هو نوع من الظلم وضرب من الإجحاف أن يتم المرور بشكل عابر وسريع على التجربة التطويرية لتنمية السياحة الداخلية التي اضطلعت بها الهيئة العليا للسياحة, وظلم هو ألا تتم الإشادة بهذه التجربة كونها تمثل أنموذجاً تخطيطياً وعملياً مُوجهاً جديراً بالدراسة والسير على خطاه في التجارب التنموية التطويرية الحالي منها والمستقبلي.
إنجازات القائمين على الهيئة العليا للسياحة التي يقف على رأسها أمينها العام صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز لا شك في أنها أحدثت انقلاباً نوعياً وإن لم يكن (شاملاً) في تفهمنا وتقبلنا لمبدأ ومفهوم السياحة الداخلية كواقع مُعاش لا يجب الاعتراف به فحسب بل وينبغي تطويره والاستفادة منه وتحويله إلى صناعة متعددة الأهداف ومتنوعة الاتجاهات.
وعندما أتحدث عن عدم شمولية هذا الانقلاب النوعي فإنني أقصد بذلك أنه وحتى هذه اللحظة لا يزال يوجد من لا يتوانى عن الإفصاح بمعارضته ورفضه لمثل هذا النشاط الإنساني الراقي في صورته الطبيعية الذي انحرف به البعض عن مساره وشوهوا ملامحه, فالمشكلة لا تكمن في السياحة كنشاط وممارسة إنسانية هادفة تخدم أغراضاً عدة. بل في أولئك الذين يسيئون توظيفها وممارستها. هؤلاء الرافضون يقفون حجر عثرة بسيطة يمكن التغلب عليها بشيء من التوعية وكثير من الجرأة, وإيجاد هذا الوعي لا يقف على عاتق الهيئة العليا للسياحة بل هو مشروع متكامل يتعين وضع أسسه بتكاتف كل الجهود من قبل كل الأطراف لا لخلق البيئة التي تكفل بإيجاد صناعة سياحية محلية فحسب بل وللمحافظة على المكتسبات التنموية الهائلة التي احتاجت عشرات السنين وبلايين الريالات كي تتأصل على تراب الوطن وتتجذر في دواخلنا.
إن ما تم إنجازه عبر هذه الهيئة السياحية الوليدة من بنية تركيبية تخطيطية وتنظيمية يأتي ليحقق جزءاً من طموحاتنا في أن نتعشم برؤية نماذج مشابهة إن لم تكن أكثر نجاحاً لتكريس الإبداع والمزج بين الأصالة والتقاليد والثوابت الإسلامية لهذا البلد مع واقع التغير والتطور والانفتاح على العالم الذي لم يعد بمعزل عنا ولم نعد نحن بمعزل عنه, وذلك الفكر الذي يؤمن بالانعزال والابتعاد والتوجس وإضاعة الجهد وإعمال التفكير في كيفية بناء السواتر والجدران العالية إيماناً منه بأن المنع يعد أسلم منهاج للتعامل مع هذا المد القادم وتصوراً منه أيضاً بالسلبية المطلقة لتحول العالم إلى قرية كونية صغيرة يتواصل أفرادها مع بعضهم بكل سهولة وعدم تضمن ذلك لأية إيجابيات, هو فكر عاجز عقيم, حتى وإن تمكن من منع جريان التيار لفترة بسيطة من الوقت فإنه لن يتمكن من الوقوف في وجه السيل المتدفق لواقع العولمة.
ولعل فكراً مثل هذا كان جزءاً من أسباب متعددة أدت إلى ولادة ذلك الفكر الظلامي الجاهلي الذي يريد أن يأخذنا عصوراً عديدة إلى الوراء وأن يحقق مآربه الشخصية وأن يوظف كل المسوغات التي لا يقرها عقل ولا يجيزها دين في استعراض ما يراه أصحاب هذا الفكر المنحرف قوة يستطيعون من خلالها تخويف الآمنين وإرهاب المواطنين واستباحة دم المقيمين والزائرين.
مثل هذا الفكر المنغمس في وحل المرض يعتقد أنه وبغدره القاتل لمجموعة من الفرنسيين المسلمين الذين يشهدون بأن لا إله إلا لله وأن محمداً رسول الله يمكن له أن يتحدى إرادة الدولة في أن يحظى المقيم والمواطن بفرصة الاستمتاع بما تحتويه هذه المملكة من تنوع تراثي وجغرافي وتنموي.
حادثة مثل هذه لن تقف ولا شك في وجه التطلع صوب المستقبل الأكثر إشراقاً والانفتاح العقلاني المتأصل على الآخر والترحيب به طالما كان الانضباط واحترام الخصوصية خطوطاً حمراء لا يمكن التعدي عليها.
ولا شك في أن هذه الحادثة الإرهابية النادرة تبعث على الألم والتحسر وغير أن الاستئصال المستمر والناجح لشأفة هذا الفكر الإرهابي والمبذول من الجهد من قبل حماة هذا الوطن ممن لا يكلون ولا يملون في العمل على استتاب الأمن يبعث في النفوس كل الأمل بأن نُعايش قريباً انتعاشاً أكبر للصناعة السياحية المحلية التي يمكن لها أن تكون مثمرة في النواحي الاقتصادية عبر المدخول الضخم الذي يمكن جنيه من أوجه متعددة والنواحي الثقافية عبر إطلاع السياح على ثقافتنا المحلية الأصيلة والنواحي الاجتماعية عبر التركيز على الترفيه العائلي وفتح المجال والقنوات المتعددة لممارسة النشاط الترفيهي بشكل ينعكس إيجابياً على العلاقات الاجتماعية داخل الأسر نفسها وما بين مختلف الأسر.
غير أننا مع هذا كله في حاجة إلى نوع من الجرأة التي تجعل من هذا القطاع أكثر إشراقاً, ومعبراً بشكل أكمل عن الجهد الذي تم بذله خلال السنوات الماضية من قبل الهيئة العليا للسياحة.
ذلك أن الجرأة مطلوبة في لحظات معينة لإيجاد تغيير ما وتزويد الهيئة بما أسميه (سلطة الجرأة) كفيل بضمان جني ثمار الجهد الهائل الذي نلحظ تباشيره مؤخراً من خلال الأنشطة التي تتكفل بها الهيئة أو تشرف عليها أو تتعاون مع مختلف القطاعات الحكومية والخاصة لإقامتها.
الهيئة العليا للسياحة أحوج ما تكون إلى ممارسة نوع من الجرأة وهي أيضاً في حاجة إلى سلطة هذه الجرأة كي يكتمل عملها الإبداعي.
إنني من خلال إطلاعي على مختلف المشاركات الإعلامية لأمين الهيئة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان أشعر بأن الصناعة السياحية السعودية وصلت إلى ما أستطيع تسميته (بالمرحلة الحاسمة)، إذ هي أحوج ما تكون إلى نوع من الجرأة بإعطائها صلاحيات إجرائية وتنفيذية أكثر لتفعيل السياحة الداخلية لا كمصدر دخل فحسب بل وكمصدر تثاقف وتثقيف وتفاعل وتعليم.
وما من شك عندي في أن ولاة الأمر قد كفلوا لهذه الهيئة الصلاحيات التي تضمن سيرها في الاتجاه المطلوب وزودوها بكل أنواع الدعم والمادي والمعنوي التي تسمح لهذه الهيئة بأن تؤدي وظيفتها على أكمل وجه ودون أي قصور.
غير أن المرحلة المقبلة تتطلب من الهيئة النزول إلى الشارع المحلي والتفاعل مع المواطن العادي وإحداث التغيير في الفكر السياحي وإعادة قولبة بعض المفاهيم، ذلك أننا نعيش في زمن عنوانه السرعة ولا بد أن تبدأ في التفاعل مع عالم ديدنه التغير والتطور.
إن نحن أردنا فعلاً التنافس في عالم السياحة الدولي على وجه الخصوص واللحاق بركب التقدم.
بلد مثل المملكة العربية السعودية بكل ما تحتويه من مكونات دينية وبشرية وبيئية وتراثية وثقافية, وبكل التنوع الجميل في تضاريسه ومناخاته وحتى لهجاته, يجعل منه وجهة سياحية مطلوبة يبحث عن الكثير عن اكتشافها والتعرف على عالمها المجهول بالنسبة لهم. غير أنه في حاجة إلى سلطة الجرأة التي تكفل له الاستمرارية وتحقيق التطلعات.
abanom@hotmail.com