يتردد مصطلح الرويبضة في المساجلات المقالية ، وهو مصطلح غريب على دارس الخطاب الاجتماعي والسياسي المحلي خصوصا عند الدارسين العرب والدارسين الأجانب ، فضلا عن غرابته عند المثقف المحلي إلا ما يستدعيه هذا المصطلح من خلال سياقه من حمولات قدحية إقصائية فما المراد بالرويبضة ، وأي المتساجلين يتحقق فيه المعنى الخطابي المفهومي لمصطلح رويبضة ؟
الرويبضة لفظ تحول من كلمة عادية إلى كلمة مصطلحية قدحية تشير إلى أداة تصنيفية في نظام خطاب إيديولوجي معين.
فالخطاب الصحوي الذي مازالت قواعده أمتن القواعد ومازال يتحكم في التوجيه الذهني ما زال يرى أن علماء الدين بل فئة محددة من علماء الدين المؤدلجين بصفتهم أنهم وحدهم بيدهم كل الأمور ، أما الآخرون فيطلق عليهم المصطلح القدحي الانتقاصي (رويبضة)، وقد أخذوا هذا المصطلح من حديث
« سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب و يكذب فيها الصادق و يؤتمن فيها الخائن و يخون فيها الأمين و ينطق فيها الرويبضة. قيل: و ما الرويبضة ؟
قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة « وقد روي هذا الحديث بألفاظ متعددة وكل المختصون في التتبع الإسنادي للحديث يرون ضعفه ، أما زيادة تفسير الروبيضة فقد وردت كالتالي:
السفية ينطق في أمر العامة، وسفلة الناس ، والفويسق يتكلم في أمر العامة ،والفاسق يتكلم في أمر العامة ،ومن لا يؤبه له، والرجل التافه يتكلم في أمر العامة، والوضيع من الناس.
ويرى بعض الباحثين (انظر ملتقى أهل الحديث) أن هذه التعريفات السبع للرويبضة وردت في الرواية ، مما يدل على عدم ضبط لفظها ، وكلها ضعيف لا يصح منها شيء ، ومعانيها متخالفة متضادة ؛ فإن: من لا يؤبه له ليس بالضرورة أن يكون من الفساق ، بل وردت أحاديث في مدح هذا الصنف الخفي الغني التقي ، وهذا غير المراد من التعريفات الأخرى مثل قوله الفاسق ، الفويسق ، الوضيع... الخ. فإن المراد منها الذم، والتحذير من هذا الصنف.
ومع ذلك فإن النظر إلى بقية الناس بأنهم (رويبضات) سواء من الناس العاديين الذي لهم حرمتهم ومكانتهم بتكريم الله أم غير العاديين مهما كانت تخصصاتهم العلمية ومهما حازوا من التميز والشهادات ومهما بلغت معرفتهم وعلمهم التخصصي غير علماء محددين لمذهب معين يظل محركاً أساسياً في التصنيف الصحوي للناس ومازال مفهوماً إجرائيا عنصرياً الهدف منه سلب الناس إنسانيتهم وحقوقهم في الكرامة والتساوي والمشاركة في بناء حاضرهم ومستقبلهم وقطع كل حوار واستلاب الناس الكهنوتي لصالح فئة محددة منتفعة ولصالح من ينتفع مع تلك الفئة ، ويبدو أن ذلك قد بدأ مبكرا من خلال الصراع الإيديولوجي على السلطة...
أي بعبارة أخرى فإن المصطلح جرى توظيفه إيديولوجيا وسلطويا للانتقاص من الخصوم الإيديولوجيين والسياسيين واحتكار الحقيقة ، وخرج من مقصوده الأساسي سواء صح الحديث أم لم يصح...
وإذا أردنا أن نفسرالرويبضة بمصطلحات عصرنا فإنه يعني الرجل الذي لامبدأ له.. الرجل الوصولي.. الرجل الذي يقعد عن المساعي الكريمة بعبارة الزمخشري ، وليس لذلك علاقة بعلم أو دين بقدر ما ينصرف الحديث برمته إلى ((توظيف القيم في المجتمع )) وأهم قيمتين هما قيمتا الصدق والأمانة وعلى أساس القيمتين يتحدد معنى الرويبضة إن صح الحديث وليس على مقدار العلم أو مقدار الدين أو احتكار الحقيقة أو احتكار السلطة ، ولو طبقنا مفهوم رجال الدين لدينا في الرويبضة لأصبح العالم كله رويبضات إلا بضعة علماء وسلطة واحدة في العالم.
وسوف أنقل الحديث حول هذا المصطلح بعد أن عرفنا استغلاله نقلتين الأولى ، كيف نغوص في جينالوجيا المصطلح أكثر وعلام يدل بقاء استعمال هذا المصطلح
والأخرى حول المقابل العالمي المفهومي لهذا المصطلح.
فمن حيث جينالوجيا المصطلح فإن هذا المصطلح يتضاد مع مصطلح آخر ورد في الحديث أيضا وهو مصطلح (الرابضة) حيث ورد في الحديث «فانبعث له واحد من الرابضة» وهم ملائكة أهبطوا مع آدم عليه السلام يهدون الضلال تسمى إقامتهم في الأرض لذلك ربوضاً.
إذن (فاعل) يضاد (فويعل) بمعنى أن الصيغة في حالة تصغيرها هي ضد للصيغة مكبرة وهذا نادر ، وقد أضيف للصيغة المصغرة (تاء التأنيث) المربوطة هنا للمبالغة وللتضخيم وهي عملية تقوم في الوقت نفسه أي تصغير وتضخيم واستعمال صيغة التصغير للتضخيم والتكبير هو مما ورد في الكلمة العربية وقد يشير إلى وضع خاص ليس بتضخيم أو تكبير حسي وإنما هو تكبير أو تضخيم معنوي غاية الأمر أن الرابضة ملائكة يمكثون في الأرض لهداية الناس في حين الروبيضة رجال يكون أثرهم عظيم في الإفساد وخطر جداً إذن ثمة تقابل بين فعل الملائكة وفعل البشر وإن كان كله ربوضا ففعل الملائكة هداية ، وفعل البشر إفساد ، وعلى ذلك فالمصطلح مصطلح ميتافيزيقي ، ولكن تفسيره في الحديث ي خصه بالجانب القيمي مما يرد الميتافيزيقي إلى القيمي لا القيمي إلى الميتافيزقي...
أما الذي تحول إليه مصطلح الرويبضة في الإيديولوجيا الحديثة فهو أن التصغير في الكلمة صار للتحقير والازدراء ، وأن تأنيث الكلمة صار لزيادة التحقير أي تحقير مرتين ، وهذ مع عدم صحته إلا أنه يشير إلى الوضع الخطابي الإقصائي الكارثي لهذه الإيديولوجيا التي توظف مصطلح رويبضة بما يؤكد أنها تقوم بدور الرويبضة دون أن تدري...
ومن هنا يمكن أن نخلص إلى أن الإيديولوجيا الحديثة تنزع مصطلحاتها من نصوص قديمة وتعيد توظيفها في غير مجالاتها أو تعيد توظيفها لاتخاذها في الغالب أداوات لتثبيت خطابها الإيديولوجي ولتصنيف الناس وللتخلص من الذين لايتبعون أدلوجتها ، ومن هنا تم ربط مصطلح روبيضة بعلماء الدين ، وتم ربطه بمعتقدات معينة ، بل تم ربطه في اللاوعي بالاحتقار للاخر والاحتقار للمرأة من خلال صيغى اللفظ (رويبضة)...
ومن المفترض مفهومياً وخطابياً في عصرنا هذا ألا ننظر إلى مصطلح رويبضة وإنما ننظر إلى المفهوم منه لنتحدث عن النقلة الثانية المفهومية له ، وهي أن هذا المصطلح فضاؤه هو النشاط العام الذي يقوم به الإنسان في مجتمع ما، وهنا يقسم الناس إلى فئات متعددة بحسب النشاط الذي يقوم به الفرد وبحسب القيم التي يعتمد عليها في نشاطه ، وعلى ذلك يمكن القول إنه إذا شارك الإنسان في نشاطات مجتمعه وأطلق عليه (ناشط) واعتمد في نشاطه قيمتي الصدق والأمانة وعدم غش المجتمع فلا يدخل في مفهوم رويبضة ، لكن إذا كان ذلك الفرد غير ناشط فهو رويبضة بمعنى لا معرفة له بتحولات النشاط مما يؤدي إلى إحداثه فسادا كبيرا ، أو كان ذلك الفرد ناشطاً غير أمين وغير صادق ويستغل مجتمعه فهو أيضا رويبضة ... ومع ذلك فجينالوجيا المصطلح تجعل هذا المصطلح عرضة للاستغلال والتوظيف الإيديولوجي ومن المستحسن في مثل هذه المصطلحات الانتقال فيها إلى مصطلحات متغيرة بتغير الإنسان ونموه العقلي والمعرفي والحضاري ، فرويبضة هو أدخل في المصطلحات السياسية والاجتماعية ، ولذا يكتفى فيه بما هو موجود في عصرنا من مصطلحات السياسة التخصصية وغير التخصصية ، من مثل ناشط سياسي ، وحزبي ، ومعارض ، ومؤيد ، وغير مسيس ، وشبيح ، وبلطجي ، وبرجوازي ، انتهازي ...إلخ وتكون قيمته في مجتمعه بحسب القيم التي يدافع عنها وبحسب نفعه لمجتمعه وللإنسانية جمعاء.
د. جمعان بن عبدالكريم - الباحة