تحل اليوم ذكرى الانهيار الكبير الذي قلب حياة المواطنين رأساً على عقب، تبخرت معه الآمال، وتَفَتحت بسببه أبواب الآلام، وأصبح غالبية المستثمرين في حيرة من أمرهم، يتساءلون عن خلفيات الحدث الكبير الذي زلزل أركان السوق وعصف بمقوماته.
في مثل هذا اليوم من العام 2006 ارتفع مؤشر الأسعار العام حتى اقترب من ملامسة 21000 وهي نقطة المقاومة القوية التي لم يعتقد أحد بكسرها، ثم عاد منها متنازلاً عن بعض مكاسبه القياسية في فترة التداول الصباحية. في فترة التداول المسائية أُفتتحت السوق على انخفاض حاد بقيادة سهم الكهرباء الذي كان قد أغلق صباحاً على نسبته القصوى، ما أدى إلى هبوط المؤشر إلى ما دون 20400 نقطة.
اليوم الثاني للانهيار، الأحد 26- 2-2006 ، شهد موجة بيع جماعية في الدقيقة الأولى من التداول تسببت في زيادة حدة الهلع وملامسة أكثر من 60 شركة نسبتها الدنيا، وإغلاق جميع شركات السوق على انخفاض حاد باستثناء شركة واحدة 1.5 مليون سهم تم تنفيذها في الدقيقة الأولى للتداول كانت كفيلة لتنبيه المتداولين بخطورة الموقف، خصوصاً بعد أن اتخذت هيئة السوق المالية قرار تخفيض نسبة التذبذب إلى 5 في المائة وتنفيذه مع بداية تداولات يوم السبت 25 فبراير من العام 2006. خسر المؤشر العام في اليوم الثاني للانهيار ما يقرب من 980 نقطة تعادل 4.75 في المائة من مجمل السوق، وخسرت الأسهم ما يقرب من 144.5 مليار ريال من قيمتها السوقية مغلقة بذلك أبواب الأمل في عودة السوق أو استقرارها عند مستويات التصحيح المعقولة.
انشغل المواطنون بأخبار هيئة السوق المالية، وتحدثوا كثيراً عن مسؤولياتها حيال ما حدث في سوق الأسهم، وتناقلوا شائعات الإقالة وكأنهم يعزون أنفسهم بعد أن يأسوا من تعزية الآخرين لها!!. يوماً بعد يوم تحول (التصحيح الإستراتيجي المقنن) إلى انهيار تام ذهب بأموال المستثرين ومدخراتهم إلى غير رجعة. فقدت السوق أكثر من 2 تريليون ريال سعودي بعد أن وصلت إلى مستوى 6767 نقطة خلال عشرة أشهر تقريباً، أي بانخفاض 67 في المائة. أُسقط في يدي كل من اعتقد بإمكانية إيقاف السوق عند مستويات محددة، أو محاولة استخدام أسلوب الهبوط الآمن معها، واضطر الصامتون إلى الحديث بخجل لوسائل الإعلام، وليتهم صمتوا!!. تحول الجلاد إلى ضحية، وأُخذت الضحية بجريرة الآخرين.
كارثة اقتصادية قومية أصابت المواطنين، كشفت عن تدني مستوى الإدارة الاقتصادية التي لم تنجح في قراءة أزمة السوق قبل حدوثها، ولم تهبها القدر الكافي من الأهمية، ثم عجزت عن إدارتها والتعامل معها التعامل الأمثل ما ساعد في وقوع الكارثة الاقتصادية الكبرى في تاريخ البلاد. أرجع البعض سبب الانهيار إلى أمور كثيرة منها وقف عدد من المضاربين وتخوف آخرين من عقوبات مشابهة، وإلى قرار تحديد نسبة التذبذب وإلغاء الكسور، ومنع إعادة عمولات المضاربين، وهي أسباب تبدو ضعيفة مقارنة بسبب الانهيار الرئيس المتمثل في تضخم الأسعار الذي أسهمت الجهات الرقابية في حدوثه.
في المقابل كان البعض يشير إلى وجود خطة إستراتيجية مسبقة للعودة بحجم السوق إلى مستويات معقولة، ومتناغمة مع حجم الناتج القومي. الحقيقة أن جميع التحركات الرسمية التي حدثت قبيل الانهيار الكبير كانت تشير إلى توجه هيئة السوق المالية نحو تطبيق خطة مقننة لفرملة السوق وكبح جماح المؤشر خصوصاً بعد أن تعالت أصوات المحرضين، ولا أقول الناصحين، على أساس أن النصح كان يفترض أن يكون مرتبطاً ببداية شذوذ المؤشر، وتضخم الأسعار، لا أن يرتبط بقمته!!!. للأسف الشديد، تجاهل الفريق الاقتصادي إشارات الخطر التي أطلقها الناصحون مع تجاوز المؤشر مستوى 10000 نقطة صعوداً، وامتنعوا عن ممارسة دورهم الفاعل في تأمين القطاع المالي والنأي به عن الانهيارات، ثم مالبثوا أن عادوا للتدخل، على مستوى 20600 نقطة، بعد (خراب مالطا).
أسباب الانهيار
هناك أسباب كثيرة يمكن سردها في هذه العجالة، وهي أسباب منطقية لا يمكن تجاهلها أو التقليل من قوة تأثيرها، ولكني، ومع إيماني التام بها، أعتبرها أسباب متراكمة نتجت عن سبب الانهيار الرئيس، وهو عدم نجاح الفريق الاقتصادي في المحافظة على معدلات نمو السوق ضمن حدودها المعقولة المرتبطة بنمو الاقتصاد العام، وهو ما أشرت له بوضوح في العام 2005 قبل كارثة الانهيار، وعدم استطاعته التعامل بحرفية، وفق خطط الطوارئ، مع أزمة الانهيار. باختصار شديد، أجزم بأن كارثة تضخم أسعار الشركات، والمؤشر كانت السبب الرئيس الكامن خلف كارثة الانهيار، ولولا الارتفاع الحاد لما حدث الانهيار.
من يتحمل المسؤولية؟
يقال بأن الفشل لا أب له، وكذلك الانهيار. الجميع تبرأ من تحمل مسؤولياته؛ فالتركة ثقيلة، والخسائر فادحة، والنتائج مدمرة للاقتصاد والمجتمع على حد سواء. ثقافة تحمل المسؤولية لا يمكن أن تجد لها مكاناً في تقاليدنا السعودية، ويستعاض عنها، في معظم الأحيان، بإلقاء التهم جزافاً على الآخرين. بعد البحث والتنقيب في غالبية التصريحات الرسمية تبين لي أن مؤشر الاتهام يتجه دائماً نحو صغار المستثمرين الذين اتهموا بقلة خبرتهم في مجالات الاستثمار ما أدى بهم إلى السقوط في هاوية السوق وحبال المضاربين. الاتهامات لم تفسر لنا أسباب خسارة صناديق البنوك لأكثر من 60 في المائة من أصولها وهي التي يفترض فيها توفر الخبرة والكفاءة والتخصص الاستثماري!!!. لو طلب مني ترتيب المسؤولين عن أزمة الانهيار بحسب أولويتهم لقلت دون تحفظ:
الفريق الاقتصادي، بهيئاته الثلاث، الذي لم يستطع ضبط حركة الاقتصاد وحمايته من الكوارث المستقبلية، وتسببه في إرسال رسالات إعلامية مطمئنة تخالف في مضمونها وضعية السوق المتأزمة، ومن ضمنها آلية التدخل، وعجزه عن معالجة الأزمة بعد حدوثها، وحماية استثمارات المواطنين من التبخر. هيئة السوق المالية التي لم تستخدم أدواتها وأنظمتها للحد من تضخم أسعار أسهم الشركات الخاسرة، أو للقضاء على عمليات التدليس والغرر التي كانت تمارس على نطاق واسع. بعض كبار المضاربين، أو (المضاربون الجدد) الذين أسهموا في تضخيم الأسعار وأثروا على حساب المواطنين. صناديق الاستثمار التي دخلت سراديب المضاربة، وخالفت قوانين الاستثمار وإستراتيجياته المحافظة. بعض المحللين الماليين، ووسائل الإعلام المضللة. ثم صغار المستثمرين الذين أقحموا عنوة في سوق الأسهم تحت ضغط مهول من إغراءات الثراء المصطنعة التي تحولت في ليلة وضحاها إلى كوابيس مزعجة.
نتائج الانهيار
لا أظن أنني قادر على الإحاطة الانهيار الكوارثية، إلا أنه يمكن أن أقول أن من نتائج الانهيار المؤلمة خسارة الاقتصاد لأكثر من 2 تريليون ريال كان من الممكن استثمارها في قطاعات التنمية، فقدان الثقة بسوق المال، وتلاشي الطبقة الوسطى من المجتمع السعودي، وملامسة نسبة لا يستهان بها من الأسر والأفراد خط الفقر، تحمل أفراد المجتمع تبعات القروض البنكية، تعطل أدوات التنمية الفردية، وتنمية المجتمع الذاتية، ارتفاع معدلات الجريمة، وظهور المشاكل الأخلاقية، وتشتت الأسر.
الدرس القاسي
كارثة الانهيار يجب أن تكون درساً قاسياً للجميع، ومن خلاله يمكن معالجة الأخطاء، وكسب الخبرات، والعودة من جديد إلى الحياة من خلال الأمل والعمل الجاد، ومن خلال المحاسبة الصادقة. كارثة الانهيار يفترض أن تكون وقود الإصلاح الأمثل للسوق المالية وللاقتصاد الوطني. لا يمكن أن تترك أزمة الانهيار تتوارى خلف التاريخ دون أن تفتح ملفاتها المعقدة التي ألقت بظلالها على ثقة المستثمرين. من فضل الله وبركته أن حدثت أزمة سوق الأسهم في وقت يشهد فيه الاقتصاد السعودي أفضل حالته على الإطلاق وهو ما خفف من حجم الكارثة رغم عظمها، وساعد في إشعال جذوة الأمل بعودة السوق إلى نقطة التوازن. وضعية الاقتصاد القوية، والموارد المالية الضخمة تدفعنا للمطالبة باستغلال جزء منها لإصلاح وضعية السوق، والمحافظة على استقرارها، ومعالجة مالحق بها من دمار شامل، ومعالجة ما تسببت به من أزمات لصغار المستثمرين، خصوصاً الفقراء، المحتاجين، والمقترضين.
f.albuainain@hotmail.com