيراً من تماثيل الأدباء، وقال: «وهذا الأمر من تخليد أسماء الأدباء والكتاب والمفكرين رأيناه شائعاً في أقطار أمريكا الجنوبية والوسطى، على خلاف ما عليه الحال في بلادنا العربية، حيث لا يكون للمفكرين إلا النفوذ السياسي الذي يكون كل رصيدهم في العادة هو العمل السياسي الحافل بالمكر والدسائس وتحصيل الغنم للنفس دون الآخرين.. ».
- الرياض
abo-yarob.kashami@hotmail.com