(1)
ليست قليلةً: الأشياء التي تمسك بكَ كي تبقى «هنا في شرق المتوسّط».
ليست قليلةً: العلاقات الإنسانيّة الموزّعة بعشوائيّة بين الأهل والرفاق والجيران والزملاء، وأخرى في وجوه لا تعرف أسماء أصحابها لكنك تعوّدت رؤيتهم في محيطك، والتعوّدُ بعضُ أمنٍ.
الحالات والأشياء والأماكن والأشخاص، كلّ هذا التراكم الثقيل ليس سهلاً إزاحته جانباً والابتعاد عنه بيُسرٍ دون وجعٍ ما؛ هذا التشابه المزعج والمألوف لقلبك والمغضوب عليه بقدر ما يريد أن يمحو تفاصيلك في تشابهه بقدرٍ ما تحتاج إلى قوّة لنزعه من روحك المكلوم. كلّ هذا التعوّد والرفض والألفة والغضب بعضُ أمنٍ، كلّ هذا ليس قليلاً، فلماذا الهجرة؟ لماذا التفكير بها.
* جميعها وإنْ وزنت قدر ما تزنُ، لا تعادل الحرية.
(2)
في المقابل، أيّها الرائي لهذه الأشياء والوفيّ لهذه الشبكة من العلاقات العشوائيّة، ليست قليلةً تلك محاولات الآخرين من حولك التي باتت تخنقك لشدّة تدخّلاتها في طريقة تنفّسك ومواعيده: ليست قليلة الأشياء التي تنزع راحتك، الأحوال التي تقضي على طمأنيتك.
تكبر أفياء المقصلة كلّما ارتفعت قواطعها ممدّدة في «شرق المتوسّط»، والسنبلة نَبتَةٌ مُفخّخة.
* دون حريّة، إذاً، أنتَ دون الفطام، تحت الوصاية كاملة.
(3)
الحيرةُ:
كيف ترحل عن «شرق المتوسّط» ولا تغضب من يُحبّك فيه؟ ثمّ كيف يقبلك (الغرب) وأنت محمّلٌ بهذه التراكمات، وبقائمة طويلة من الاشتباه، وفي عنقك –إن كنت بريئاً- وزر إخواتك الذين يرمون بعضهم في الجُبّ ثمّ يتّهمون ذئب الغرب؟! ونفسُكَ مضطربة لهذا السلب الكامل لحريتك حتّى لكأنك لا تعرف كيف تستخدمها إن أبيحت لك الآن.
* هل الحريّة كالأبجديّات إذا تأخّرتَ في إباحتها صَعُبَ عليكَ إدراكها؟!
(4)
يخبرنا نجاحُ التشريع في ضبط سلوك الإنسان على مرّ التاريخ وتطويره: (أنّ الإنسان ليس كائناً نهائيّاً) كما يتصوّره أعداء الحريّة والتطوّر؛ ماذا يعني هذا التصوّر؟
إن كان الإنسان ووعيه عالقين في ثباتٍ نهائيّ كما يتصوّره التقليديون فإنّه لا قيمة أو لا فاعلية لوجود التشريع حيث مصيره الفشل لأنّ الإنسان لا يتغيّر ولا يتأثّر.
فهل نجح التشريع أم بقي الإنسان كائناً متوحّشاً ونهائياً! ليس هذا سؤالاً وإن بدا، إنّما إجابة: فانظر الفوارق التي لا حصر لها بين إنسان كلّ عصر، وانظر كيف كان وأين هو الآن!
(5)
مثلاً: هل تنتظر توقّف الناس جميعاً عن (القتل) حتى تشرّع قراراً بتجريمه؟ هل تعلم أن نشوء تشريع تجريم القتل يعني: (أن الإنسان يقتل) وأنه بحاجة إلى تشريع (لا تقتل)، وإلا فما جدوى التشريع؟
فإن كان الإنسان متوحشاً وكائناً نهائياً ومكبّلاً بثبات بيولوجيّ في وعيه فما فائدة الشريعة إذاً؟ ما فائدة السلطة حينذاك؟ ما فائدة الحريّة؟ ما فائدة كلّ القيم والتصوّرات والمحاولات ؟ ما فائدة تشريع (لا تقتل) إن لم يستطع التشريع تحويل الإنسان من كائن (يقبل القتل بانتشار واسع على أنّه وسيلة للحياة) إلى كائن (يرفض القتل ويعتبره وسيلة للفناء، ويجعله استثناء ومحظوراً)، فنحن هنا أمام تطوّر في الوعي كان التشريع على أرض الواقع مسؤولاً عنه، ولم يكن من مسؤوليّة الفكر والتعليم.
وهذا التصوّر المنطقي في حجته وسياقه ينطبق على بقيّة القوانين والأخلاق، فالأخلاق لا تظهر بالوعي والفطرة إنما تبعاً لقوانين التطوّر التشريعي التي بدورها تتطوّر استناداً إلى حركة الواقع، وهاتان الحركتان: حركة الواقع وحركة التطوّر التاريخي يولّدان ما يمكن تسميته بمجموعة من الأخلاق المشتقة من فهم الإنسان لهاتين الحركتين وتأثره بهما، فالأخلاق لا تأتي بانتشار الوعي إنما تفرض بالقوة ثمّ يأتي انتشار الوعي بعد ذلك، ولا يمكن الرهان عليه.
هكذا الحريّة أيضاً، لا يمكن أن تنتظر الناس حتى يكونوا على وعي ومسؤولية بها حتى تشرّعها، حينذاك، إذا كان الناس جميعاً على وعي الحريّة ومسؤوليّاتها دون خشية قانون بل من طباعهم وطبعهم وإرادتهم، وعلى استحالة حدوثه، فإنّك لا تحتاج إلى تشريع، بل حينها تسقط القوانين الردعيّة كلّها ولا يبقى مبرّر لوجود السلطة، وهنا تحديداً تظهر الثغرات الكبرى في فكرة الخلاص والإنسان النهائي والسلام الأبدي الأرضي وكلّ التصوّرات الطوباويّة التي تحلم بنموذج إنساني خالي من الصراع، وهو ما يتعذّر حدوثه تبعاً للمعطيات التاريخيّة والعلميّة والطبيعيّة حتّى تاريخه، فالصراع جزء من طبيعة الحياة والأحياء.
لذلك لا تكون الحريّة ثم الوعي بها وبمسؤولياتها ما لم تشرّع بقانون يلزم الناس بالقوة باحترام حريات الآخرين وعدم التدخّل في شؤونهم، وبقيّة الحريّات المدنيّة (الحرية السياسية، حرية المعتقد)، وأيّ من يجرح حريات الآخرين إنما يكون قد ارتكب ما يجرح حريّته نفسها.
(6)
وأنت أيّها المبتلى بالذوبان، والسعيد بمحو تفاصيلك، ما ضرّك تفاصيلي إن كنتُ على سرّ أو علانيّة منها ولم أضرّك بشيء: ماذا يضرّك لوني؟ ماذا يضرّك معتقدي؟ ماذا يضرّك مَنْ أبواي؟ ماذا تضرّك صحّتي أذيتها أم حافظت عليها؟ ما ضرّك إن لم أضرّك بشيءٍ؟ انظر إلى صنيعي، تقول الحريّة.
وتقول: ثمّ لماذا كلّ هذا العداء للغرب بكلّ مكوناته وأنت تنهل منه كلّ مقوّمات حياتك، ألأنّه أباح الحريّة كحقّ من حقوق أفراده أمّا لأنّه الصانع والمنتج أم كلاهما؟؟ ولماذا تحمل في يمينك ميزاناً تزعم أنه من التقوى وتقيس به الآخرين وأعمالهم وكلامهم وتصوّراتهم (تنبذ ذاك وتقرّب هذا، تطعن في ذاك وتزكّي هذا) وميزانك ليس المنفعة والإنتاج إنّما التشابه والاختلاف أيّها المأزوم بالرمل: كيف تكون أنت مرجع العالم كلّه وأنت في التيه ترعبك فوبيا البوصلة وتحاصرك وساوس مؤامرة كلّ من يزعم أنّه دليل في هذا التيه!! كيف تخرج إذاً.
انظر إلى هؤلاء الصانعين الذين جعلوا حياتك بين يديك وطيّعة كما لم تكن من قبل: هل ضرّك أنهم صنعوا المضاد الحيوي الذي قهر الحُمّى ورفع متوسّط عمر الإنسان؟ هل ضرّك أنهم حوّلوا الزراعة المحدودة إلى صناعة غذائيّة قادرة على تخفيف ظهور المجاعات؟ هل ضرّك أن جعلوا العالم بمكتباته وخرائطه ومدنه ومعلوماته وإحصائيّاته وكلّ تفاصيل ثقافات شعوبه بين يديك؟
(7)
كلا، الإنسان وإن كان جذره التوحّش إلاّ أنّ الذي يجعله إنساناً، هو هذا الطريق الذي يمشي به كي يختلف عن الحيوان في وعيه وتطوّرات الوعي، وعدم رضوخه واستسلامه لحالة أن يكون له معنى نهائيا وحقيقة نهائية.
* ولكن، هل هذا الإنسان بهذا الشرق قادرٌ أن يمشي قبل أن يفطم من حالة الاستسلام الكامل للتاريخ الميّت، قبل أن ينفصل عن حلمة الإنسان القديم في حالاته التاريخيّة القديمة ومعارفه الأوّلية.
* هل شيءٌ من هذا يقودنا: لماذا العنف والتطرّف ليس بمستغرب عن إنسان هذا الشرق؟ أنّه إنسانٌ قديمٌ، ولا يعترف بتحولات الإنسان، فكيف يتحوّل ويتطوّر؟
(8)
أيتها الدلالات الفاتنة في روحي: التطوّر، التحوّل، التبدّل، التغيّر، التقدّم، ... أيتها السائرة إلى ما تشائين -وعيت بذلك أم لم تعي، عوا خصومك أم لم يعوا- ها أنت سائرة تمسّين ما يتوجّب عليه التحوّل والتطوّر، ومن شاء أن يكون في هذا السير فقد اتقّى شرّ الوقوف بوجهك، ومن شاء الثبات النهائي فليبق عند حدوده الأولى: (رضيعاً في حجر أمّه)، ولينتظر ويلات ثباته وعواقبه هذا الجمود في التيه.
(9)
وأنتَ أيّها الشرق، يا شرق المتوسّط: أما حانَ لكَ أن تُفطمَ...!
- جدة