منذ القِدم والإنسان يعيش حالات نفسية وصراعات عملية سياسية واجتماعية وشخصية وجدانية واقتصادية دائمة من أجل البقاء والاستقرار والإحساس بالأمان في حياته اليومية.
فنجد الإنسان بسبب ردود الفعل الفيزيولوجية يحاول تكييف نفسه حسب طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه وتقبل الآخرين بجميع تصرفاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، مما يؤدي به إلى الضغط النفسي المزمن الذي قد يلازمه بصورة مستمرة أو بصروة شبه دائمة في حياته.
فهناك عدة دراسات تم إعدادها عن السلوك الإنساني في بيئة العمل، وهذه الدراسات ركزت على كيفية علاج المشكلات النفسية التي تتعرض حياة الإنسان العملية في عصرنا الحاضر.
فقد أوضحت نتائج بعض الدراسات والبحوث والتجارب العلمية التي تمت عن الضغط النفسي، باللغة الإنجليزية Stress، أنه نوع من أنواع ردود فعل الجسم الدفاعية تجاه المتغيرات والمؤثرات المؤلمة التي تحدث وتقع من خلال التجارب العملية والاتصالات الشخصية أو الجماعية التي يقوم بها الإنسان الذي يعتبر العنصر الأساس والعامل المشترك في حدوثها في منزله أو في عمله أو من خلال مقابلة ومخاطبة الناس أو القيام بمهمة صعبة مسندة إليه لتنفيذها لخدمة المجتمع.
وحسب مفهومي وخبرتي العلمية والعملية والتخصصية في الإعلام الدولي واختلاف الثقافات (International Media and Cross - Cultural Communication) سوف أتحدث بكل اختصار في الشرح عن ثلاثة محاور أعتقد أنها مؤثرة وتؤدي إلى الضغط النفسي في بيئة العمل اليومي الذي يقوم به الموظف في القطاع العام (الوظائف الحكومية) أو القطاع الخاص (المؤسسات والشركات التجارية الخاصة) وتشتمل على ما يلي:
1 - محور اجتماعي.
2 - محور اقتصادي.
3 - محور نفسي صحي.
* أولاً : المحور الاجتماعي: العلاقات الاجتماعية هي المركز الأول والمؤثر في تكوين شخصية الإنسان، فنجد أن كثيراً من الناس يقضون معظم أوقاتهم في بيئة العمل يعملون في بناء علاقات شخصية مختلفة الأشكال مع الآخرين من أجل الوصول إلى المصالح الشخصية أو التجارية أو السياسية.
طبعاً.. هذا يرجع إلى نوعية وطبيعة العمل الذي يقوم به الموظف، وقد يحدث في بعض الأحيان صراع وخلاف يسود العلاقات الاجتماعية التي أسسها منذ زمن طويل في بيئة العمل.
فالأشخاص أصحاب المظاهر والاستعراضات الشخصية المثالية يملكون النفوس ذات المشاعر الحساسة وإذا حدث أي خلل في علاقاتهم العملية والاجتماعية مع الناس، نجدهم يعيشون في حالة نفسية ضيقة وحزن وحالة نفسية مؤلمة وصراع نفسي اجتماعي شديد من الصعب السيطرة عليه، لأنهم يعتبرون هذا اليأس والفقدان الاجتماعي صدمة وكارثة اجتماعية قوية على أنفسهم، خصوصاً بعد فقدانهم مكانتهم الوظيفية والاجتماعية.
كما يعتقدون أن المراكز الوظيفية التي كانوا يقومون بإدارتها في القطاع العام أو الخاص تعتبر وظائف من ممتلكاتهم الخاصة، حيث إنهم تعودوا على مقابلة المسؤولين والناس والاتصال بهم ومرافقتهم في السفر ومشاركتهم في أعمالهم ومناسباتهم وأفراحهم الاجتماعية والسياسية وذكر أسمائهم في الرسائل الإعلامية التي تنقلها وسائل الإعلام المحلية المرئية والمكتوبة والمسموعة عن نشاطاتهم العملية، فنجد حالاتهم النفسية بعد التغير الجديد في حياتهم ترفض وتحتج قبول واقع الحياة، خصوصاً بعد تحول حالاتهم النفسية إلى طبيب اخصائي في مجال علم الاجتماع أو علم النفس، وتقديم الجلسات العلاجية المناسبة لحل أزماتهم النفسية والتعرف على كيفية التعامل مع الضغوط النفسية التي يعيشونها بعد الصدمة الاجتماعية وفقدان الأمل والمركز الوظيفي والاجتماعي.
وهناك بعض الأشخاص يعتقدون أن العلاج الوحيد لحل المشكلات النفسية هو اختيارهم الطريق المؤدي إلى التهلكة والضياع والدمار الاجتماعي، وذلك عن طريق تعاطي المحرمات، مثل المخدرات التي أصبحت من أسلحة الدمار الشامل بل أستطيع أن اسميها (الفيروس الاجتماعي القاتل) أو شرب الخمور (الدمار العائلي والصحي) التي يتوقعون أنها باب مفتوح للهروب من مشكلاتهم الاجتماعية أو العملية أو السياسية أو الاقتصادية.
ولكن المجتمع بعادته وتقاليده لا يرحم في تعامله مع المصابين بالضغط النفسي خصوصاً أصحاب القلوب الحساسة والرقيقة، بل يتعامل معهم بكل قسوة ورفض وعدم قبولهم وبدون دراسة حالاتهم التي يعيشونها دراسة دقيقة وعدم الحرص على مراعاة الظروف النفسية التي مرت عليهم بعد التغير الاجتماعي الجديد في حياتهم بعد التقاعد الوظيفي.
وهناك أناس لديهم أهداف مرسومة في خواطرهم يسعون من أجلها ويتعاملون مع الآخرين بعلاقات شخصية قصيرة المدى تنتهي بانتهاء المصلحة، فنجد بعض الأشخاص يستخدمون أسلوب المجاملة في علاقاتهم والقيام بدور تمثيلي مسرحي جيد مع تقمصهم شخصيات مثالية خارجة عن شخصياتهم الحقيقية مما جعلهم ينكشفون على حقيقتهم ويصبحون من الأشخاص الذين يملكون الازدواجية في الشخصية Double Personalities.
وهذا النوع من الأشخاص صعب تقييم شخصياتهم اجتماعياً أو عملياً، لأنهم يعتبرون من أصحاب الشخصيات المتقلبة والمتغيرة من وقتٍ إلى آخر، خصوصاً في أسلوب حديثهم وأقوالهم ونقاشهم ووعودهم (جسم واحد بعدة شخصيات).
* ثانياً : المحور الاقتصادي: ان العمل في مجال التجارة يحتاج إلى الصبر وقوة في صنع القرار التجاري خصوصاً في البيع والشراء، والدخول في الأسواق التجارية تحتاج إلى الصبر وسعة البال، ومن الأمثال الشعبية المعروفة في مجتمعنا (هذا الميدان يا حميدان)، فالتغيرات الاقتصادية والمالية تساعد الإنسان على تحديد المستويات الاجتماعية التي يعيشها في المجتمع.
فالدخل المالي يعتبر المؤثر الوحيد على تصرفات وطبيعة الإنسان في مجتمعه وقرارته ومكانته الاجتماعية، حيث إن المال عامل أساس في إبراز الشخصية واستقرارها وانسجامها مع الآخرين (لا يخدم بخيل).
ومن ناحية أخرى نجد أن أهمية اختيار نوعية الوظيفة التي يرتاح لها الموظف تساعد على الزيادة في الإنتاجية والالتزام بالمواظبة في العمل اليومي بهدف المكاسب المالية بدلاً من البطالة.
وهناك كثير من الأشخاص في عهدتهم أسر كبيرة في عدد أفرادها يعيشون حالات نفسية صعبة بسبب الضغوط المالية التي جعلتهم يعملون ليلاً ونهاراً وبكل كفاح واجتهاد من أجل حماية أفراد عوائلهم من السقوط والتدهور الاجتماعي والاقتصادي والانخراط في الطريق غير الشرعي.
ولكن بسبب الظروف المالية وعدم القدرة على توفير المال المطلوب والكافي للصرف على أسرهم وإنقاذهم من التدهور الاجتماعي، يحدث العكس في تحقيق أهدافهم المالية والاجتماعية بسبب فشلهم العملي وعدم إعطائهم الفرص العملية والإنتاج، وذلك بسبب البيروقراطية والروتين في القطاع العام أو القطاع الخاص، الذي يؤدي إلى انعكاسات سلبية على صحتهم وأنفسهم وتصرفاتهم، وتعاملهم مع الآخرين، ويصبحون معرضين بالإصابة بالضغط النفسي السلبي الاقتصادي الحاد..بمعنى آخر الضيقة المالية مع فقدان الأمل في الوصول إلى أهدافهم الاجتماعية والاقتصادية.
من جانب آخر.. المال في نظري.. هو وسيلة تساعد على صناعة شخصية الإنسان في المجتمع، فنجد كثيراً من رجال الأعمال يسعون وراء الشهرة، مما يجعلهم يصرفون المبالغ المالية الضخمة من أجل تسويق أنفسهم عن طريق الاتصال الشخصي أو الجماعي أو استخدام وسائل الإعلام المحلية.
ولكن ماذا يحدث بعد الشهرة والانتشار الإعلامي والاجتماعي، قد تكون هذه الشخصية المشهورة - تخاف الله سبحانه وتعالى - وصاحبة مبادئ وأخلاق إسلامية تقدر الناس وتساعدهم على قضاء متطلباتهم في المجتمع باسم الصدقات والمساعدات المالية وإخراج الزكاة المفروضة عليهم دينياً، أو قد تكون شخصية عكس ذلك شريرة تحتقر الناس وتسيطر على كرامتهم وعواطفهم بالمال، ويكون الشخص صاحب سلطة لا يخاف الله في تصرفاته، فالقضايا الاجتماعية ذات العلاقة بالمشكلات المالية قد تخلق القلق النفسي والإحباط والاضطرابات النفسية عند بعض العاملين في التجارة خصوصاً إذا وصلت حالاتهم إلى مرحلة الإفلاس المالي والخسارة، تنعكس هذه الاضطرابات على أسرهم في المجتمع (المستوى والمكانة الاجتماعية أمام الناس) مما يجعل بعض أفراد هذه الأسر الخروج عن المبادئ والقيم والعادات والتقاليد المعترف بها في المجتمع، وذلك من أجل الاحتفاظ بالمكانة الاجتماعية وتلبية مطالب الحياة اليومية بالطرق غير الشرعية أو القانونية.
فالشخص الذي يختار العمل التجاري يجب أن يفكر بكل مصداقية مع نفسه والخوف - من الله سبحانه وتعالى - خصوصاً في اختيار نوع الأعمال التجارية التي يرغب الدخول فيها ومراقبة نفسه من الضياع والابتعاد عن جميع الطرق غير المشروعة في التداول التجاري.
وهناك شريحة من الناس في المجتمع يدفعون المبالغ الكبيرة التي حصل عليها سلفاً أو قرضاً مالياً عن طريق البنوك المحلية، من أجل المظاهر الكذابة بقصد بناء شخصية اجتماعية تجارية ذات الشهرة المزيفة بين أفراد المجتمع.
هذه الشخصية المزيفة مؤقتة تنتهي بانتهاء الأهداف المرسومة في عقليتهم، ويكون مصيرهم خلال فترة زمنية قصيرة المدى سبباً في إفلاسهم المالي السريع.
* ثالثاً : المحور النفسي الصحي: من الصعب معرفة اتجاهات الناس الفكرية أو ما يدور في خواطرهم الداخلية، فالعوامل النفسية التي تسكن داخل عقلية الإنسان تسيطر عليه وتسبب له انزعاجات متكررة في العاطفة والتحكم والانضباط السلوكي داخلياً وخارجياً.
فنجد الإنسان الذي يتعرض إلى الضغط النفسي يحدث عنده تغيرات في أسلوب حياته، وهذا يعتمد كل الاعتماد على نتيجة المواقف والأحداث والمشكلات الاجتماعية التي يمر بها خلال نشاطاته وأعماله اليومية في بيئة العمل، وهناك عوارض ومتغيرات سيكولوجية مرتبطة بالضغط النفسي مثال على ذلك: الكبت الاجتماعي Suppression والخوف، والقلق والجشع والفرح والحزن والغضب والعنف والتوتر العالي مما يسبب صعوبة في التركيز والتذكر وصنع القرار أو الاستنفار الشديد بكامل أبعاده الجسدية والعقلية والذهنية والعاطفية الانفعالية والحقد والكراهية والشر والخير والغيرة والاكتئاب النفسي والانعزال الانفرادي والفشل العملي والاجتماعي والشعور بالإحباط والملل: الشعور بالخيبة والحب والمودة والصداقة والانفصام في الشخصية والشعور بالتشاؤم ما قد يحدث في المستقبل.
ومما لا شك فيه نجد أن جميع هذه العوارض والمتغيرات النفسية هي صراعات داخلية نفسية يصنعها الإنسان عبر تجاربه وخبرته في الحياة التي كونتها الظروف الاجتماعية أو العملية في القطاع العام أو الخاص في بيئة العمل وكذلك أسلوب الحياة الاجتماعية التي يعيشها الإنسان من عادات وتقاليد اجتماعية جعلته يستسلم لها بدون أي اعتراض أو نقاش ولا يستطيع أن يرفضها أو التعبير عما يجول في خاطره، لأن المجتمع الذي يعمل فيه لم يعطه الفرصة للتفكير أو إبداء الرأي، مما تولد لديه حالات نفسية من خلال تعامله مع الآخرين في بيئة العمل والمجتمع الذي يعيش فيه. وفي الختام أستطيع القول بكل صراحة ان... الإنسان أمام الله مخلوق ضعيف يحتاج إلى المساعدة والعون من الله، فلا يستغني عن الله في تلبية حوائجه في هذه الحياة، والإيمان بالله عنصر قوي ومؤثر في حياتنا من أجل أن نتجاوز صعاب وأمور الحياة، فالإنسان يملك داخل نفسه العديد من العوامل والتغيرات البيولوجية والتفاعلات الكيميائية والصراعات الفيزيولوجية التي تؤثر عليه في تصرفاته وأسلوب حياته، وهناك أشخاص لا يملكون القدرة على التحكم النفسي والانضباط السلوكي في تصرفاتهم السلبية مع الآخرين، مما يسبب لهم الصراعات الهدامة التي تجلب لهم المشكلات الاجتماعية وتهدد صورهم أمام الآخرين مع فقدان الثقة في أنفسهم وإنتاجهم العملي.
في بعض الأحيان، نجد الأشخاص المتقلبين في شخصياتهم يعيشون في صراعات وضغوط نفسية قد تتحول إلى شخصيات عدوانية ضد الآخرين في بيئة العمل، ويصبحون أشخاصاً غير مرغوب فيهم في المجتمع والبيئة العملية بسبب تصرفاتهم واتجاهاتهم وسلوكياتهم السلبية في نطاق العمل مما يقلل من أهميتهم بين الآخرين.
drmeliky@hotmail.com