تدور في رأس كل مواطن فكرة يمكن أن تكون مشروعاً مجدياً ذا قيم مضافة للوطن وللمجتمع، ولو كان لدينا آلية لتحويل تلك الأفكار من عقول المواطنين إلى مخزن للأفكار لأصبح لدينا ثروة لا تقدر بثمن، ثروة لو تمت غربلتها وتصفيتها والعمل على تحويلها إلى مشروعات لحققت لنا تميزاً وتفوقاً نوعياً، ولمكنتنا مع معالجة الكثير من المشاكل التي نعيشها اليوم واقعاً مؤلماً، ولكن أين هي هذه الآلية؟ وأين مؤسساتها؟
ولو بحثنا في العوائق الرئيسية التي تمنع تحول نسبة معقولة من هذه الأفكار إلى مشروعات تساهم في التنمية لوجدنها تتمثل بالعوائق التمويلية والتنظيمية، نعم إن معظم أصحاب الأفكار يعانون من شح آليات التمويل ومن ضعف في القدرات التنظيمية (الإدارية، التسويقية، الفنية)، ذلك بأنهم غير متخصصين في هذه الأمور وأنهم مجرد عاملين في حقل معين تجمعت لديهم معلومات ومعارف كثيرة أدت بطريقة تلقائية إلى توليد أفكار ابتكارية في أذهانهم، وبقيت حبيسة هذه الأذهان إلى أن تلاشت دون أن تجد قناة تمكنهم من تمرير تلك الأفكار من خلالها لتتحول إلى مشروعات أو حتى شركات صغيرة أو متوسطة أو حتى عملاقة.
النظام المالي الإسلامي أوجد منتجات مالية إسلامية صرفة (وليس منتجات مالية غربية مؤسلمة) لتمكين أصحاب الأفكار من الوصول من خلالها لأصحاب المال لتطوير أفكارهم وتحويلها إلى مشروعات منتجه تعود على الطرفين وعلى المجتمع بالمحصلة بالنفع والفائدة، ومن هذه المنتجات المضاربة، حيث يأتي صاحب الفكرة بفكرته ويأتي صاحب المال بماله، فيبذل الأول الجهد ويبذل الثاني المال فإن نجحت الفكرة وتحولت لمشروع ناجح كانا شركاء في النجاح وإن فشلت خسر الأول جهده وخسر الثاني ماله، وبالطبع المال هنا مال جريء أو شبه جريء، كما أوجد الإسلام الوقف حيث يوقف الأغنياء ما يقارب ثلث أموالهم للصرف على مصارف متعددة تنموية في مجملها بخلاف الزكاة التي تتمحور مصاريفها حول محور الإغاثة، ولذلك لعبت الأوقاف في التاريخ الإسلامي دوراً كبيرة في رعاية العلم والعلماء وأصحاب الأفكار فكانت رافداً اقتصادياً كبيراً ساهم مساهمة كبيرة في النهضة الاقتصادية للأمة الإسلامية فيما مضى من عصور.
النظام الرأسمالي بعد أن مر بمراحل طويلة أدرك أن نظامه المالي يمول الأثرياء لتمكنهم من تقديم الضمانات بينما يعجز عن تمويل أصحاب الأفكار الذين يرغبون بتحويلها إلى منشآت صغيرة إلى اكتشافات علمية تحقق له التقدم النوعي، لذا سارع بإيجاد الكثير من الآليات للاهتمام بأصحاب الأفكار لكي يتمكنوا من تحويلها إلى مشروعات صغيرة قادرة على استيعاب الغالبية العظمى من القوى العاملة إضافة لقدرتها على رفع إجمالي الناتج المحلي وتقديم خدمات ومنتجات ذات جودة عالية تساهم في موازنة العرض والطلب على المنتجات والخدمات عامة فضلاً عن كونها المصدر الرئيسي لنشوء الكيانات الاقتصادية الكبرى، ذلك بأن معظم الشركات الكبرى لم تكن إلا شركات صغيرة أو متوسطة في أحد مراحل تطورها.
في بلادنا نسمع اليوم هنا وهناك الكثير من ينادي بمعالجة هذه القضية لتحويل الأفكار التي تختمر في رؤوس المواطنين إلى مشروعات، وهذا شيء أكثر من رائع، ذلك أن الاعتراف بوجود المشكلة جزء كبير من الحل، وتشخيصها يشكل نصف الحل، والعلاج يشكل النصف الآخر من الحل، وأحمد الله أن تداول هذه القضية بدأ يؤتي أكله، فها هو صندوق المئوية انطلق في تمويل الشباب من أصحاب الأفكار الذين نجحوا في تحويلها إلى مشروعات صغيرة حتى رأينا أول مليونيراً سعودياً حصل على التمويل اللازم لتطوير فكرته من صندوق المئوية.
ولكن هل يكفي صندوق المئوية؟ أو لنقل هل يكفي نشاط القطاع الخيري للتصدي لهذه القضية؟.. بالطبع لا، ذلك بأنها قضية تستدعي إيجاد هياكل سليمة تمكن القطاعات الثلاث (الحكومي، الخاص، الخيري) من التكامل في توفير الدعم المالي والتنظيمي لكل صاحب فكرة يريد أن يحولها إلى مشروع، ولنا في نظامنا المالي الإسلامي مرجع، كما لنا في التجرية الرأسمالية الناجحة في دعم تطوير المنشآت الصغيرة والمشاريع الجرئية لعبرة وخبرة يمكن الاسترشاد بها.
وبظني أن الجرس الكبير يجب أن يعلقة القطاع الخاص، وهو القطاع الأقدر والأكثر مرونة وإمكانيات، حيث يستطيع هذا القطاع أن يضع حلولاً نموذجية ويصنع النماذج الناجحة ويقدمها للجهات الحكومية لتتحفز لتبنيها ودعمها، وبظني أن المرحلة الحالية تستدعي قيام شركات تطوير استثماري بأعداد كبيرة، شركات يؤسسها كبار المستثمرون من القطاع الخاص أصحاب الخبرة والكفاءة والملاءة المالية بهدف استقطاب الأفكار التي تختمر في أذهان المواطنين من خلال آليات مدروسة، ومن ثم دراستها وفلترتها وفق معايير عالمية متعارف عليها، وأثبتت جداوها وتطوير من يجتاز تلك المعايير منها لتحويلها إلى مشروعات منظمة بحيث تكون قابلة للتمويل من الجهات المالية والمستثمرين لتتحول بإذن الله إلى مشروعات ناجحة ذات قيم مضافة ننعم جميعاً بفوائدها.
alakil@hotmail.com