تأثرّ جسد المرأة في بعض الروايات النسائية الخليجية بانفتاح التجربة الروائية على الطرح النسوي الجاد (الذي غادر تجاذبات السطح والتوسّل بالثنائيات المستهلكة) إلى مقاربة موضوعات أكثر جرأة، محاولاً دفعها بقوة لتكون في واجهة الخطاب النسوي: الفكري والثقافي والأدبي والنقدي. وقد أسهم هذا التأثّر في انتقال البعد الجسدي في بعض الروايات من البناء (الجاهز) أو (المنمّط) إلى البناء (النامي) أو (المعقّد)؛ ومن تمثيل الجسد في قضايا تكرّس تبعية المرأة - كما بينتُ في المقالة السابقة - إلى تمثيل قضايا أكثر قدرة على النهوض بهوية الأنثى، ومنها بل من أهمها تمثيل قضايا الجسد الأنثوي برؤية مختلفة، ففي روايات نسائية متعدّدة خرج الراوي من المعجم المحدود الذي كان يغذّي البعد الجسدي في أغلب الروايات إلى معجم أكبر، ومن محدودية الأجزاء الموصوفة من الجسد إلى مساحة أوسع، يتمدّد الجسد من خلالها؛ ليكون عنصراً فاعلاً في نسيج العلاقات التي تربط بين الشخصية وغيرها من الشخصيات، وفي وعيها بالذات أيضاً، فيؤثر ويتأثر، ويأخذ تبعاً لذلك وضعيات متعدّدة ومختلفة داخل النص الروائي.
ففي رواية «لم أعد أبكي» كانت البداية بوصف واسع ودقيق لجسد غادة (الشخصية الرئيسة في الرواية)، خرج من المحدودية التي عهدناها في روايات البدايات (متمثلة في ملامح الوجه، ولون العينين، والشعر، وما شابه ذلك) إلى :
1- وصف أجزاء أخرى من الجسد، تنتمي إلى أبعاد وتفاصيل مختلفة (كالطول، والحجم، واللون، والملامح.. من الأعلى والأسفل، والأمام والخلف، والجانب) .
2- إسباغ الوصف الغريزي على البعد الجسدي، من خلال وصف الأجزاء المشتهاة في جسد المرأة (كالنهدين البارزين، والشفتين المكتنزتين)، وتحميلها معنى جنسياً وجمالياً «يتحدّد عبرها العضو أو الجزء كعنصر رئيس في بناء المعمار الجسدي» - كما يعبّر سعيد بنكراد - نلحظ هذا في استخدام النهدين بدلاً من الصدر، وفي وصف الردفين بالجمال، والشفتين بالاكتناز، بدلاً من إطلاقهما بلا صفة .
3- تعزيز البعد الجسدي بصفات معيارية غير محايدة (كالأنثوي، والجذّاب، والجميل، والمتناسق)، أو بالصفات المتعدّدة (كالشامخ الصغير، والغضة البضة، والملفوف النحيف، والكستنائي المتموّج...)، وكلّها تعبر عن الإمعان في كشف الجسد الموصوف، ونشر تفاصيله الدقيقة .
نحن إذن أمام توسّع في تمثيل الجسد بالطريقة المباشرة، وهو بلا شكّ يعبّر عن تغيّر في إدراك الجسد داخل هذه المدوّنة وفي التعبير عنه؛ فإذا كان الجسد في روايات البدايات يظهر في بداية الرواية ثم يتقلّص شيئاً فشيئاً لصالح الأبعاد الأخرى (النفسي والاجتماعي على سبيل المثال)، فإنه في هذه الرواية (وفي كثير من روايات الألفية الثالثة) يظلّ – رغم جاهزيته - مؤثراً وفاعلاً في نظرة الشخصية لذاتها، وفي نظرة الآخرين لها ، فغادة في هذه الرواية تدرك أنها فاتنة (ص9) و» قد اعتادت رؤية نظرات الانبهار فيمن تقع عيناه عليها من الرجال، ونظرات الحسد والغيرة في أعين النساء...» (ص9)؛ لذلك ظلّ جسدها - بأبعاده التي تضمّنها خطاب البداية - مؤثراً كبيراً في جميع علاقاتها بالشخصيات الأخرى، كعلاقتها بالسائق اليمني زيد، ثم علاقتها بالشاعر والإعلامي طلال السعدي، ولم يغب هذا البعد الطاغي حتى عن علاقتها بالأنثى؛ فقد كانت تعدّه صديقتها نشوى – على سبيل المثال - ورقة رابحة في التعامل مع الرجال (ص45)؛ لذلك كلّه تمدّد وصف الجسد في بداية الرواية، وسبق الأبعاد الأخرى للشخصية؛ ليسوّغ كلّ هذا الحضور الطاغي للجسد في تفاصيل الرواية، وليقنع القارئ بفاعليته في الأحداث (المفصلية)، وفي علاقة غادة بباقي شخصيات الرواية.
وقد أعقب هذا الاتساعَ الذي رأيناه في البداية انكماشٌ واضحٌ في الخاتمة/ النهاية، مردّه – من وجهة نظري – إلى التغير الذي طرأ على نظرة غادة إلى جسدها؛ فبسبب الفشل الذي انتهت إليه في جميع علاقاتها الثقافية والعاطفية (التي كان الجسد أحد الأبعاد الدافعة إليها كما أسلفت) اقتنعت بأنّ رهان الأنثى على جسدها رهان خاسر، وأنّ ارتهان الذات (بأي شكّل كان) لا يفضي بصاحبها إلا إلى الألم؛ لذلك برز الجسد في النهاية ليعبر عن هذا التغير الذي طرأ على وعيها :
«لن أدع حياتي تصبح مثل ريشة تتقاذفها رياح الذكريات. يجب أن أمتطي جواد إرادتي؛ لأدلف إلى حدائق المستقبل بروح متفائلة. ثمة أشياء أخرى كثيرة تستلزم مني المواجهة. أمامي قضايا إنسانية كبيرة تحتاج إلى دفاع مستميت عنها.
كان جسدها يرتعش مثل شجرة تتمايل أغصانها في ليلة عاصفة بنهاية فصل الخريف. لا تدري كم من الوقت مضى وهي غارقة في دوامة فجيعتها وذكرياتها. وقفت أمام المرآة، مسحت دموعها مردّدة: لا دموع بعد اليوم. انتبهت فجأة على جرس الهاتف يرنّ بإلحاح» (ص159) .
نلحظ في هذا المقتطف انكماشاً لأبعاد الجسد التي تمددت في البداية، إلى الحدّ الذي احتاج معه الراوي إلى استعارة عنصر خارجي لتمثيله، كما في: «شجرة تتمايل أغصانها» و»ليلة عاصفة بنهاية فصل الخريف» على عكس ما رأينا في بداية الرواية؛ إذ كان التمثيل من داخل الجسد نفسه !
حتى الوقوف أمام المرآة لم يساعد على عكس جسد غادة (كما هو المعتاد في عدد كبير من الروايات)؛ فكل ما كشفته المرآة من جسد غادة في المقطع السابق هو حركة مسح الدمعة، وهي حركة تعبّر عن موقف جديد أفضى إلى حجب الجسد بعد تعريته، وإمساك ذاكرته بعد إرسالها، أي: إنه انتقل بالجسد من سطوة (الأنوثة) التي عبر عنها الوصف في بدايات الرواية إلى (الأنثوية) التي يبدو فيها الجسد جزءًا تابعاً للمرأة لا لغيرها، أي إنه انتقال من التبعية إلى حالة طبيعية أو إلى حالة من الاستقلال، تتخلّص فيه الأنثى من معاني الأنوثة التي من شأنها قمع عقل المرأة ولسانها، وكل ما يمثّل معنى القوة فيها (كما يعبر الغذامي في ثقافة الوهم).
إنّ ظهور الجسد في خطاب البداية ثم اختفاءه شبه التام في خطاب النهاية يعبّران عن ارتباط ما بين الخطابين بالجسد؛ ويشيران أيضاً إلى أنّ الجسد مركز التحوّلات التي تطرأ على الأنثى إيجاباً أو سلباً، وفي هذه الرواية كانت قيمة التحرّر ضدّ (الأنوثة) لكن لصالح (الأنثى)!
خالد الرفاعي - الرياض