|
في جازان |
ثلاث مرات في غضون ثلاث سنوات قُدِّر لي أن أزور جازان أو جيزان لا أدري كيف أكتبها!! وقد كان رسم اسمها موضع خلاف واختلاف كما هو معروف بين القمتين والرمزين حمد الجاسر وعبدالقدوس الأنصاري رحمهما الله..
لم يطل المقام بي طويلاً بجازان في أيٍّ من الزيارات هذه..
وبالتالي، فلم يتبين لي بما فيه الكفاية حجم الجهد المبذول لتحديث وتطوير هذه المنطقة..
***
في كل زيارة لجازان كنت أشعر بسعادة كبيرة مع ساعات أثيرة أقضيها من عمري هناك..
وأخرج مشمولاً مثل غيري من زوارها بسخاء من العواطف ، وهي شيمة أهلنا هناك..
وما تركتها في أيٍّ من زياراتي الاّ وشعرت بالندم أن حائلاً صادفنا في الطريق وحال دون مزيد من الوقت كان ينبغي أن أقضيه بين جبالها وسهولها وبحرها الجميل..
***
وجازان بناسها، وأرضها يُحار المرء عندما يريد الاستدلال على أفضل ما يمكن أن يُقال من كلام عنها..
فهي امتداد ساحلي جميل..
وهي هضاب وجبال وسهول آسرة..
وجازان بلد زراعي متميز بأجوائه وتربته ومياهه، وتلك هبة من الله لأهلها الطيبين..
***
وهذه المنطقة على امتداد تاريخها عُرفت وعرّفت بأنها منبت للشعراء والمؤرخين والأدباء والإعلاميين والفنانين وذوي التخصصات النادرة في الطب والهندسة والاقتصاد وغيرها..
ومظلتها في كل هذا الذي يقال ويكتب ويروى عنها هو هذا الكرمُ، والشهامة، والتعامل الحسن التي تتصف بها حياة وسلوك وطبيعة الناس هناك..
***
ومنطقة بمثل هذه المواصفات..
وبكل هذا التميز..
بتاريخها المشرق
وموقعها المميز..
وبالنمو الهائل في عدد سكانها..
وبما حباها الله من وفرة في الخيرات..
فهي لذلك تحتاج إلى الكثير من المشاريع التنموية الملحة..
وإلى المزيد من الدعم لتطوير برامج التنمية فيها..
مثلما أنها تحتاج إلى الإسهام الفاعل والسريع من القطاع الحكومي والقطاع الخاص في إنجازات غير مسبوقة في فترة يتولى أمير شهم إمارتها..
***
فهنا في جازان كثافة سكانية كبيرة..
يقابلها بطالة كبيرة بين السعوديين..
والمؤشرات تنذر بالمزيد من فاقدي فرص العمل في أوساط السعوديين..
ما لم تتوافر للمواطنين فرص عمل بأعداد تستوعب هذه القائمة الطويلة والكبيرة التي ما زالت تنتظر..
وبنظري فإن الاستثمار الأمثل في هذه المنطقة المهيأة لإنجاح أي مشروع صناعي أو زراعي يأتي من الاهتمام أولاً بهؤلاء العاطلين كخيارٍ وحيدٍ لحل هذه المشكلة وتطوير المنطقة بمثل هذه المشاريع..
***
وحسناً فعل سمو أمير منطقة جازان الأمير فهد بن ناصر بن عبدالعزيز بتبنيه لعقد فعاليات مؤتمر اقتصاديات جازان تحت عنوان (الاستثمار الصناعي والعمل التعاوني الزراعي) ودعوته للوزراء المختصين ولرجال الأعمال للمشاركة معه في هذا التوجه السليم والجهد الخلاق نحو إيجاد صناعة وزراعة بمستوى أفضل في منطقة جازان.
***
لكن الأهم في هذا أن نرى التنفيذ..
وهذه مسؤولية كبيرة في أعناق هؤلاء الوزراء وأولئك الذين دعوا أو لم يدعوا من رجال الأعمال..
***
شكراً لأهلنا في جيزان، ولأميرها والمسؤولين فيها..
على كرم الضيافة..
وحسن المعاملة..
وما أحاطوا به المدعوين من تواصل حميم أثناء تواجدهم هناك..
والشكر أيضاً لابن جازان الوفي زميلنا الدكتور هاشم عبده هاشم رئيس تحرير صحيفة عكاظ الذي عزّ عليه أن يرى أسماء زملائه ضمن قائمة المسجلين في قائمة الغائبين في سجل الحضور فأصر على تواجدنا وحسناً ما فعل.
خالد المالك
|
|
|
مع اقتراب موعد نقل السلطة في يونيو مستقبل العراق ما بين الأحلام والكوابيس |
* إعداد إسلام السعدني
في غمرة الاضطرابات التي يموج بها العراق حالياً بات السؤال الحيوي والجوهري الذي يفرض نفسه بقوة على المشهد السياسي في عراق ما بعد صدام حسين هو: ما هي ملامح مستقبل هذا البلد الذي أصبح بين عشية وضحاها أحد أكثر البقاع الملتهبة في عالمنا اليوم ؟..
في هذا السياق، يطرح المحلل السياسي (هربرت دوسينا) في تحليل معمق نشرته جريدة (آسيا تايمز) رؤيته في هذا الشأن مستعرضاً التطورات المتلاحقة التي شهدها العراق منذ أن سقطت حاضرته تحت سنابك جنود الاحتلال في التاسع من إبريل من العام الماضي.
في غمرة الاضطرابات التي يموج بها العراق حالياً بات السؤال الحيوي والجوهري الذي يفرض نفسه بقوة على المشهد السياسي في عراق ما بعد صدام حسين هو: ما هي ملامح مستقبل هذا البلد الذي أصبح بين عشية وضحاها أحد أكثر البقاع الملتهبة في عالمنا اليوم ؟..
في هذا السياق، يطرح المحلل السياسي (هربرت دوسينا) في تحليل معمق نشرته جريدة (آسيا تايمز) رؤيته في هذا الشأن مستعرضاً التطورات المتلاحقة التي شهدها العراق منذ أن سقطت حاضرته تحت سنابك جنود الاحتلال في التاسع من إبريل من العام الماضي.
في بداية مقاله يكشف (دوسينا) النقاب عن أن (الأخضر الإبراهيمي) مبعوث الأمم المتحدة إلى العراق ليس وحده الذي يجري مشاورات تستهدف بلورة خطة متفق عليها لتشكيل الحكومة الانتقالية التي ستتسلم السيادة في بغداد بحلول موعد تنفيذ اتفاق نقل السلطة في الثلاثين من يونيو القادم، مشيراً إلى أن الإدارة الأمريكية لم تتخلف عن هذا المضمار من خلال إيفاد (روبرت بلاكويل) نائب (كوندليزا رايس) مستشارة الأمن القومي الأمريكي لشؤون العراق إلى بغداد لإجراء مشاورات مماثلة.
ويضيف (دوسينا) أنه على الرغم من تلك الجهود المتزامنة فإن أحداً لم يشعر بالدهشة إزاء الدعم الذي قدمه الرئيس الأمريكي (جورج بوش) لمقترحات (الإبراهيمي) بشأن تشكيل الحكومة العراقية الانتقالية، وهي المقترحات التي توصي بأن يتم نقل السلطة إلى حكومة تقودها هيئة مكونة من رئيس وزراء ورئيس للجمهورية ونائبين له، وأن تتولى الأمم المتحدة اختيار هؤلاء المسؤولين بالتشاور مع الإدارة الأمريكية ومجلس الحكم المعين من قبل واشنطن.
ويفسر الكاتب هذا الدعم باعتباره أحدث محاولات الولايات المتحدة للتصدي في أسرع وقت ممكن للقوى المناهضة لاحتلالها للعراق، وللحفاظ في الوقت نفسه على مصالحها الحيوية في عراق ما بعد الحرب.
ويقودنا الرجل بعد ذلك في رحلة مثيرة يستعرض فيها كيف تطورت الخطط الأمريكية الخاصة بالعراق من تلك الرؤى المتفائلة التي كانت تتحدث عن البقاء كقوة احتلال مباشر في الأراضي العراقية طالما كان ذلك ضرورياً، إلى خطط تتحدث عن نقل السلطة إلى حكومة عراقية ذات سيادة مع مواصلة أمريكا الإمساك بزمام الأمور في البلاد طالما اقتضت الضرورة ذلك، مضيفاً أنه بعدما ترنحت هذه الخطط بفعل اندلاع الانتفاضة التي عمت العراق أوائل الشهر الماضي صارت واشنطن لا تأمل سوى في أن تتمكن من البقاء في الأراضي العراقية من أجل ضمان مصالحها هناك على المدى البعيد.
ويبدأ (دوسينا) هذه الجولة من قبل الغزو بشهرين، وبالتحديد عندما أدلى (مارك جروسمان) وكيل وزارة الخارجية الأمريكية بتصريحات سعى فيها إلى التأكيد على أن بلاده ملتزمة بعدم البقاء في الأراضي العراقية يوماً واحداً أكثر من اللازم، وهي إجابة حاول (جروسمان) من خلالها التملص من تحديد موعد تقوم فيه الولايات المتحدة التي لم تكن قد غزت العراق حينذاك بعد بتسليم السلطة للعراقيين حال نجاحها في إسقاط نظام الرئيس العراقي (صدام حسين) الذي كان لا يزال في سدة الحكم في ذلك الوقت.
ويشير الكاتب إلى أن تلك التصريحات وغيرها أكدت أنه لم يكن لدى أمريكا في اللحظة التي وطأت فيها قواتها قصور (صدام حسين) الرئاسية في إبريل من العام الماضي أي خطط فورية للانسحاب من هناك . ويضيف أن المسؤولين الأمريكيين لم يكونوا يضعون مسألة إجراء انتخابات ديموقراطية في العراق تسفر عن اختيار خليفة لصدام في مقدمة أولوياتهم، مشيراً في هذا الصدد إلى تصريحات أدلى بها وزير الخارجية الأمريكي (كولن باول) عقب حرب الخليج الأولى عام 1991 وهي الحرب التي كان خلالها رئيساً للأركان حيث شكك (باول) في هذه التصريحات في مدى قدرة المجتمع العراقي على تقبل فكرة الديموقراطية على النمط الأمريكي. ويقول (دوسينا) إن التوجهات الأمريكية في هذا الشأن والتي لم تكن معنية بإرساء دعائم الديموقراطية في عراق ما بعد صدام حسين وهو ما بدا جلياً في الشهور الأولى للاحتلال
تناقضت مع الاستراتيجية التي تتبعها الولايات المتحدة في الفترة الراهنة على الصعيد الخارجي، تلك الاستراتيجية التي تنادي بنشر المفاهيم الديموقراطية في العالم، مضيفاً أنه كان يتعين وفقاً لهذه الاستراتيجية أن تعمل أمريكا على استغلال احتلالها للعراق لتطبيق النموذج الديموقراطي الذي تسعى لنشره في العالم.
وينتقل الكاتب إلى الثالث عشر من يوليو من العام الماضي عندما أقامت سلطة التحالف المؤقتة في بغداد مجلس الحكم الانتقالي المكون من خمسة وعشرين عضواً، ويشير إلى أن إنشاء هذا المجلس الذي لم يمتلك سوى صلاحيات محدودة لم يحمل في طياته أية خطط واضحة بشأن نقل السيادة أو وضع الدستور الجديد أو إجراء انتخابات في العراق.
أكتوبر العصيب
وكان شهر أكتوبر الماضي حاسماً إلى حد كبير في تحديد ملامح مسيرة أمريكا في العراق تلك التي لم تنته حتى هذه اللحظة، وهو ما يوضحه (دوسينا) بالقول: إن هذا الشهر شهد تبلور العديد من الصعوبات التي تعوق هذه المسيرة، والتي تتمثل في تصاعد حدة المقاومة للاحتلال سواء بشكل سلمي أو بصورة مسلحة، والتي بلغت حد شن ما بين 15 إلى 20 هجوماً على قوات التحالف يومياً في ظل تسرب تقارير استخباراتية تتحدث عن تزايد التأييد الشعبي لعمليات المقاومة، ويشير إلى أنه ظهر جلياً في أكتوبر أيضاً افتقار احتلال العراق للشرعية الدولية وهو ما حال دون قيام العديد من الدول بإرسال قوات إلى هناك أو تقديم مساعدات مالية لعمليات إعادة الإعمار، ومن بين العوامل التي ضاعفت من وطأة هذا المأزق أن استمرار نزيف الدم بالنسبة لقوات الاحتلال بات اختباراً حقيقياً لمدى جدية الدول المشاركة في التحالف فيما يتعلق بالبقاء في الأراضي العراقية.
ويؤكد (هربرت دوسينا) في مقاله أن هذه الصعوبات أدت إلى ظهور تهديدات خطيرة لبقاء قوات الاحتلال في العراق، خاصة وأن استمرار تزايد أعداد قتلى الجنود الأمريكيين هناك من شأنه عرقلة محاولات الرئيس الأمريكي للفوز بفترة رئاسية ثانية، مشيراً إلى أن الأمر لم يقتصر على هذا الحد فقد كانت هناك مخاوف من نفاد الأموال المخصصة لعمليات إعادة الإعمار لاسيما في ظل إحجام دول العالم عن تقديم المنح والقروض اللازمة لهذه العمليات من ناحية، وانخفاض حجم صادرات العراق النفطية عما كان متوقعاً من ناحية أخرى، وذلك إلى جانب الكوابيس التي تراود الكثير من الشركات متعددة الجنسيات إزاء صعوبة تحقق أحلام الإدارة الأمريكية في إقامة نظام اقتصادي في العراق يقوم على أساس اقتصاد السوق وهو ما يعني أن هذه الشركات حال إقدامها على الاستثمار في الأراضي العراقية ستكون مهددة بإمكانية مصادرة أموالها على يد أي حكومة قادمة في بغداد.
وأعاد (دوسينا) إلى الأذهان ما قامت به الإدارة الأمريكية على استحياء في الثالث عشر من أكتوبر الماضي من تقديم مشروع قرار جديد لمجلس الأمن الدولي يطالب مجلس الحكم الانتقالي بصياغة وتقديم خطة حول إجراء انتخابات عامة ووضع دستور عراقي جديد وذلك قبل حلول الخامس عشر من ديسمبر من عام 2003، مشيراً إلى أن سلسلة الأحداث التي وقعت بعد ذلك وضعت الإدارة الأمريكية في موقف حرج مما دفعها إلى التعامل مع هذا القرار بجدية أكبر، ومن بين تلك الأحداث فشل مؤتمر مدريد للجهات المانحة للعراق في جمع المبلغ المستهدف لعمليات إعادة الإعمار، وهو 56 مليار دولار حيث لم يتم سوى جمع 13 مليار دولار فقط خلال المؤتمر، فضلاً عن اشتداد عود المقاومة العراقية إلى حد أنها تمكنت في الثاني من نوفمبر من إسقاط مروحية عسكرية أمريكية مما أسفر عن مقتل 16 جندياً كانوا على متنها.
ثم يشير (دوسينا) بعد ذلك إلى خيبة الأمل التي انتابت العديد من الأوساط العراقية بعد تشكيل مجلس الحكم الذي اعتبره غالبية العراقيين وفقاً لأحد استطلاعات الرأي أداة في يد الاحتلال.
ويوضح أن بعض أعضاء مجلس الحكم وافقوا على الانضمام إليه كخطوة تكتيكية يسعون من خلالها إلى الجمع بين موقفين متناقضين، أولهما التعاون مع السلطات الأمريكية من خلال هذه العضوية، أما الثاني فيتمثل في توجيه انتقادات حادة إلى السياسات الأمريكية خارج المجلس، بل ومهاجمة الأفكار التي تتبناها إدارة (بوش) حول مستقبل العراق.
ويشير الكاتب إلى أن الخطة الأمريكية الأصلية بشأن عراق ما بعد نقل السلطة كانت تتمحور حول بقاء الولايات المتحدة هناك كقوة احتلال مباشر للوقت الكافي بالنسبة لها والذي تستطيع خلاله توفير المناخ الذي يلائمها لنقل بعض السلطات إلى حكومة عراقية ذات سيادة، والاحتفاظ لنفسها في ذات الوقت بسلطات كافية.
ولكن تقوض الآمال الأمريكية في هذا الصدد دفع أحد مسؤولي الإدارة الأمريكية إلى الإدلاء بتصريحات في نوفمبر الماضي أوردها (دوسينا) في مقاله يعترف فيها هذا المسؤول بأن (العراقيين لا يريدون أن تبقى واشنطن ممسكة بزمام الأمور في بلادهم لفترة طويلة لأنهم يروننا جيشاً محتلاً مهما تكن الأسماء أو الصفات التي نطلقها نحن على أنفسنا).
ويخلص (دوسينا) للقول: إن هذه السلسلة من الإخفاقات سواء على صعيد كبح جماح المقاومة أو فيما يتعلق بالفشل في الحصول على دعم سياسي أو مالي دولي للعمليات الجارية في العراق دفعت الولايات المتحدة إلى وضع خطة ثانية للتعامل مع الوضع في عراق ما بعد الحرب.
وهي الخطة التي يكشف الكاتب عن أنها كانت محوراً للمحادثات التي أجراها (بول بريمر) رئيس الإدارة المدنية الأمريكية في العراق مع كبار مسؤولي البيت الأبيض في واشنطن خلال الأسبوع الثاني من نوفمبر الماضي. ويعلق (هربرت دوسينا) على أهداف تلك الخطة التي تراجعت أمريكا من خلالها عن الاضطلاع بدور قوة الاحتلال المباشر بالقول إنها استهدفت امتصاص الحماس الذي يحرك عناصر المقاومة العراقية والقوى السياسية المناوئة للاحتلال إلى جانب الحصول على تأييد دولي يكفل لواشنطن تأمين وتمويل احتلالها للعراق، فضلاً عن طمأنة الشركات المراد دفعها للاستثمار في الأراضي العراقية إزاء أنها تستطيع تحقيق أرباح من خلال هذه الاستثمارات.
مجازفة أمريكا الاضطرارية
ويوضح (دوسينا) في الوقت نفسه أن هذا استلزم تخلي أمريكا عن جزء من سيطرتها على الأمور في عراق ما بعد صدام حسين وهو ما لم تكن الولايات المتحدة لتفكر فيه لولا حرج موقفها، مشيراً إلى أنه على الرغم من وجود مخاطرة كامنة في الإقدام على مثل هذه الخطوة، إلا أن الإبقاء على سيطرة جزئية كان أفضل على أي حال بالنسبة لواشنطن من فقد السيطرة بشكل كلي.
ويستعيد الرجل في مقاله الأحداث التي شهدتها بغداد عقب عودة (بريمر) بالخطة الجديدة من أمريكا، وفي مقدمتها توقيع ما عرف باتفاق الخامس عشر من نوفمبر، ذلك الاتفاق الذي يُحدد الخطوات التي أعلنت الولايات المتحدة أنها ستفضي في النهاية إلى إنهاء احتلال العراق بشكل عملي، وهي الخطة التي حددت الثلاثين من يونيو كموعد لنقل السيادة للعراقيين. ويشير الكاتب إلى أن نجاح هذا الاتفاق كان سيكفل للرئيس الأمريكي التخلص من معظم المشكلات التي كان يعاني منها بسبب الحرب في العراق سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، موضحاً أن هذا النجاح كان سيمكن (بوش) من الدفاع عن الحرب أمام الناخبين الأمريكيين من خلال الحديث عن العراق المستقل الذي يوشك على الظهور، كما أنه كان سيجعل الرئيس الأمريكي قادراً على الحصول على اعتراف دولي من شأنه إضفاء الشرعية على الاحتلال وتوفير الأموال والقوات اللازمة لتدعيمه وتأمينه.
ويضيف (دوسينا) أن إتمام عملية نقل السلطة بنجاح سيتيح الفرصة للحكومة العراقية الجديدة لتتبوأ مقعدها في مختلف المنظمات الإقليمية والدولية كعضو كامل العضوية وليس بصفة مراقب، وهو ما سيسمح للمستثمرين بالبدء في ضخ أموالهم في العراق بعد أن يشعروا بالطمأنينة لوجود حكومة تحظى بالدعم من قبل المواطنين العراقيين. ويواصل الكاتب استعراضه للنتائج الإيجابية التي يرى أنها كانت ستنجم عن نجاح الخطة الأمريكية الأصلية لنقل السلطة في نسختها الثانية ولكن هذه المرة على صعيد الوضع الداخلي في العراق، مشيراً إلى أن هذا النجاح كان سيؤدي إلى تعزيز حجج الرئيس الأمريكي بشأن ما يراه من دور قامت به بلاده ل(لتحرير ) العراقيين، ومن ثم سيتمكن (بوش) حينذاك من سحب البساط من تحت أقدام المقاومة التي يشكك عناصرها في الدوافع التي حدت بالولايات المتحدة لغزو العراق، وفي هذا الصدد ينقل (دوسينا) عن أحد مسؤولي البنتاجون قوله إن ( نقل السيادة سيؤثر إيجاباً على الأوضاع الأمنية في العراق لأنه سيدحض أحد الأسس التي ترتكز عليها إيديولوجية المقاومة العراقية، والتي تبرر عملياتها من منطلق أنها جزء من الحرب ضد قوة احتلال).
وهنا يؤكد الكاتب في مقاله أن هذه النقطة تحديداً تعد النتيجة الأهم للخطة بالنسبة للأمريكيين إذ إنها تعني أن الخطة كان يُراد منها أن تؤدي إلى انتفاء الطابع الاستعماري عن الوجود العسكري الأمريكي في العراق من الناحية الشكلية، إلا أن حقيقة هذا الوجود ستظل كما هي دون تغيير من الناحية الواقعية، مشيراً في هذا الصدد إلى أن اتفاقية الخامس عشر من نوفمبر اشتملت على الكثير من الضمانات التي تكفل للولايات المتحدة مواصلة السيطرة على الحكومة العراقية القادمة، وينقل (دوسينا) في ذلك السياق تصريحاً أدلى به أحد كبار مسؤولي البيت الأبيض لمجلة (نيويورك تايمز) وقال فيه (ستبقى لدينا العديد من الصلاحيات أكثر مما يتصور الأمريكيون بل وربما أكثر مما يعتقد العراقيون أنفسهم).
ويشدد (دوسينا) على أن نقل السلطة إلى حكومة يختارها العراقيون كان أمراً مستبعداً منذ البداية، مشيراً إلى أن المسؤولين الأمريكيين كانوا يتخذون موقفاً رافضاً بشدة لفكرة إجراء انتخابات عامة في العراق بدعوى أنه من المستحيل توفير الظروف الملائمة للإقدام على هذه الخطوة في وقت قريب.
وينقل في هذا الصدد عن (بريمر) قوله (إنني لست معارضاً لفكرة الانتخابات من حيث المبدأ ولكنني أرغب في أن يتم إجراء هذه الانتخابات بالشكل الذي يأخذ في الاعتبار المخاوف الأمريكية.. إن النتائج التي ستسفر عنها الانتخابات التي تُجرى مبكراً أكثر من اللازم قد تكون كارثية.. إذ إن تنظيم انتخابات في وضع كالذي نحن فيه الآن سوف يؤدي إلى فوز هؤلاء الذين يتخذون مواقف رافضة لوجود أمريكا في العراق، وحيال ذات القضية أيضاً ينقل (دوسينا) عن مسؤول رفيع المستوى في الإدارة المدنية الأمريكية في بغداد قوله: (إنه لا يوجد وقت كاف لهؤلاء ممن يتبنون اتجاهات معتدلة (في العراق) لتنظيم صفوفهم (، ويعلّق الكاتب على هذه التصريحات قائلاً: إنه على الرغم من إدارة الرئيس (بوش) كانت مقتنعة بضرورة إتباع النصيحة التي أسداها لها الكاتب الأمريكي المعروف (توماس فريدمان) والتي تمحورت حول ضرورة إفساح المجال للعراقيين لتقدم الصفوف مع أهمية أن يتوارى الأمريكيون في الخلف قليلاً خلال المرحلة القادمة إلا أن الإدارة كانت تود أن تستوثق من أن هؤلاء العراقيين الذين سيتقدمون الصفوف سيكونون على الشاكلة التي تريدها.
وينتقل (دوسينا) بعد ذلك للحديث عن الأسلوب الذي رأت واشنطن أن بوسعها الاعتماد عليه لاختيار من سمتهم ب(العراقيين المعتدلين) وهو النظام الذي يعتمد على اختيار هؤلاء من خلال مجالس محلية شبيهة بنظام المجمعات الانتخابية المتبع في الولايات المتحدة، وهي المجالس التي كان سيتم اختيار أعضائها من قبل القوات الأمريكية بمساعدة أحد المعاهد البحثية التي تعاقدت معها هيئة المعونة الأمريكية، حيث انتشر موظفو هذا المعهد البالغ عددهم نحو أكثر من 1600 شخص بين أجانب وعراقيين في مختلف أنحاء العراق من أجل اختيار شخصيات عراقية تلائم المعايير الأمريكية.
دروس العم سام !
ويقول (دوسينا) إن هؤلاء الخبراء قاموا
بتنظيم ورش عمل للتدريب على مبادئ الديموقراطية في العديد من المناطق العراقية من أجل إقناع المواطنين بمنح ثقتهم لسلطات الاحتلال ودعم خططها في بلادهم، ولكن ورش العمل هذه لم تخل كما يكشف لنا الكاتب من بعض المفارقات التي تمثلت إحداها في سؤال استنكاري طرحه أحد العراقيين ممن كانوا حاضرين فيها قائلاً: ( ما فائدة الانتخابات إذا كان الجميع يعرفون أن أمريكا ستختار القادة الجدد في العراق ؟
(وكان رد مسؤول الورشة متمثلاً في مطالبة هذا المواطن العراقي بأن يدرك ويساعد جيرانه وأصدقاءه على إدراك أن الانتخابات القادمة في العراق ستتسم بالنزاهة والديموقراطية، وأنه على الشعب العراقي التحلي بالصبر قليلاً !.
وبعد أن ينتهي (هربرت دوسينا) من توضيح الرؤية التي تبنتها واشنطن بشأن الانتخابات في العراق، ينتقل إلى نقطة أخرى وهي تلك المتعلقة بمصير القوات الأمريكية المرابطة حالياً في الأراضي العراقية بعد إتمام عملية نقل السلطة هناك، حيث يشير إلى أن تنفيذ هذه العملية لن يعني عودة تلك القوات إلى بلادها ولكنه يعني أن الجنود الأمريكيين سيتمركزون في أربع عشرة قاعدة عسكرية تعكف الولايات المتحدة حالياً على إنشائها في مختلف أنحاء العراق. وينقل (دوسينا) عن الجنرال (ريكاردو سانشيز) قائد القوات الأمريكية في العراق قوله: إن هذه القوات (ستظل هناك لمدة عامين قادمين على الأقل دون أدنى شك)، وهو ما اختلف بشكل ما عن تلك التصريحات المبهمة التي أدلى بها الجنرال (ريتشارد مايرز) رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة عندما سئل في نفس الموضوع حيث قال nحسبما ينقل عنه الكاتب n إن هذه المسألة (المتعلقة بمدة بقاء الجيش الأمريكي في العراق ) لا تزال غير واضحة. أما الجنرال (جاي جارنر) أول من تولى رئاسة الإدارة المدنية الأمريكية في العراق قبل أن يشغل (بريمر) هذا المنصب فقد كان يأمل بحسب ما أورد (دوسينا) في مقاله n في أن يدوم الوجود العسكري الأمريكي هناك قرناً من الزمان على غرار ما حدث في الفلبين على سبيل المثال.
وألقى الكاتب الضوء على مساعي الإدارة الأمريكية الرامية لتبرير هذا الوجود وإضفاء الشرعية عليه بعد التنفيذ المرتقب لعملية نقل السلطة وذلك من خلال تضمين اتفاق 15 نوفمبر نصاً يطالب بتوقيع اتفاقية بين مجلس الحكم والولايات المتحدة قبل نهاية مارس الماضي بشأن وضع هذه القوات بعد 30 يونيو حيث كان من المفترض أن يتم بموجب هذه الاتفاقية التي لم توقع قط حتى الآن تغيير هذا الوضع من وضع قوات احتلال إلى وضع قوات مرابطة في العراق بموجب دعوة عراقية رسمية، ويقول (دوسينا) إن هذه الاتفاقية على الرغم من أنها مشابهة للعديد من الاتفاقيات المبرمة بين أمريكا ودول عدة في العالم تنتشر فيها قوات أمريكية، إلا أن الفارق الجوهري بين تلك الاتفاقية والاتفاقيات المماثلة هي أنها لم تبرم عقب مفاوضات بين الإدارة الأمريكية وبين حكومات ذات سيادة ولكنها كانت ستبرم بعد مفاوضات بين الأمريكيين وأنفسهم تقريباً!.
من جهة أخرى، أوضح (دوسينا) أن من بين الخطوات المهمة التي اتخذتها الولايات المتحدة لتوفير حماية أكبر لقواتها المنتشرة في العراق تدريب مزيد من قوات الأمن العراقية لوضعها في الواجهة بينما يتراجع الجنود الأمريكيون إلى داخل قواعدهم، مشيراً إلى أن هذا لا ينفي أن وزارة الدفاع العراقية ستظل تحت القيادة الأمريكية حتى بعد نقل السلطة لأن واشنطن لا يمكنها أن تخاطر بترك جنودها يقاتلون تحت قيادة عراقية. ويلفت الكاتب الانتباه إلى أن استمرار بقاء القوات الأمريكية في العراق ومواصلة القيادة الأمريكية السيطرة على وزارة الدفاع العراقية من شأنهما وضع قيود على تحركات وقرارات أية حكومة قادمة في بغداد، وهو الرأي الذي يعبر عنه (ريتشارد مورفي) سفير أمريكا السابق في المملكة العربية السعودية والمحلل في مجلس العلاقات الخارجية حيث يقول إن مثل هذا الوجود سيمس إحدى أهم مسؤوليات أية حكومة ذات سيادة كما أنه سيؤثر على علاقات العراق بالبلدان المجاورة له والتي ستتأثر حتما باستمرار بقاء القوات الأمريكية في الأراضي العراقية وكل ذلك سيجعل من مسألة ظهور دولة عراقية مستقلة بحلول الثلاثين من يونيو أمراً مضللاً.
يد على الزناد
ويشير (دوسينا) إلى أن استمرار بقاء الجيش الأمريكي في العراق بعد تنفيذ اتفاق نقل السلطة سيجعله بمثابة بندقية مصوبة بشكل مستمر تجاه أية حكومة مقبلة في بغداد وذلك للحيلولة دون أن تتخذ هذه الحكومة قرارات تخالف المصالح الأمريكية، موضحاً أنه فيما لم تتورع الولايات المتحدة عن التدخل عسكرياً في بعض البلدان مثل نيكاراجوا وكوبا من أجل حماية مصالحها، فإن الأمر في العراق سيكون أبسط من ذلك بكثير حيث لن يعدو مجرد خروج القوات الأمريكية من القواعد المتمركزة فيها والتحرك نحو الأهداف المحددة لها. ويتحدث (هربرت دوسينا) بعد ذلك عن المحاولات التي قامت بها أمريكا لتأمين وجودها السياسي والعسكري في العراق من خلال إرساء الأسس اللازمة لتوفير بنية سياسية واقتصادية ملائمة لمصالحها هناك، مشيراً في هذا الصدد إلى الجهود التي تبذل من خلف الكواليس بالتعاون ما بين الجيش الأمريكي وبين الخبراء الفنيين من الإدارات التنفيذية الأمريكية المختلفة، إلى جانب المتعاقدين من القطاع الخاص وذلك بهدف بناء مجتمع عراقي يتفق مع مصالح ورغبات الولايات المتحدة من خلال إعادة تشكيل النظامين السياسي والاقتصادي في العراق، في عملية بلغت تكاليفها حتى الآن 18 مليار دولار وهي العملية التي تستهدف تغيير وجه البلاد في مختلف مناحي الحياة. ويلفت الكاتب الانتباه إلى أن كل هذه العمليات ستُدار فيما بعد من خلال السفارة الأمريكية في بغداد والتي ستعد الأضخم من نوعها في العالم بأسره، حيث سيتولى زمام الأمور فيها الدبلوماسي الأمريكي المخضرم (جون نجروبونتي) مندوب بلاده السابق في الأمم المتحدة وسفيرها المثير للجدل في هندوراس خلال الثمانينيات، تلك الفترة التي لعب فيها دوراً مهماً في تسليح ميلشيات (الكونترا) التي كانت تقاتل حينذاك النظام الحاكم في نيكارجوا، ويعود (دوسينا) بعد ذلك لتأمل ما حل بالخطة الأمريكية الثانية لإدارة شؤون العراق قائلاً: إنه على الرغم من الجهود المحمومة التي بذلت للحفاظ على اتفاق الخامس عشر من نوفمبر إلا أن الاتفاق بدا شديد التداعي بحلول نهاية مارس الماضي خاصة في ظل عدم احترام معظم التوقيتات المحددة فيه بشأن الخطوات التمهيدية لعملية نقل السلطة. ويؤكد أن الاتفاق بدأ في الترنح منذ إبرامه تقريبا خاصة وأنه لم يحظ بقبول كامل من قبل أعضاء مجلس الحكم على عكس ما بدا في أول الأمر، مشيراً إلى أن واشنطن فرضت إرادتها من خلال هذا الاتفاق على غالبية أعضاء المجلس المطالبين بإجراء انتخابات عامة مباشرة، ويشدد على أن أكثر ما قوض شرعية الاتفاق كان ذلك الموقف المعارض الذي اتخذه المرجع الشيعي الأعلى في العراق (آية الله علي السيستاني) حيال العديد من بنوده وتأكيد (السيستاني) على ضرورة إجراء انتخابات في العراق، ونجاحه في حشد نحو 100 ألف عراقي تظاهروا في قلب بغداد في التاسع عشر من يناير الماضي للمطالبة بانتخابات حرة في احتجاجات اعتبرت الأكبر في المدينة منذ الغزو. وأضاف الكاتب أن كل هذه العوامل مجتمعة دفعت الولايات المتحدة إلى التراجع عن خططها الخاصة بالمجمعات الانتخابية دون أن تطرح بديلاً متماسكاً لها يحدد كيفية تشكيل الحكومة التي ستتسلم السيادة في 30 يونيو على الرغم من أنه لم يبق الكثير على حلول هذا الموعد . ولم ينج من هذا التخبط قانون إدارة الدولة العراقية في المرحلة الانتقالية الذي اعتبر دستوراً مؤقتا للبلاد، حيث أشار (دوسينا) إلى أنه على الرغم من إقرار هذا القانون من قبل مجلس الحكم في الثامن من مارس الماضي إلا أنه قوبل بتحفظات متعددة من جانب العديد من القوى السياسية المؤثرة في العراق، إضافة إلى رفض صارم من جانب البعض الآخر حيال اعتباره وثيقة ملزمة، أما بالنسبة ل(السيستاني) فيوضح (دوسينا) أن المرجع الشيعي أكد أنه من المستحيل أن يعتبر هذا القانون قانوناً أساسياً للبلاد، ورفض مقابلة (الأخضر الإبراهيمي)، قبل أن يؤكد هذا الأخير بوضوح على أن قانون إدارة الدولة لن يشكل نقطة انطلاق لأية مناقشات بشأن العملية السياسية في العراق، وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا القانون ينص على أن كافة القوانين التي سنتها سلطات الاحتلال ستبقى ملزمة للحكومة العراقية القادمة، وأن القوات الأمريكية ستظل المسؤولة عن ضمان أمن العراق بعد تنفيذ اتفاق نقل السلطة. وأخيراً يرصد (دوسينا) علامة أخرى على انهيار الخطط الأمريكية لتحديد ملامح العملية السياسية في العراق من خلال الفشل في إبرام الاتفاقية الخاصة بوضع القوات الأمريكية بعد 30 يونيو، وهي الاتفاقية التي كان من المفترض توقيعها أواخر مارس الماضي، ويشير إلى أن هذا الأمر الذي لم يحظ بمتابعة جيدة من قبل الكثيرين شكل تحدياً للولايات المتحدة.
وأوضح الكاتب أن انهيار اتفاق نوفمبر تزامن مع تفاقم الوضع المتدهور في العراق، وتصاعد مشاعر الإحباط وخيبة الأمل هناك حتى بين الشيعة الذين تلاشت تدريجياً مشاعر السعادة التي انتابتهم لسقوط نظام (صدام حسين) ليحل محلها شعور بخيبة الأمل خاصة بعد أن عجزت الخطط التي تم الإعلان عنها بشأن نقل السلطة عن احتواء التوتر في الأراضي العراقية. وواصل الرجل استعراض المأزق الذي باتت الولايات المتحدة تواجهه في عراق ما بعد الحرب، قائلاً: إنه على الرغم من مرور أكثر من عام على الغزو، إلا أن وتيرة عمليات المقاومة لم تهدأ بل على العكس اتسع نطاقها لتشمل مناطق كانت هادئة فيما سبق، مشيراً إلى أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد بل ازداد سوءا بعد قرار الحكومة الجديدة في مدريد بسحب القوات الإسبانية من الأراضي العراقية، ذلك القرار الذي دفع دولاً أخرى أعضاء في التحالف للسير على نفس الدرب، وهو ما تواكب مع حادث التمثيل بجثث عدد من حراس الأمن الأمريكيين في مدينة الفلوجة، مما زاد من تضاؤل تأييد الرأي العام الأمريكي لاحتلال العراق.
وخلص (دوسينا) للقول إن كل هذه التطورات كشفت عن أن العناصر الأساسية للخطة الثانية التي وضعتها أمريكا بشأن العراق قد تقوضت بعد فشلها في كسب ثقة القوى العراقية الفاعلة، وهو ما جعل من المتعذر على الولايات المتحدة تحقيق الأهداف التي شنت الحرب لأجلها.
وأضاف أن آخر ما تتمناه الإدارة الأمريكية هو أن تتمخض عملية نقل السلطة عن ظهور سلطة عراقية على شاكلة مجلس الحكم الانتقالي الذي لا يحظى بأية شعبية، وهو الأمر الذي سيجعل هذه السلطة غير قادرة على مساعدة واشنطن على تنفيذ أهدافها في عراق ما بعد (صدام حسين)، مما يعني حسبما ينقل (هربرت دوسينا) عن السناتور الأمريكي (كارل ليفين) أن (نقل السيادة إلى حكومة عراقية لا تتمتع بقبول شعبي داخلي أو اعتراف دولي لن يؤدي سوى إلى تصاعد الهجمات التي تستهدف قوات التحالف الأنجلو أمريكي بالإضافة إلى وجود إمكانية لنشوب حرب أهلية).
وأوضح الكاتب أن الإدارة الأمريكية رأت في نهاية المطاف أن السبيل الوحيد المتبقي لإقامة حكومة جديدة قادرة على ضمان مصالح واشنطن في العراق يكمن في إيجاد حكومة عراقية صديقة تتمتع بنوع من الاستقلال والسيادة بما يكفل لها التأييد الداخلي والدعم الخارجي، وأن يكون هذا الاستقلال في الوقت نفسه في الحدود الني لا تضر بالمصالح الأمريكية.
وأشار إلى أن العنصر الرئيسي الضروري لكي تكون هذه الرؤية ناجحة من وجهة النظر الأمريكية هو أن تضمن توفير قدر من الشرعية للوجود العسكري الأمريكي في العراق، مؤكداً أنه دون توافر هذا العنصر لن تكون تلك الرؤية ملائمة لمصالح الولايات المتحدة في العراق.
الخطة الأمريكية الثالثة
وهنا يكشف (هربرت دوسينا) النقاب عن أن ملامح الخطة الأمريكية الثالثة بشأن الوضع السياسي في العراق باتت في طور التشكل حاليا، مستعرضاً أهم سماتها وعناصرها الرئيسية.
حيث يقول إن العنصر الأول في الخطة يتمثل في الالتزام بموعد تنفيذ اتفاق نقل السلطة تفادياً لاندلاع مزيد من الاضطرابات في العراق جراء رد الفعل المتوقع حيال أي إرجاء لموعد تنفيذ هذا الاتفاق، إذ إن من شأن مثل هذا الإرجاء تأكيد هواجس الكثير من العراقيين حتى من بين المتعاونين مع سلطات الاحتلال في دوافع أمريكا ونواياها بالنسبة لبلادهم.
ويوضح أن الالتزام بهذا الموعد سيؤدي إلى منح الرئيس (بوش) فرصة لكسب مزيد من أصوات الناخبين خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في نوفمبر القادم. ويشير (دوسينا) إلى أن العنصر الثاني يكمن في اعتماد إدارة (بوش) على الأمم المتحدة لتمرير المقترحات الخاصة بتسليم السلطة للعراقيين وإدارة البلاد بعد 30 يونيو، وذلك بعد فشلها في إقناع القوى السياسية العراقية بسلامة الخطط التي قدمتها الإدارة الأمريكية في هذا الشأن، وهو ما يفسر كما يقول الكاتب الأهمية التي تعلقها الولايات المتحدة على مهمة (الإبراهيمي) الحالية في العراق. إلا أن الكاتب يستدرك قائلاً: إن ذلك لا يعني أن ( الأخضر الإبراهيمي) سيكون صاحب اليد العليا في هذا الشأن، مشيراً إلى أن الخطة التي يتحرك الرجل في إطارها لتشكيل الحكومة الانتقالية العراقية تعد أسوأ من نظام المجمعات الانتخابية الذي طرحته الولايات المتحدة من قبل في هذا الصدد وأقل ديموقراطية منه في الوقت نفسه، كما أن هذه الخطة تشكل بديلاً شديد السوء لإجراء انتخابات عامة مباشرة في العراق.
ويضيف أن تلك المقترحات تمنح مساحة مناورة كبيرة للإدارة الأمريكية فيما يتعلق بتحديد ملامح مستقبل عراق ما بعد نقل السلطة، قائلاً: إنه على الرغم من أن الكلمة الأخيرة بشأن تشكيل الحكومة الانتقالية العراقية ستكون ظاهرياً في يد الأمم المتحدة إلا أنه من المؤكد أن واشنطن ستبذل قصارى جهدها حتى لا تسفر هذه الحكومة عن ظهور شخصيات عراقية من شأنها الإضرار بالمصالح الأمريكية في العراق على المدى المتوسط والبعيد، ويلفت (دوسينا) الانتباه إلى أن هذا الأمر يعد من بين مهام (روبرت بلاكويل) نائب (كوندليزا رايس) الذي سبق وأشار إلى أنه موجود حالياً في العراق. ويضيف الرجل أن كافة الأنباء المتوافرة في هذا الشأن تشير إلى أن الأمم المتحدة لا تعتزم ممارسة ضغوط على الإدارة الأمريكية للتخلي عن الترتيبات التي وضعتها بشأن مستقبل عراق ما بعد الحرب، مشيراً إلى أنه حتى في حالة قيام حكومة عراقية انتقالية تتمتع بالسيادة فإن هذه الحكومة ستكون مكبلة بفعل وجود 130 ألف جندي أمريكي في البلاد، إضافة إلى أنها ستكون مقيدة بسبب اعتمادها على الهياكل السياسية والاقتصادية والتشريعية التي فرضتها الولايات المتحدة عليها.
حرب العراق الأخرى
وينتقل (هربرت دوسينا) بعد ذلك إلى نقطة أخرى وهي تلك المتعلقة بسبل التعامل مع المقاومة المسلحة والمعارضة السياسية التي تواجهها الولايات المتحدة حالياً في العراق، حال استمرارها في الوقوف ضد الخطط الأمريكية لنقل السلطة، حيث يشير إلى ضرورة العمل على احتواء هذه المقاومة وتحييدها اليوم قبل الغد، أو تدميرها إذا لم تفلح محاولات الاحتواء.
ويشير إلى أنه من هذا المنطلق يعد قيام القوات الأمريكية بإشعال فتيل المواجهة مع الزعيم الشيعي (مقتدى الصدر) تحركاً صائباً على الرغم من أنه لم يكن محسوب العواقب بشكل دقيق في البداية..
ويضيف أنه على الرغم من أن آخر ما يمكن أن ترغب إدارة (بوش) في حدوثه قبل أسابيع من تنفيذ عملية نقل السلطة، وقبل شهور قليلة من انتخابات الرئاسة الأمريكية هو اندلاع انتفاضة عارمة في العراق، إلا أنه يشير إلى أن سلطة التحالف كما جاء على لسان الناطق باسمها (دان سينور) ترى أن الوقوف ساكنة دون الرد على التهديدات المحيطة بها يعد أمراً أكثر خطورة من اندلاع مثل هذه الاضطرابات.
وفي هذا السياق، ينقل (دوسينا) عن الرئيس الأمريكي قوله إن التعامل بعنف مع شخصيات مثل (مقتدى الصدر) يعد أمراً ضرورياً للمضي قدماً على طريق اتفاق تنفيذ اتفاق نقل السلطة، ويخلص الكاتب للقول: إن تلك التطورات تشير إلى أن الولايات المتحدة ترغب في أخذ القوى المناوئة لوجودها في العراق على حين غرة دون أن تتاح لهذه القوى الفرصة لتنظيم صفوفها أو الاستعداد للمواجهة وهو ما سيستنزف قواها الآن بحيث يجعلها غير قادرة على القيام بأي عمل عدائي ضد القوات الأمريكية في المستقبل.
ويمضي (دوسينا) قائلاً: إنه على الرغم من تصاعد مشاعر العداء للاحتلال في الأراضي العراقية، إلا أن العراقيين ليسوا على استعداد للانخراط في مواجهة طويلة المدى مع القوى العظمى الوحيدة في العالم، دون أن تكون لديهم المقومات اللازمة لخوض هذه المواجهة.
إلا أن الرجل يعود ليقر بأن عمليات المقاومة ستظل لها ديناميكيتها الخاصة التي تعززها تجربة ثلاثين عاماً من القمع والقهر على يد نظام الحكم السابق في بغداد، وهو ما سيدفع العراقيين إلى مواصلة العمل من أجل تشكيل قيادة موحدة تقود عمليات المقاومة ضد الاحتلال. ويضيف أن تواصل هذه العمليات وتصاعد وتيرتها واشتداد عودها سيدفع المزيد من أبناء الشعب العراقي إلى تأييدها ودعمها والانخراط في صفوفها.
وفي نهاية مقاله يؤكد (هربرت دوسينا) بأن الولايات المتحدة تواجه الآن في العراق التحدي الأخطر منذ احتلالها أراضيه، وهو ما يعني إمكانية اندلاع حرب أخرى في الأراضي العراقية، فقط من أجل تأمين بقاء القوات الأمريكية هناك.
ويضيف الرجل أنه بينما كانت الحرب الأولى للإطاحة بنظام (صدام حسين) حرباً اختارت إدارة (بوش) خوضها دون أن تجبر على ذلك، وكذلك كانت حرباً يسيرة المنال لعدم وجود تأييد شعبي للرئيس العراقي المخلوع، فإن الحرب الحالية هي حرب تخوضها القوات الأمريكية مجبرة، كما أنها حرب قد تثبت الأيام أنها أكثر صعوبة مما يتصور أحد لأنها في هذه المرة حرب ضد الشعب العراقي نفسه الذي قد يرى فيها n للمفارقة الشديدة حرب التحرير التي طالما تحدثت الولايات المتحدة عنها، ولكن في سياق مغاير تماماً.
.....
الرجوع
.....
|
|
|
|