لا يُلِحّ شَبَقيًّا على ادِّعاء ما ليس له إلّا شاعرٌ بالنقص، مسكونٌ باللا انتماء، محاصرٌ بالفراغ التاريخيّ. ونحن نسلِّم بما قرّره الباحثون في التاريخ والحضارة أن جزيرة العرب كانت مهد الجنس السامي ومرباه، تدفَّقتْ منها موجات الشعوب الساميَّة موجةً إثر موجة، في هجرات متتالية عبر مدارج التاريخ، وبقي من الساميِّين جنسٌ واحد في الجزيرة العربيَّة، هو الجنس العربي.(1) وكان من تلك الموجات العبرانيُّون الذين نبتوا في الموجة الساميَّة المهاجرة نحو بلاد الرافدين، ثمَّ، لأسباب دِينيَّة، فرّوا من هناك إلى (فلسطين)، حتى ما لبثوا أن استولوا عليها. أمّا الانطلاق تحت شعار الساميَّة للقول بحقوق تاريخيَّة في الجزيرة العربيَّة لتلك الشعوب المهاجرة، فكالقول بحقوق تاريخيَّة للبشر كافّة في جبل (سرنديب بالهند)؛ لأن آدم أُهبط هناك، حسب بعض الأساطير(2)، أو القول بحقوق تاريخيّة للبشر كافّة في الحجاز؛ لأن (آدم) و(حوّاء) تعارفَا على جبل (عرفات)، ودُفنت أُمُّنا حواء في (جُدَّة)، حسب أساطير أخرى.(3) وما يقول بهذا رجل رشيد.
إن الأصل التاريخي للساميِّين المهاجرين في جزيرة العرب إنما كان قبل التاريخ بعصور سحيقة، وهو أمرٌ يتعلّق برجلٍ اسمه (سام بن نوح)، قيل إنه كان وأولاده في بقعةٍ تاريخيَّةٍ ما، ثمَّ صار هؤلاء الأولاد قبائل وشعوبًا شتَّى، تفرّقت بهم الهجرات والأوطان والأقاليم، كسُنَّة الله في خَلقه. منهم (الأكاديُّون)، و(الكنعانيُّون)، و(الفينيقيُّون)، و(الآراميُّون)، والساميُّون في بلاد (الحبشة)، وربما كان منهم (الفراعنة)(4) أيضًا و(الأمازيغ)(5). فما (العِبريُّون) ببِدْع من تلك الشعوب التي انحدر أسلافها الأوّلون من جزيرة العرب، شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، منذ فجر التاريخ. وإنْ رأى بعض الباحثين أن سامًا الذي يفاخر العبرانيُّون بانتمائهم إليه، بل يُظهر الصهاينة في العصر الحديث احتكار ذلك الانتماء، ويعلنون في العالم حساسيَّةً عنصريَّةً مفْرطةً يصنِّفونها بـ»اللا ساميَّة»، أصبحت تُهمة يوظِّفونها لتصفية المفكرين وأصحاب الرأي المختلفين مع خزعبلاتهم التاريخيَّة أو المعاصرة(6)، تلك الساميَّة ليست نسبة إلى (سام بن نوح)، بل إلى (سومو أبوم)، الملك البابلي الذي حكم ما بين النهرين 2225- 2211ق.م. ويعني اسمه: «الأب سام»، وهو الذي عبَّرتْ عنه «التوراة» بأنه «أَبُو كُلِّ بَنِي عَابِرَ»(7). ونحن نعلم أن البابليِّين أنفسهم ساميُّون، والأكاديُّون من قبل، والآشوريُّون من بعد كذلك؛ فهم من نسل تلك الهجرات البشريَّة التي انبثّت من شِبه الجزيرة العربيّة إلى بلاد الرافدين قبل نحو ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد. فلئن صحّ ذلك الافتراض بأن ساميَّة العبرانيِّين هي انتساب إلى (سومو أبوم)، فذلك يعني أن لا صِلة لهم بجزيرة العرب، ولا حتى لجدّهم عابر أو سام، بل هم ينحدرون من أصول بابليَّة عراقيَّة.(8)
ولقد أراد اليهود أن يُحرِّفوا مسار الدعوة الموسويَّة من حركةٍ إنسانيَّةٍ ضِدّ الظُّلْمِ والطغيان، وضِدّ استعباد البشر للبشر، وثورةٍ في وجه السحر والشعوذة والخُرافة وتأليه الأصنام، إلى محض حركةٍ عنصريَّةٍ، تُرابيَّةٍ، موجّهةٍ إلى شعب مختار إلاهيًّا، ومن أجل أرضٍ موعودة إلاهيًّا كذلك. لم تكن ثورة اعتقاديَّة فِكريَّة في مِصْر، إذن، بل كانت هَبَّة إنقاذيَّة لمستضعفي بني إسرائيل وحدهم من العبوديَّة، لا أكثر. هكذا رسموا الصورة في كتابهم الذي كتبوه بأيديهم ثمّ قدّسوه. وهكذا جعلوا دِينهم دِينًا عنصريًّا، لا بشريًّا ولا تبشيريًّا. وهنا يأتي المؤرِّخ العربي- حسب النموذج المتمثِّل في (كمال الصليبي)- ليزيد الطِّين بِلَّة؛ فيُمعن أكثر في تقميء رسالة (موسى، عليه السلام)، حين يجعله شيخ عشيرة متخلِّفة في صِقْعٍ ما من مجاهل الجُغرافيا، وكذلك يُصوِّر سائر الأنبياء من قبله ومن بعده. فلا الكاتب اليهودي كان عقلانيًّا منصفًا، ولا المؤرِّخ العربي- في ردّة فعله- كان قادرًا على الموازنة بين هوسه التأويلي لما اقترفته يد الكاتب اليهودي وبين تقدير هؤلاء الأبطال الإصلاحيِّين التاريخيِّين، وإنْ لم يؤمن لهم بنُبوَّة. غير أنه، في هذا المعمعان، لا يمتلك دليله العِلميّ على ما ينقض به الصورة التوراتيَّة، ولا دليله العِلميّ على ما يشيد به بديلًا كُلِّيًّا مقنِعًا عِلْميًّا، وربما لم تتركه نعرته الإديولوجيَّة المضادَّة، في الوقت نفسه، ليتّخذ بين ذلك سبيلًا، لا يؤسطر الرواية برُمَّتها، ولا يقبلها على عواهنها، كما سيقت في «العهد القديم».
ونحن لم نَسُق هذا النموذج إلّا شاهدًا على ما يعتمل منذ سنين في ردهات التاريخ وبطون المكتبات، وبطوايا مختلفة. ومع أنها قد سيقت في بعض مزاعم الصليبي تفنيدات متباينة منذ صدور ك تابه الأوّل، غير أن قراءتنا في أعماله هي أوسع مراجعة لمزاعمه حول جغرافية التوراة وعلاقتها بجزيرة العرب. إضافة إلى ربطها بمتوالية تالية من الأعمال على الدرب نفسه، سوف يلحق عنها الحديث.
أجل لقد طرح الصليبي أسئلةً مهمَّة، وشُبَهًا مثيرة، ما في ذلك شك، ولكن لا هو برهن على إجاباتها عِلْميًّا، ولا هي واجهتها ردود تحقيقيَّة، تساويها نفيًا أو إثباتًا. إذ لا إشكال، من وجهةٍ علميَّةٍ في أن يكون بنو إسرائيل أو غيرهم قد عاشوا في الجزيرة العربيَّة، لكن الإشكال هو الإشكال المنهاجي، حينما يتصدَّى باحث لافتراضات يُفضي من خلالها إلى نتائج عُظمى، يوهِم فيها بقلب حقائق تاريخيَّة وجغرافيَّة متواترة، ثمَّ لا يقدِّم من أدلَّة سوى افتراضات عامَّة وتشابهات حروفيَّة سطحيَّة، لا تتأسَّس على بحوثٍ ميدانيَّة يُعتدّ بها، ولا على معرفةٍ بيئيَّة، ولا على دراية لغويَّة، ولا على استقصاءات معرفيَّة تاريخيَّة، تتناسب مع الدعوى الكبرى التي قدَّم، فضلًا عن أن تقوم تلك الدعاوَى على براهين أثريَّة.
** ** **
(1) انظر: ديورانت، وِل وايريْل، (1971)، قِصَّة الحضارة- الشرق الأدنى، ترجمة: محمَّد بدران (بيروت: دار الجيل)، ج2 م1: 309.
(2) انظر: المسعودي، (1996)، أخبار الزمان، تحقيق: عبدالله الصاوي، (بيروت: دار الأندلس)، 72؛ الطبري، (1960)، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمّد أبي الفضل إبراهيم، (مصر: دار المعارف)، 1: 121- 000.
(3) هذا اعتقاد قديم. ويُذكر أن الفُرس- المنسوب إليهم تأسيس (جُدَّة)- بَنَوا على الضريح المزعوم بنيانًا من الآجُرّ والجصّ، بقي إلى سنة 621هـ، ثمَّ تهدَّم. وكان الناس يتبرّكون بالقبر من أجل ذلك، بل ربما تبرّكوا بالمدينة كلّها؛ لأن فيها مثوى أُمّ البَشَر! ومن هنا قال مَن قال بتسميتها (جَدَّة)، بفتح الجيم، بناءً على ذلك المعتقد. (انظر: ابن المجاور، (1996)، صفة بلاد اليَمَن ومكّة وبعض الحجاز المسمّاة: تاريخ المستبصر، باعتناء: ممدوح حسن محمَّد (القاهرة: مكتبة الثقافة الدِّينيّة)، 61، 65). وإنما نشأت شُهرة هذا وأمثاله في عصور الانحطاط العقلي في العالم الإسلامي، إبّان شيوع القبوريَّات، والادّعاءات الغيبيَّة الكثيرة المعروفة، التي لا دليل عليها من عقل صحيح أو نقلٍ يُعتدّ به.
(4) ممّن يذهب إلى أن المِصْريِّين القدماء ساميُّون، أو «عرب»: (استيندرف، (1923)، ديانة قدماء المصريِّين، تعريب: سليم حسن (مِصْر: مطبعة المعارف)، 6- 7). وهو يذكر أن سكّان (مِصْر) كانوا- قبل الاجتياح من بدو الجزيرة العربيَّة الغزاة- أفارقة زنوجًا. والواقع أن آثارًا لغويَّة عربيَّة في المِصْريَّة القديمة دالَّة على تلك العلاقة. من ذلك، على سبيل المثال، كلمات كـ(أُنُّ)، وهي بالعربيّة: (عَين)، وهي كذلك في اللغات الساميَّة، ومنها البابليَّة: «إينو». وكانت في مِصْر تعني تحديدًا: (عين الشمس)، التي كانت لها قداستها. كما سَمَّى المِصْريُّون الشمس نفسها: (آتون)، وما (آتون) سوى (أتون)، بالعربيَّة، كما تقدَّم في حديثنا عن (أخناتون) في مقال سابق. ونادوا الإله الواحد الذي اعتقدوا أنه الموجِد للكون بـ»آتوم»، أي: «الأَتَمّ». وهو ما يمكن أن تلمح ظِلاله بنِسب متفاوتة وراء أسماء آلهة أخرى، كرع، وفتاح، وآمن. ومن مفردات شتَّى نجد كذلك اسم (نون)، بمعنى: الحُوْت، أو الماء الأزلي، و(هُوَّة)، بمعنى: الهُوَّة، أو الهواء. ومن ذلك أيضًا «خمنو»، وهو الاسم المِصْري لمدينة (هرموبوليس)، ويعني «ثمانية»، إشارة إلى الآلهة الثمانية، الذين اعتقدوا أن العالم نشأ من خلالهم. وكذا نجد ظاهرة التأنيث بتاء التأنيث في أسماء آلهتهم مثلًا: (نو)، وزوجته: (نوت)، و(هيهو)، وزوجته: (هيهوت)، و(كك)، وزوجته: (كيكيت)، و(نونو)، وزوجته: (نونِت). إلى غير هذه من الظواهر المعجميَّة والصرفيَّة. (في هذا يمكن الرجوع إلى سلسلة كتب (علي فهمي خشيم)، مثل: «البرهان على عروبة اللغة المِصْريَّة القديمة»؛ «العرب والهيروغليفيَّة»؛ «القِبطيَّة العربيَّة»؛ «آلهة مِصْر العربيَّة»؛ «بحثًا عن فرعون العربي»).
(5) يمكن الرجوع في هذا إلى كتاب «سِفر العرب الأمازيغ»، لـ(علي فهمي خشيم).
(6) في حين هم مقدِّسو العُنصريَّة، وجاعلوها دِينًا تاريخيًّا مصنِّفين غيرهم من الشعوب بـ»الجوييم»، أي الحُقراء، أو «الأُمِّيِّين»، الذين لا كرامة لهم، وليس عليهم فيهم سبيل. حول نشوء «اللا ساميَّة» وأسبابه، (انظر: ظاظا، حسن، (1987)، أبحاث في الفِكر اليهودي، (دمشق: دار القلم- بيروت: دار العلوم)، 111- 123).
(7) سفر التكوين، الإصحاح10: 21. وانظر حول هذه الفرضيَّة: السقّاف، أبكار، (1997)، إسرائيل وعقيدة الأرض الموعودة، (القاهرة: مكتبة مدبولي)، 58- 59.
(8) على أن النص التوراتي صريح في أن سامًا المقصود هو ابن نوح. (انظر: سِفر التكوين، 5: 32).
- الرياض
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify