كانت جليلة منفعلة جداً، بينما كان يونس في حالة ضياع تام، فقد كان يشعر بأنه يتقلب بين الحلم والحقيقة، كان تارة يظن أنه مازال نائماً، وتارة أخرى يكاد يقسم أن جليلة البطلة الخيالية تقعد أمامه على الكرسي وتحاكمه على تلك النهاية المأساوية التي أنهى بها حياتها في القصة!
وإذ كان كذلك رأى فجأة شاباً مازال في أواخر العشرينيات من العمر كما يبدو، لكن لا يظهر عليه أي علامة تدل على أنه كبعض الشباب المترفين، كان الكدح ظاهراً بوضوح في قسمات وجهه وفي ملابسه، بل حتى في صوته الذي انبعث فجأة وسأل:
أنت هنا إذن؟
اقترب أكثر وجلس على الكرسي المقابل لجليلة، وظل ينظر إلى يونس الذي تجمد في مكانه، فلم يعد يعرف إن كان نائماً ويحلم أم أنه يتحدث إلى الجن، أم ماذا؟ لقد كان مرتبكاً جداً، أشعل ثلاثة سجائر في ظرف عشرة دقائق فقط، لقد أراد أن يخرج من هذه الحالة، أن يعود إلى فراشه، أن يتدثر بالملاءة الدافئة، ويخرج من صلب ذلك الجنون، لكنه لم يستطع!
قال الشاب:
ألم تعرفني بعد!
أنا عمر، الشاب الفلسطيني، الذي قتل جنود الاحتلال أمه حين خرجت في ذات ليلة كان فيها التجول محظوراً، قتلوها في حارة مظلمة في غزة، هل عرفتني؟!
ثم قام يبحث عن تلك القصة بين قصص يونس، ووجدها أخيراً على أحد رفوف المكتبة المقابلة لمكتبه، وجدها ووجد فوقها ورقة صغيرة توضح العدد تاريخ نشرها في الصحيفة المحلية، ابتسم وهو يقرأ تاريخ النشر وقال:
وقد جعلتني مشهوراً يا عم يونس!
وجعلت كل أخباري على مرأى الناس، الكل يقرأ، وكما يقال «اللي ما يشتري يتفرج»
ثم التفت إلى يونس وهو يسأله بصوت مختنق:
لماذا؟ لماذا جعلتهم يقتلون أمي؟
لماذا حرمت طفلاً في الحادية عشرة من عمره من حنان أمه؟
قال يونس بحدة:
لم أقتلها هم قتلوها؟ فنالوا العار؟ ونالت أمك الشهادة؟ أي نعم كان الحصار مفروضاً، وكان التجول محظوراً في تلك الليلة، لكن أمك خرجت لتطعمك إذ كان المنزل خالياً من الطعام في تلك الليلة الباردة، وكنت أنت طفل صغير وأبوك شيخ كبير! إن أمك امرأة قوية عظيمة، تحدت بنادقهم ومدفعياتهم، تحدت صواريخهم وقصفهم المتواصل، تحدت الخوف، وخرجت ولم تأبه بأحد منهم!
قال عمر صارخاً:
لكنها ماتت!
أتعرف معنى أن تعيش حياتك في رعب شديد؟ أن تنام على صوت القذائف، وتصحو على أخبار القتل والتفجير، أتعلم حينها ما معنى أن يكون إلى جانبك أم تدثر قلبك كل ليلة بالنوم في حضنها؟ أن تهرب من واقعك المرير إلى دفء قلبها؟ لقد قتلتني بموتها، وأتعبت أبي، الشيخ الكبير، الذي كان في أمس الحاجة إلى وجودها بجانبه وهو في أرذل العمر!
سادت برهة صمت، قبل يستطرد عمر قائلاً:
وليت الأمر بقي كذلك، أخبرني لماذا جعلتني أتغرب عن بلدي حين كان عمري ثمانية عشر عاماً، وحرمتني من تراب وطني وسمائه، حرمتني من نسماته، حرمتني حتى من أن أكون بين شبابه، حرمتني من حمل الحجارة مع أولئك الأبطال، حرمتني حتى من حبيبتي (نائلة) التي كانت تعوضني بكلماتها عن غياب أمي وآلام وطني!
أراد يونس أن يجيب لكن كل الكلمات قد هربت منه أمام حزن عمر وأوجاعه، فأختار أن يغوص في صمته العميق الذي قطعه عمر بسؤاله قائلاً:
طالما أنك كاتب، لماذا تصر على جعل الخيال بائساً أيضاً؟! كواقعنا المرير؟ لماذا لا تلون الخيال بالفرح؟
- عادل بن مبارك الدوسري
البريد الالكتروني: aaa-am26@hotmail.com
تويتر: @AaaAm26