ربما يعتقد البعض أن العام الدراسي الحالي يمثل علامة فارقة في نظام التعليم بشكل عام ونظام تقييم الطلاب بشكل أخص؛ لأنه آخر عام يتم خلاله توظيف نظام الاختبارات المركزية لطلبة الثانوية العامة، وإسناد هذه المهمة إلى المدارس بإشراف من إدارات التربية والتعليم في مختلف مناطق المملكة،
بعد أن كانت الوزارة قد تنازلت فيما مضى عن تطبيق الاختبارات المركزية في السنة الأخيرة للمرحلتين الابتدائية والمتوسطة، مع تحول تدريجي لتبني أسلوب التقييم المستمر كأداة تقويم وتقييم أساسية للعملية التعليمية. غير أن مثل هذا التحول في التطبيق - في رأيي - لا يعدو كونه عملية نقل للمهام وتخلص من الأعباء وتوسيع للمشاركة في المسؤولية التنفيذية على المستوى التربوي والتعليمي، والاعتماد على اللامركزية عوضاً عن المركزية.
والحقيقة هي أن اتخاذ قرار كهذا يثير الكثير من الشجون ويطرح العديد من التساؤلات، ولاسيما أنه قرار تطول آثار تطبيقه عشرات الآلاف من الأسر السعودية، وعلى ضوء نتائجه تتحدد المسارات المستقبلية لمستقبل الملايين من الطلبة والطالبات، وهو ما كان ينبغي مراعاته بكل حرص عند وضع القرار بتفعيل هذا التحول، كما أن الآثار الإيجابية لهذا القرار، على عكس ما قد يعتقده البعض، محدودة من المنظور الفعلي، فعلى الرغم من أنه سيعمل على تخفيف العبء الإداري على الوزارة وتقليل نسبة الأخطاء وأوجه القصور في الاختبارات المُصممة بشكل مركزي في الوزارة، ويسهم في تعظيم الدور المُناط بالمعلمين والمعلمات وزيادة درجة مشاركتهم في اتخاذ القرارات وتحمل المسؤولية كونهم أقرب للطلبة والطالبات وأكثر معرفة بمستوياتهم وكفاياتهم المعرفية وقدراتهم الفعلية، إلا أنه لا زال محدود الأثر، وستظل الرهبة من هذه الاختبارات التي تؤثر سلبياً على أداء الطلاب والطالبات موجودة، ولن تختفي المخاوف من احتمالات تسرب الأسئلة.
ولعلني لا أُجافي الحقيقة عندما أقول إن قراراً كهذا يعكس الحقيقة المؤلمة بخصوص عدم نضج واكتمال المعرفة المتعلقة بالتقويم والتقييم والدور الأساسي لهما في إطار المنظومة التربوية والتعليمية، وهو الدور الذي لم يكتمل حتى الآن حضوره كما ينبغي بشكل كامل وفعّال كعنصر ابتدائي وضروري لا غنى عنه في مختلف مكوّنات المنظومة التربوية والتعليمية، يخدم كثيراً من الأغراض ويسهم بشكل جوهري وإيجابي في تطوير العملية التعليمية والتربوية، ويزودنا بكمّ هائل ومفيد من المعلومات القيّمة التي يمكن استخدامها لاكتشاف مكامن القوة والضعف في مختلف أجزاء البناء التعليمي والتربوي. إضافة إلى ذلك فإن هذا التحول يفتح الباب واسعاً لأن تكون المعايير التعليمية فيما بين مختلف الطلبة والطالبات في مختلف المناطق غير موحدة نتيجة الفروقات والاختلافات بين طلاب وطالبات المدن والقرى والمناطق الصغيرة في الدرجات، وهو ما قد ينعكس بالتالي على عمليات القبول في الجامعات ومنشآت التعليم العالي وكذلك على فرص الحصول على الوظائف.
كما أن قرار تطبيق هذا التحول بهذه السرعة وتفعيله خلال مدة زمنية قصيرة متمثلة بعام واحد فقط دون وضع الآليات المناسبة التي تضمن تدريب جميع المعلمين وتزويدهم بأبجديات التقويم والتقييم وكتابة أسئلة الاختبارات بشكل دقيق يراعي أساسيات تصميم الاختبارات - وهي بالمناسبة تختلف وتتنوع بحسب المادة التي يتم تدريسها - يستدعي من القائمين على اتخاذ قرار التحول هذا أن يضعونا في الصورة التفصيلية لكيفية ضمان عدم ظهور أخطاء فادحة في عمليات تصميم وإدارة الاختبارات مستقبلياً، فلا يكفينا تصريح أحد المسؤولين في الوزارة بأن وزارته ستتولى تدريب المشرفين التربويين في جميع إدارات التعليم على طريقة إعداد الأسئلة خلال العام المقبل بهدف نقل التجربة إلى المعلمين الذين سيقومون بوضع الاختبارات النهائية بأنفسهم وبإشراف من مديري المدارس؛ فمثل هذه العملية تتطلب درجة كبيرة من الاحترافية والخبرة المعرفية وكذلك وجود الخلفية العلمية المتخصصة، وبالتالي فإنه لا يمكن تفعيلها بشكل غير مدروس وغير متدرج؛ ما يكون له آثاره غير المحمودة سواء على المدى القريب أو البعيد.
إن خبراً كهذا بشأن هذا التحول في كيفية التعاطي مع الاختبارات، وكذلك البدء في توظيف التقييم المستمر كأداة تقييم أساسية في مراحل التعليم الأولية، يشير بشكل جلي إلى أنه قد آن الأوان لإعادة النظر في مفهومي التقييم والتقويم وخصوصاً على مستوى التعليم العام، وكيفية استخدام وتطبيق أدواتهما في المنظومة التعليمية والتربوية وإيجاد خطط متطورة للتقويم والتقييم تتكامل مع المسعى التعليمي والتربوي في جوانبه كافة وتقضي على الضعف الواضح في الفهم والتطبيق الحالي للتقويم والتقييم. إعادة النظر هذه ينبغي أن تتخذ عدة أوجه، وأن تسير في مسارات متعددة؛ ذلك أنه يجب أولا أن يتم وضع أهداف محددة لعمليتي التقويم والتقييم بحيث لا تكون هذه الأهداف متسقة مع الأهداف الرئيسية والفرعية لسياسات التعليم العليا فحسب بل ولكي يتم توظيف التقويم والتقييم كعنصر أساسي في المشروع التطويري للتعليم الذي يحصل على دعم مباشر لا محدود من قبل خادم الحرمين الشريفين وحكومته الرشيدة؛ إذ ينبغي ألا تقتصر أهداف التقويم والتقييم التعليمي والتربوي على مجرد توفير المعلومات الضرورية عن التحصيل الدراسي للطلاب والطالبات وتقرير نجاحهم أو رسوبهم، بل ينبغي أن يكون لها الدور الأكبر فيما يتعلق بما يتم اتخاذه من قرارات مرتبطة بالمناهج وطرق التدريس وتحديد مشكلات التعليم ومكامن الضعف في التعلم. بل إنه من المُفترض أن يكون عنصرا التقويم والتقييم نقطة البداية والتوجيه والتطوير والتحديث المستمر للعملية التعليمية والتربوية.
والحديث عن أهمية جعل التقويم والتقييم العنصر الابتدائي والتوجيهي للتعليم يقود أيضاً إلى الحديث عن ضرورة التحديد الواضح للهدف الأشمل والأعم للتعليم، وما إذا كنا نرغب في الاستمرار في التعليم التلقيني الذي يؤدي إلى تخريج طلاب وطالبات مقيدي التفكير ومحدودي النظرة وفوق ذلك مفتقدين للقدرة على الإبداع التفكيري أو أن نتجه إلى أسلوب تعليمي إبداعي قائم على الفكر المرن المفتوح على تعدد الاحتمالات، وهو ما يمثل جوهر وأساس التفكير الإبداعي، ويتصف هذا التعلم الإبداعي بالتجدد والتنوع والإبداع في طرق التدريس ومسارات التعلم بحيث تشعر مختلف الأطراف خصوصاً المدرسين والمدرسات والطلبة والطالبات بأهمية التعليم والتعلم، وكيفية النقاش والمحاورة والاستنتاج، ويصبح دور المعلم والمعلمة البحث عن مكامن الإبداع ومساعدة الطالب والطالبة على إخراج هذا الإبداع إلى حيز الوجود وتوجيهه نحو إنتاج المعلومات واكتساب المهارات، وبذلك يصبح التعليم متعة، ويسود المناخ التعليمي التعلمي الإبداعي.
هذا التحول نحو التعليم الإبداعي يستلزم تحولاً جذرياً في التطبيقات التقويمية والتقييمية التعليمية وإعادة النظر بشكل كامل صوبها وعدم التعامل معها بشكل يفتقر إلى النظرة العلمية الدقيقة والمُؤسسة بشكل صلب على نتائج التجارب التربوية العالمية التي تتعامل مع التقويم والتقييم كأحد أهم عناصر المنظومة التربوية والتعليمية. كما أنه قد آن الأوان كي يتم التنسيق مع مختلف منشآت التعليم العالي جامعياً كان أو فنياً كي يتم وضع شروط ومعايير واضحة للقبول بحيث يتم توجيه المعايير وتكييفها صوب متطلبات التخصصات على اختلافها لتتناسب المعايير مع متطلبات كل تخصص وبالتالي يتم تفريغ التقويم والتقييم في التعليم العام لا لقياس أداء الطلاب فحسب وتزويدنا بمؤشرات فيما يخص تحصيلهم بل لتطوير أساليب التقييم ووسائل التدريس واكتشاف نقاط الضعف في المناهج الدراسية وتتبع مكامن الخلل وتزويدنا كذلك بمعلومات إحصائية دائمة التدفق عن أية فروق محتملة فيما بين الطلبة والطالبات نتيجة التنوع الجغرافي لهذا البلد المعطاء. هناك حاجة واضحة لإعادة هيكلة الجهات المشرفة على التقويم والتقييم التعليمي والتربوي بحيث تكون لها اليد الطولى في تحديد الاحتياجات والأهداف والقيام بدراسات مستمرة تضمن تدفق المعلومات اللازمة لإصلاح كل ما له ارتباط بالتعليم. هناك حاجة واضحة لمشروح تقويمي يهدف إلى تقييم فعالية التغييرات التي طالت المناهج ووضع الاقتراحات فيما يخص أية خطوات تطويرية ينبغي القيام بها مستقبلا؛ ذلك أن التقويم الفعّال هو ما نحتاجه فعلا في سبيل تطوير وتحديث التعليم لدينا.
abanom@hotmail.com