ما الذي تحاول النجاة منه طوال الوقت؟
أن تكون مهجورًا مثل شوكة مكسورة؟
الفرار من ضفة لأخرى في ملحمة الشتات اللانهائية؟
نثر الكتب في كل بلاد تطؤها أقدامك التائهة، كأنك تستحضر ذكاء أبطال الحكاية القديمة في نثر الفتات لتكون رحلة العودة أسهل؟
هل هي أسهل؟
لا شيء في هذا العالم يبدو بسيطًا بالنسبة لك ما دمت مجرد عابر، تقبض على اسمك كما لو كان قشتك الأخيرة لئلا تغرق..
تتشبث بمتاعك كما لو كان نفَسك الأخير..
تجهز نفسك لاستخلاص الملح من بشرتك المحروقة..
لا شيء يجعل الأمور أبسط بالنسبة إليك.
أنت الذي تتذكر كل ليلة نبأ غياب أمك ولا تعرف كيف تمكنت من البقاء على قيد الحياة بعدها.
أنت الذي تعرف كيف أصبح الكلام غبارًا كما تقول جوليا بطرس في أغنية مراهقتك البائسة!
مرة أخرى، كما في ربيع القارة البعيدة الأخير، يؤرقك صوت تكات الساعة الرتيبة وأنت على فراشك تحت النافذة، تصادق العناكب التي تنسج بيوتها الواهية على وجهك بلا وجل، وتمرر يدًا خاوية من الحلم ولا تجفل!
تصطنع العتمة التي تخافها حين تغطي عينيك بلحافك الرقيق، تفكر بإطار صورتك القديمة بثياب تخرّجك، لحظة فخر ضئيلة بددتها سنوات التيْه، ولم يبق منها سوى شرخ في زجاج الإطار وندبة على وجنتك اليمنى وخط يشطر ظفر إبهامك الأيسر إلى ضفتين!
تضع قرب رأسك تقويمًا ترتب فيه جدول أعمالك يومًا بيوم، تنظر إليه لتجد أنك فوتّ أسبوعًا لم تكتب فيه ولم تفعل شيئًا عدا تبديد طاقتك في استحضار من قرر الرحيل دون أن يخبرك، «خسرت حربًا» دون أن تعرف ذلك كما تقول كارول سماحة، لم تعد تستشهد بأقوال كتّابك المأثورين واستبدلت الأغاني الجنائزية بكتب التاريخ الذي يكرر نفسه عليك كل ليلة! تنظر مرة أخرى إلى التقويم بصفحاته الوردية الفجة، تكتب مواعيد وأنصاف جمل لا يفهمها سواك، تنقر بقلمك على الصفحة، كأنك تلقنها رسالة بشفرة مورس، وليس لديك على الطرف الآخر من يتلقاها.
تقلّب رسائلك الأربعمئة على مهل، تفكّر في جمعها ثم رميها في سلة المهملات بضغطة زرّ، تصلي لينتابك الخوف وتحاول استرجاعها بضغطة زر آخر، ممتنًا للجهاز الذي يسألك بأدب جمِ: هل أنت متأكد من رغبتك في استرجاعها؟ تتصفح قاموسك المهترئ بحثًا عن كلمات تكتبها دون أن تشي بحزنك وشعورك بالخذلان، وتوقن أنها جميعًا تفعل.
تذهب في نزهتك الصباحية التي لا تفعل شيئًا سوى زيادة الشعور بالحريق في أصابع قدميك المتآكلة بالأكزيما الحادة، في محاولة يائسة لإلهائك عن آخر خيبة تركها لك الأصدقاء على عتبة بابك، ملفوفة بأناقة هدية عيد الميلاد، وتعيد تدويرها لتكون كرة تلعب بها على الشاطئ وحيدًا، وتصر على تسجيل الأهداف في مرمى الفريق الخصم الذي تلعبه بنفسك، منتشيًا بلحظة النصر القصيرة التي منحت شفتك المشقوقة ابتسامة ناقصة!
احمل حذاءك وقفازيك وقبعتك وعصاك، واترك ظلك الطويل ختمًا يمهر رسائل الأعوام القادمة.
بثينة الإبراهيم - الكويت