ختمنا الجزء السابق بشيء من الحديث حول «تقديس الإمبراطور» عند الشنتويين، ونواصل اليوم ذلك الحديث، قبل الانتقال إلى بقية النقاط المختارة حول الفلسفة الشنتوية.
فالحقيقة هي أن موضوع تقديس الإمبراطور مرتبط بتقديسهم العجيب لأنفسهم أيضًا؛ حيث ينظر الشنتويون إلى الإمبراطور باعتباره ابن الإله، وباعتبار الشعب الياباني كلّه من نسل الأباطرة (جمع إمبراطور)، أي أنهم شعب مقدس جاء من نسل الآلهة، ومن هنا ظهرت فكرة «الأبوّة» التي جعلت الشعب يرتبط بالإمبراطور باعتباره الأب وهم الأبناء، وتطورتْ هذه القضية حتى وصلت إلى درجة عبادة الشعب للإمبراطور نفسه أحيانا، وما زالت هذه الفكرة سائدة منذ قرون طويلة وحتى يومنا هذا.
ولا يؤمن غالب الشنتويين بحياة أخرى غير الحياة الدنيا لا على الصعيد (الفيزيقي) الجسدي، ولا على الصعيد (الميتافيزيقي) الروحي، فالموت عندهم هو النهاية التي يذهب بعدها جسد المتوفى إلى مناطق ملوّثة كما يزعم بعضهم، أو إلى التحلل الطبيعي فقط، كما يزعم بعضهم الآخر.. أمّا الروح، فإن سراحها يطلق من قيودها المادية بعد موت الإنسان، فتعود مجددًا لدائرة قوى تكوين الطبيعة، مع ضرورة الانتباه هنا إلى أن تفسير هذه العودة إلى دائرة قوى الطبيعة غامض معقد أطال الباحثون في محاولة استيعابه، ومن هنا ذهب البعض - وفق شروحات معينة- إلى أن هذه العودة بكيفية معينة، تدل على شيء من الإيمان لدى بعض الشنتويين بوجود حياة لاحقة للروح بمفهوم فلسفي خاص.
وفي هذه الديانة أو الفلسفة الدينية آلهة كثيرة لا حصر لها، فنجد في أساطيرهم عددًا يصعب حصره وشرحه، ومن ذلك مثلا إله الطين وزوجته إلهة السيف، والإله (الوتد الصلد) وزوجته الإلهة (الوتد الهائج).. ومن أعظم الآلهة عندهم مجموعة ثلاثية من الآلهة، أولها «إلهة المولى» وهي في مركز السَّماء، وكذلك «إله الإنتاج الأعلى»، وأيضًا «إله الولادات الإلهية»، فهذا الثالوث من الآلهة هو الأقدس والأجل عند كثير منهم.
وترتبط كثير من مسميات الآلهة بالحياة اليابانية من مختلف النواحي، كالناحية الجغرافية مثلا لا حصرا، فالإله المسمى «فوكامي» المنعوت بـ «الهيئة الناضجة» له زوجة تسمى «نوكامي» وتنعت بـ «الإلهة المعشوقة»، وهما إلهان وقعا في الغواية كما تروي الأسطورة بشكل يشابه ما كان في الجنّة من غوايةٍ ووسوسةٍ حسب بعض المعتقدات السماوية، وإلى هذين الإلهين –أو غيرهما باختلاف الروايات- أسندتْ مسألة التكاثر والإنجاب من جهة، والخلق بشكل عام من جهة أشمل، فجاءت الجزر اليابانية نتيجة لعملهما حسب الميثولوجيا اليابانية، التي تؤكد دائمًا على أن كلَّ ما في اليابان من جزر وسهول وجبال ونباتات وأشجار وبحار... إلخ. كلها (مولودات إلهية) حسب معتقداتهم وتعابيرهم، مع تفصيلات وتفسيرات فلسفية عميقة عجيبة لكل مولود منها.
ليس هذا فحسب، بل حتى الحكام عندهم كما أسلفنا من نسل الآلهة، والشعب يأتي بعد ذلك من نسل هؤلاء الحكام العظام، ليصلوا بعد ذلك إلى النتيجة الأبرز، وهي أنهم أحفاد الآلهة، ومن هنا جاء اقتناعهم الغريب أنهم الشعب المميز على كل شعوب العالم.. وهذا ما يؤكده علماء الشنتوية الكبار، مثل «موتوري» في القرن السابع عشر، فقد برّر نزعة اليابانيين إلى إظهار التفوّق والامتياز، بأنها نزعة تعتمد على قولهم: «ما دام الإمبراطور الياباني سليل الآلهة مباشرة، فهذا كافٍ ليكون اليابانيون متفوّقين على بقية الأمم والشعوب».
ويقدس كثير من اليابانيين (العلاقة الجنسية)، إلى درجة عبادتها، وعبادة مظاهرها المتمثلة في رسومات ومنحوتات وطقوس كثيرة متعددة، ترتبط بالأعضاء التناسلية.. وكل ذلك من خلال فكرتي الخصوبة والتواصل الروحي عبر الولادة.. ولا أخفي عجبي حقيقة من مقاطع «اليوتيوب» التي وقعتْ عليها أثناء بحثي عنهم؛ أعني المقاطع التي يجتمع فيها الآلاف من اليابانيين وغيرهم من الذين يقدسون الأعضاء الجنسية لدرجة العبادة، حيث يجتمعون في مسيرات ضخمة ويتحلقون ويسيرون وهم يرفعون عددًا من التماثيل والمجسمات لأعضاء جنسية!.
وأحب أن أستطرد هنا قليلا فأقول:
شاع بيننا أن بعض الشعوب تعبد بعض الحيوانات كالبقرة مثلا، أو أن بعض الشعوب تعبد النار -كما سيظهر لنا في مقالاتي القادمة عن «الزرادشتية»- أو أن البعض يعبد الأعضاء الجنسية، وما شابه ذلك.. والحقيقة هي أنهم ليسوا بهذا الغباء الذي يتصوّره البعض، فهم لا يعبدون هذه الأشياء والمخلوقات لذاتها غالبًا فيما ظهر لي، بل هو تقديس له فلسفات معينة، أي أنهم يقدسونها -مثلا- نتيجة أثرها على حياتهم أو فائدتها لهم أو حبهم لها ولما تمثله لهم، وشرح هذا يطول.. المهم هو أنهم لا يتخذونها إلهًا بالمعنى الدقيق السائد للألوهية، كما يتوهم البعض.
ويمارس الشنتويون عدّة عبادات، من أبرزها مثلا عبادة تسمى (هاراي) ومعناه فعل التطهّر هاراي، حيث يغتسلون إذا طلب منهم الكاهن ذلك، حيث يهز أو يؤشر بفرع من شجرة السكاكي المقدسة أو ورقة منها إلى رأس كل متطهر منهم.. ومنها عبادة تسمى (شينس) ومعناها القربان الذي يكون من الحَبّ أو أنواع أخرى من الأطعمة والمشروبات غالبًا، وأحيانًا يكون القربان من المال، ويكون في أحيان أخرى رمزيًا كغصن من شجرة السكاكي، خاصة إذا كان الشخص فقيرًا لا يملك ما يقدمه للآلهة من قرابين ثمينة.
كما يؤدون الصلاة بطريقة معينة، فالصلاة عندهم غالبًا دعوات وابتهالات، تنحصر مطالبها في (الاحتياجات الحياتية الدنيوية)، حيث لا يؤمنون بعالم آخر كما سبق الإيضاح.. ومن عباداتهم «الوليمة الرمزية»، وهي كناية أو إشارة لتناول الطعام مع الآلهة، ويشربون مع هذه الوليمة وغيرها من طقوسهم شرابًا مقدسًا يسمى (ميكي)، وهو خمر مصنوع من الأرز.. كما يرقصون أثناء العبادات، ولهم عدّة رقصات مقدسة في معابدهم الخاصة، وأشهر رقصاتهم لها ما يقارب ثلاثين طريقة، يؤدونها وفق ما وصلهم من تعاليمهم وأساطيرهم القديمة المتوارثة.
وللأسرة مكانة وأهمية كبرى عندهم، حيث يظهر في الأسرة اليابانية (التضامن) فالأبناء يكرّمون الأبوين، بصور وأشكال كثيرة غاية في البر والإحسان، كإسكانهم في منـزل واحد، ودعمهم بالمساعدات المالية، وهذا من أهم مظاهر الاستقرار في أسرهم، والحكومات تشجعهم دائمًا على هذا، بطرق متعددة كتنظيم الضرائب والوحدات السكنية، مما انعكس على نهضة اليابان وتقدمها واستقرارها.
والمرأة هي الأساس الأهم في الأسرة، حيث تقوم بكثير من أمور الأسرة، حتى شراء المنزل والاحتياجات الحياتية.. ومن أعجب عادات بعضهم الأسرية أنَّ الزوجة تستلم مرتب زوجها وتعطيه مصروفه الخاص بحدود معينة؛ ولكن هذا لا يعني سيطرتها عليه، فهي مهما بلغت من المؤهلات والخبرات، تبقى مطيعة وفية لزوجها غالبًا، بل ومقدسة له، فهي دائمة الانحناء لزوجها مثلا، فتحكّمها في المصروف لا يعني أنها تعصي أوامره، فهو السيِّد المطاع دائمًا وله هيبته ومكانته الأسرية. ومن أجمل النقاط هنا أن الزوجة عند الكثيرين منهم يزيد تقديسها لزوجها إذا كان الزوج مقدِّسًا لعمله، ويؤدي فيه أكثر من اللازم، حتى لو لم يحصل على مقابل إضافي من المال!.
وللأولاد الذكور أدوار وامتيازات أكثر من الإناث في الأسرة الشنتوية، بل في غالب اليابان كلها قديمًا وحديثاً، وكل ذلك ناتج عن معتقداتهم الدينية التي تنص على أن الأبناء والأحفاد الذكور، يقدّسون أسلافهم من الآباء والأجداد أكثر من البنات والحفيدات، ولفهم هذه الجزئية لابد من الرجوع إلى ما كتبته في الجزء السابق عن موضوع (تقديس الأسلاف).
ونختم بأن الشنتوية لا تحرّم ولا تمنع (تعدّد الزوجات)، بل تبيحه؛ ولكن قيام رجالهم بهذا التعدد قليل أو نادر جدًا، خاصة في العصر الحديث.. ونلتقي على خير.
وائل القاسم - الرياض