«ما بين برنارد لويس وصموئيل هنتجتون»
كل صراع تحركه أيديولوجية وكذلك الأمر للصراع المقاوم،ولذا لابد من التوقف أمام مسألة الأيديولوجية في أي صراع.
ويمكن أن نحدد غايتين يتحرك خلالهما و بهما الصراع و الصراع المقاوم وهما «الدين و السياسة».
وكلا الغايتين يؤسسان على مفهوم الاصطفائية.
فالمصطفى هو من يملك الحق في قيادة العالم، ومن هذه القاعدة يدور الصراع بين طرفين أو أطراف يرى كل منهما أنه المصطفى و أنه الأحق بقيادة العالم و فق تفويض الاصطفاء المسبق، وفي المقابل فمن لا يحظى بقيمة اصطفائية فهو ابن للشيطان و الظلام و الجهل.
فدوما ثمة سبب أو أسباب وراء أي صراع و صراع مقاوم.
قبل ظهور الأديان كانت «جغرافية الأرض» هي مصدر الصراع و الصراع المقاوم،وكلما أمتلك الأضعف مصادر القوة اشتد الصراع، كما أوضحت ذلك سابقا.
لأن المنافسة مقامها هنا رفض القوي عسكريا من امتلاك الأضعف مصادر القوة لِما في ذلك تهديد لزوال قوته و تداولها.
وبعد ظهور أول دين «اليهودية» أصبح الصراع بين الدينيين واللادينيين باعتبار أن الدين كمصدر للاصطفاء من حقه قيادة العالم.
وبعد ظهور الدين الثاني «النصرانية»، أصبح الصراع ديني ديني باعتبار التنافس على الاستحقاق الاصطفائي القائم على الصلاحية المستدامة لأي منهما محولا تلك الصلاحية إلى ثنائية «الحق و الباطل»، و من ينتصر يملك استدامة صلاحية الحق و يقود العالم بموجب اصطفائية هذا الحق.
ثم ظهر الدين الثالث «الإسلام» ليُصبح الصراع مشتعلا بين الأديان الثلاثة و التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).-البقرة-.
ولو تأملنا الآية الكريمة السابقة لاستنتجنا ما استنتجه صموئيل هنتجتون في نظريته «صدام الحضارات و إعادة بناء النظام العالمي» بأن الصراع القادم هو بين الحضارة الإسلامية و الغرب؛ وهي نظرية تبلورت في بدايتها من خلال مقالة نشرت عام 1993م.
لكن قبل مقالة هنتجتون كانت هناك مقالة للمستشرق الأمريكي «برنارد لويس» نشرت عام 1990م،تحت عنوان «جذور الغضب الإسلامي»،و لبرنارد لويس 20 كتابا عن العرب و المسلمين.
و يقال أن سبب كتابة مقالة برنارد لويس هو التصريح الذي قاله مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق للأمن القومي بريجنسي عام 1980م «إن المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتحدة من الآن،هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الخليجية الأولى التي حدثت بين العراق و إيران تستطيع أمريكا من خلالها تصحيح اتفاقية سايس بيكو».
وفي ضوء هذا التصريح قام برنارد لويس بإنتاج «نظرية تقسيم دول العالم العربي» إلى ثلاثين دولة عبارة عن مجموع من الكانتونات و الدويلات المقسمة على أسس عرقية و دينية و مذهبية و طائفية ،ورسم لهذه النظرية خارطة بعد التقسيم سُميت بالشرق الأوسط الجديد.
ويرى برنارد لويس أن إعادة تقسيم الدول العربية من خلال نظريته لن يٌقاوم بشكل جديّ من شعوب العالم العربي،نظرا لٍما تٌعانيه تلك الشعوب من قهر و استبداد سياسيين و فقر و جهل، وضعف بنية المجتمع المدني و صراع الاحزاب على السلطة و تحالفاتها الخارجية.
وبناء على نظرية التقسيم تلك لبرنارد لويس،ظهرت نظرية أدبية و إعلامية و هي «نظرية ما بعد الحادثة» التي تسعى إلى تفكيك «الثقافة المشتركة» للهوية الواحدة ،لتشجيع الثقافة الأقلية فكرا و إعلاما، و بذلك تقسمت ثقافة المجتمع الواحد إلى ثقافات أقلية منها ما هو قائم على إحياء عرقية أو مذهبية أو طائفية، وأصبحت لتلك الأقليات قنواتها الفضائية، وكان هذا النهج فيما بعد ترهيصا لانفصال و استقلال تلك الثقافات إلى كانتونات أو دويلات داخل دولة.
أن الصراع بين الإسلام و اليهودية و النصرانية هو صراع يدخل في باب الحتميات، كما يرى هنتجتون ولن يتوقف كما تخبرنا الآية إلا بتهويد المسلمين أو تنصيرهم،والصراع هنا قائم على «مبدأ قيم الأنا و الآخر»، أو كما يسوّغ هنتجتون إلا باندماج المسلمين مع قيم الغرب و الانفصال عن قيمهم الإسلامية.
و صموئيل هنتجتون هو أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد ، ومدير معهد الدراسات الاستراتيجية في ذات جامعة ،كما أنه كان مسؤولا عن التخطيط في مجلس الأمن القومي الأمريكي.
وجاءت نظريته صدام الحضارات لتٌبظل نظرية جورج كينان «بأن الشيوعية هي الخطر الأول الذي يحيط بالعالم» فقد جعل هنتجتون « الحضارة الإسلامية هي الخطر الحقيقي على الحضارة الغربية».
لأن الدين في ذاته لا يٌمكن تحويله إلى مصدر صراع، لأن ذلك مخالفا للقوانين الحقوقية العالمية،لكن ما يُمكن تحويله هو مجموع القيم و المواقف و الأفكار و السلوك التي يعتنقها أصحاب هذا الدين أو ينتجونها ،ولذلك كان الصدام الذي بشّر به هن تجتون هو «صدام الحضارات» فالحضارة الإسلامية كما يزعم هي التي سوف تقود الصراع في القرن الحادي و العشرين، وهو يقصد بالحضارة «الموروث الفكري و التاريخي للمسلمين».
قبل نظرية صدام الحضارات ظهرت نظرية «نهاية التاريخ» التي تذهب أن الانتهاء من الحرب الباردة و انتصار الرأسمالية و هزيمة الشيوعية،تعني نهاية التاريخ لأن العالم كله سوف يتوحد خلف الرأسمالية و الديمقراطية.
ثم ظهرت نظرية «صدام الحضارات» التي أسست لفكرة أن الصراع القادم في القرن الحادي و العشرين سوف يقوم على صدام الحضارات بين «الحضارة الغربية و قيمها» من جانب و «الحضارة الإسلامية و قيمها» من الجانب الآخر، وضم إلى ذلك الصراع «الحضارة الصينية».
واختيار الحضارة الإسلامية هنا قائم على «أصالة فكر المسلم» تلك الأصالة التي تقف حاجزا أمام اندماج المسلم مع قيم الآخر و الانصهار بها،أو كما عبر عنها القرآن الكريم «حتى تتبع ملتهم».
ويضع هنتجتون خمسة أسباب لعدم اندماج المسلم مع قيم الغرب وهي:
* الثقافة الإسلامية التي تقف حاجزا أمام انصهار المسلم مع قيم الغرب و بالتالي الاستسلام لفروضه.
*إيمان المسلم بأنه يملك حضارة خالدة رغم أفولها لها القدرة على الإحياء.
*إيمان المسلم بتفوقه الديني و الفكري.
*إيمان المسلم بقوته الكامنة المستدامة رغم تآكلها القومي،وهذا الإيمان يجعل المسلم قوة جاهزة صامتة و خاصة في ظل وجود ثيمة الجهاد .
*وقبل كل ذلك أن ولاء المسلم يظل ثابتا يقوده الدين أولا و أخيرا، وأن الولاءات الفكرية و القومية و المحلية سوف تسقط دوما أمام والولاء للدين في حالة «الاختيار من متعدد».
و تلك الأسباب هي التي توسع رقعة تزايد الشباب العربي و المسلم في التمسك بالإسلام والانخراط في صفوف الجماعات الدينية المتطرفة.
كما تؤكد هذه النظرية على أن «العنف» جزء من تقاليد الحضارة الإسلامية ،باعتبار أن «الجهاد « هو الذي يغذي عنف المسلمين اتجاه الآخر الذي يختلف معه في القيم و الحضارة.
و أن مقاومة المسلم لفرض الآخر قيمه عليه التي تتعرض مع ثقافته الإسلامية ستؤدي إلى صدام بين الطرفين ،ولذلك يعتبر هنتجتون الثقافة الإسلامية هي الدافع الأول لتفريخ العنف و الإرهاب و التطرف، وبذلك تصبح البيئة المحتوية لتلك الثقافة العدو الأول لأمريكا و للغرب التي يستوجب محاربتها بذريعة الإرهاب، لتتحقق نبوءة هنتجتون بأن القرن الحادي و العشرين هو الصراع بين الإسلام و الغرب تحت عنوان محاربة الإرهاب.
- جدة