يمكنني ويمكن كل فرد منا أن يتفهم بشكلٍ عقلاني ومنطقي حرص أصحاب وملاّك مختلف المنشآت التدريبية الخاصة (الأهلية) على تحقيق الأرباح وجني الأموال في أسرع وقت حتى وإن كان ذلك على حساب الجودة في المُنتج، فهذا حقهم الطبيعي كونهم قد وظفوا الأموال فيما يرونه مشروعات استثمارية تعود عليهم بالربح المعقول والمكسب المناسب طالما كانت اللوائح والأنظمة تسمح لهم بذلك ولو لم تكن هذه المنشآت التدريبية ذات عائد مالي مجزٍ لما كنا لنلاحظ انتشارها الغريب وكثرتها في كل الزوايا ومختلف الأركان بشكلٍ حدا بالبعض إلى أن يصفها (بدكاكين التدريب) غير أن ما يبعث في نفسي الحيرة ويجعلني أطرح العديد من التساؤلات بيني وبين نفسي هو توظيف أصحاب ومسؤولي هذه المنشآت التدريبية الخاصة للمتدربين كذريعة للوقوف ضد توجه المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني ممثلة بإدارة التدريب الأهلي عبر القواعد التنفيذية للائحة التدريب في منشآت التدريب الأهلية في رفع مستوى جودة التدريب الأهلي وزيادة كفاءته، إذ أظهر هؤلاء المُلاّك وأصحاب المنشآت التدريبية الأهلية في الفترة الأخيرة اهتماماً متزايداً بالمتدربين وحرصاً كبيراً عليهم في ألا يثقلوا كواهلهم بأعباء مالية كمسوغ لمنع المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني من المضي قدماً في سبيل إيجاد رؤية واضحة ومعايير جودة مقبولة لقطاع التدريب الأهلي إنني أتساءل عن مغزى هذا الحرص على المتدربين الذي ظهر لنا فجأة فأين كان مثل هذا الحرص عندما كانت هذه المنشآت ولا تزال تحرص على الكم لا الكيف؟ هل كان هناك في البدء أصلاً حرص على هؤلاء المتدربين بتقديم أفضل أنواع التدريب لهم والاهتمام بأن يتم تزويدهم بالتدريب المتوازي مع قيمة الأجور التي يدفعونها؟
ما يتفق عليه الجميع هو أن منشآت التدريب الأهلية كانت ولا تزال تحرص على تقديم الأقل مقابل الأكثر من الأجر سعياً وراء زيادة هامش الربحية.
إن القراءة الواقعية المتعمقة لواقع التدريب الأهلي والبحث العلمي الميداني عن جوانب القصور فيه تدل وبشكلٍ واضح على أن ما يتم تقديمه من تدريب يفتقد إلى الجودة المطلوبة - كأقل ما يمكن قوله هنا - وأن المخرجات التدريبية قد تأثرت سلباً بانتشار المنشآت التدريبية الخاصة وبحثها عن الربح حتى وإن كان على حساب جودة التدريب وكفاءته، إذ يلحظ العديد من المختصين هزالة ما يُقدم من تدريب واستمرار تدهور الحال التدريبي كأثر تبعي للمنافسة فيما بين دكاكين التدريب.
إضافة إلى ذلك فإن واقع التدريب هنا يدل على افتقاده للرؤية الاستراتيجية الواضحة التي تحدد مساره واتجاهه والشامل من أهدافه بما يخدم المصلحة التنموية والتطويرية لمختلف القطاعات العاملة والمنتجة سواءً كانت قطاعات عامة أو حكومية، كما أن الواقع التدريبي الحالي يعاني من افتقاده إلى آليات التقويم والتقييم والتحديث التي يمكن بناءً على معطياتها والمعلومات التي تقدمها أن تعمل على ضمان استمرارية تطور التدريب الفعلي وارتقاء مخرجاته وتحسين كفاءته ومواكبته للاتجاهات التدريبية الحديثة وتلبية احتياجات سوق العمل المتنوعة المشارب.
كما أن الحديث عن واقع التدريب الحالي ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار عدم وجود مظلة مرجعية واحة تعمل على ضبط معايير جودة التدريب بكل أنواعه والتنسيق فيما بين مختلف الجمعيات والهيئات والمؤسسات الحكومية ذات العلاقة بالتدريب والجمعيات والهيئات المهنية والتدريبية لتأطير أساس مرجعي تحتكم إليه مختلف المنشآت التدريبية ويكون مسؤولاً عن معالجة أوجه القصور في قطاع التدريب وإجراء الدراسات المرتبطة بفعالية التدريب وجودة مخرجاته ووضع المعايير التي ينبغي الاحتكام إليها كمقياس جودة وتصنيف، ذلك أنه بات من الواضح الحاجة إلى وجود مثل هذه المرجعية الواحدة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الأهمية المتزايدة للتدريب وكونه بات عنصراً أساسياً - جنباً إلى جنب مع التعليم - في عمليات التطوير الكلي والتنمية، إذ إن التدريب لم يعد قاصراً على من يبحثون عن الوظائف، بل أصبح عنصراً أساسياً يحتاجه الموظفون على رأس العمل بشكل دوري ومستمر في ظل التطورات متعددة الاتجاهات في سوق العمل المتصف بسرعة تغير احتياجاته ومتطلباته وتنوعها.
ولعل ما تقوم به المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني ولاشك خطوة في الطريق الصحيح في اتجاه إيجاد هذه الجهة المرجعية ذات الارتباطات المتعددة بمختلف الهيئات بحثاً عن تفعيل جهود التنسيق وتوحيدها والقضاء على من يقوم باللعب على الغارب في سوق التدريب وما حجم الاعتراض والانتقاد الذي نسمعه حالياً إلا دليل على صحة هذا التوجه، علماً بأن الانتقاد الموجه لإدارة التدريب الأهلي ينصب في الاتجاه المادي فقط، إذ يبدو أن مسؤولي هذه المنشآت التدريبية الخاصة لا يضعون صوب أعينهم سوى الربح المادي معتبرين أن التوجه المقترح يمثل (قناة للتحصيل وجباية الأموال)، متناسين تلك الأموال التي تم تحصيلها وجبايتها من جيوب المتدربين مقابل عائد تدريبي هزيل، هذا إن كان في الإمكان تسميته تدريباً، إن كانت الأموال التي سيتم تحصيلها من المنشآت الخاصة تهدف إلى ضبط جودة التدريب وانتشاله من الهوة التي يعاني منها فأهلاً بها وسهلاً إذ يكفي أنها ستنعكس بشكل إيجابي على هذه المنشآت التي أخفقت من قبل - على الرغم من مدخولها الهائل - من تطوير ما تقدمه من تدريب بل وينبغي أن تسعى إدارة التدريب الأهلي إلى مراجعة آليات وعمليات التقويم والتقييم والتصنيف وألا تألو جهداً في القيام قبل ما يمكن له أن يضمن متابعة العملية التدريبية ويؤدي إلى استمرار تدفق التغذية الراجعة عنها وبالتالي إيجاد مخرجات تدريبية قادرة على التنافس والحصول على ما تبحث عنه من عمل ذلك أن قطاع التدريب - متى ما تم ضبط جودته - سيساهم بشكلٍ فعّال في جهود توطين الوظائف والقضاء على البطالة.
لقد آن الأوان لأن نضع أيدينا على مواطن الضعف في قطاع التدريب وأن نقضي على كثيرٍ من المشكلات المرتبطة به ومنها التستر على سبيل المثال لا الحصر كما أنه آن الأوان لأن يلعب القطاع الخاص دوره التنموي الوطني على النحو المأمول والمطلوب وأن نطوي صفحة ذلك الزمن الذي يكون فيه الربح والمكسب على حساب الجودة والكفاءة. لقد أزف الوقت الذي ينبغي فيه على القطاع الخاص أن يلعب دوراً أكثر فاعلية من خلال تقديم مخرجات تدريبية مؤهلة بشكلٍ عال. من حق القطاع الخاص أن يربح ويجني المال ولكن لا على حساب الوطن الذي نريده أن يكسب أيضاً عبر تفعيل التدريب عالي الجودة.
إنني من هذا المنبر، أشد على أيدي المسؤولين عن التدريب الأهلي ألا يلتفتوا إلى محاولات الإعاقة وكبح جماح التطوير وأن يشحذوا كل الهمم في سبيل وضع أنموذج مشرف للعمل الحكومي تقتدي به قطاعات أخرى ذات احتكاك مباشر بالقطاع الخاص، باختصار جاء الوقت الذي يكون فيه الوطن وتطوره فوق أي مكسب وأهم من أي ربح.
abanom@hotmail.com