هذا الروائي الذي نحت اسمه بمسيرة إبداعه مميزة ووقفات إنسانية نبيلة. كتب الرواية والقصة القصيرة والشعر والمسرحية والمقال. واضعاً بصمة تجاربه في نصوصه وأفكاره وفي تعامله مع من حوله.
حين زيارته لمدينة أبوظبي في شهرمايو 2013 تم بيننا الحوار التالي والذي وجدته من بساطته وروعته يستحق أن أنشره بعد استئذانه، ليعكس ضوءاً على مرحلة عمرية أجدها مهمة لخصوبتها وتميزها والتي بلا شك أثرت في مسيرته الإبداعية.
في مقهى على شاطئ مدينة أبوظبي جلس متأملاً سطح البحر ولون الرمال بينهما. اختلست من الوقت برهة ووجهت له بعض الأسئلة وبكل حيوية اتتني أجوبته:
أستاذي ماذا تحمل من ذكريات الطفولة الأولى؟
استدار واضعاً نظارته الشمسية على الطاولة بيننا وأجاب: (أيام الدراسة الابتدائية بخشم القربة، كنت كتلميذ يتيم الأب وفقير، استمتع بمعطيات الحياة كما هي. ترافقني دوماً ابتسامة والدتي ودعواتها الطيبة مدندنة في قلبي شدو الأمل).
ابتسامته ذادت وهو يكمل ناظراً إلي: (أمي هي التي رعت وأشرفت وقامت بتربيتي وأرشدتني إلى سبل الحياة وعلمتني كيف استثمر الفقر في تلك السنوات المبكرة بخشم القربة).
وتابع حديثه رافعاً حاجبيه رافعاً يده اليمنى بمحاذاة كتفه الأيمن مشيراً نحو البحر مكملاً حديثه بنبرة جادة: (ومن ناحية أخرى كان علي أن أعمل خلال العطل المدرسية مع الخياطين: جمعة واليليا وجون تابان).
:تجربة مميزة حقاً!
واصل مبتسماً وملتفتاً للبحر على يمينه وكأنه يخاطبه: (في مرحلة لاحقة، في الثانوية عملت كبناء، مع البناء العظيم: عم الدود وتعلمت منه هذه الحرفة وفنها. كما اشتغلت بين هذا وذلك في المزارع بخشم القربة. وهي الحواشات بالمشروع الزراعي حينها،حيث عملت مع بعض الأطفال ناثراً للأسمدة الكيماوية).
ليس هذا فحسب، بل كما أردف: (عملت لفترة بسيطة في خشم القربة وأنا بالثانوي،عاملا في عربة شفط المراحيض).
صمت قليلاً وواصل حديثه: (ومن ثم عدت للبناء بعد التخرج من الثانوية)
سألته: متى كنت تعمل تحديداً؟
أجاب وهو يضع كوب الماء فارغاً أمامه: (عملت أيام الدراسة خلال الإجازات فقط بنظام يوم العمل الكامل).
: جيد، كم كان العائد المادي حينها و فيم كان إنفاقك ؟
أجاب هازاً رأسه كمن يؤكد معلومة: (أجري من العمل في المزارع 8 ريالات في اليوم....والأهم كنت أنفق النقود في شراء الكتب).
صمت قليلاً وأضاف مستدركاً: (عمل آخر قمت به في تلك المرحلة من حياتي، كنت أصنع عربات للأطفال وأبيعها. أصنعها من الصفيح والعلب الفارغة والخشب).
التفت إلي ووجهه يتسم بالجدية مضيفاً: (عدت للبناء بعد التخرج، ذلك عندما طردت للصالح العام وكنت معلماً للغة الإنجليزية).
تبسم مردفاً ببساطته المعهودة: (كانت طفولة غنية بالفقر والجمال)
:أستاذي لطالما سمعتك تقول بأن أفضل مكان للكتابة لديك في الغابات والأماكن المنعزلة بمعنى آخر في صدر الطبيعة، لم؟
أجاب كمن وجد ضالته: حيث نهر سيتيت الطبيعة الخلابة والهدوء المقدس. النهر الذي كانت على شاطئيه طفولتي وتكونت فيه ذاكرتي الأولى. وكان مصدر الطمأنينة ومصدر الخوف في ذات الوقت كان مكان اللعب والمرح ومكان الموت أيضا حيث اختفى في أعماقه الكثير من أصدقاء الطفولة وانتظرناهم طويلا ولم يعودوا.
حين سألته عن أول أعماله الإبداعية قال: (رواية تحت النهر، أول نص كتبته اسميته «تحت النهر»)
تابع كمن يرى شريط سينمائي يعرض مشاهد متتالية على صفحة البحر أمامه: (أذكر أخذني الأستاذ لكل فصول المدرسة وقرأته للطلاب. كان عبارة عن كراسة من 24 صفحة).
سألته: أكانت قصة؟
أجاب: (لا يا بنية ! كانت رواية!)
سألته: عن ماذا تحدثت في هذه الرواية؟ وكم كان عمرك حينها؟
بنصف ضحكة والتماع الذكرى الطيبة في عينيه: (عن طفل حملته جنية إلى تحت النهر، وهنالك لقي أهلها الشياطين..ولكنهم في النهاية طردوه).
أكمل بصوت مفعم بالمرح: (طردوه لأنه كان أشطن منهم! ههههه. آه عمري حينها كان حوالي 14 سنة أو أقل).
غادر الأستاذ بركة ساكن إلى الخرطوم بعدها، وبقيت ذكرياته الطيبة طازجة في ذاكرتي. دونتها وعدت إليها اليوم لأقوم بنشرها فوراً وهو الآن في غربته بالنمسا أهديه وولديه السلام وأطيب الأمنيات بمناسبة العام الجديد.
- آن الصافي