Al Jazirah NewsPaper Friday  04/04/2008 G Issue 12972
الجمعة 27 ربيع الأول 1429   العدد  12972

من عجائب صنع الله
د. محمد بن سعد الشويعر

 

كان مجلساً يضمّ مشارب شتى، وثقافات متعددّة، تعرّض فيه المتحدّثون إلى نماذج عن الحضارة الإنسانية وقدراتهم، من واقع القراءة، والمخزون الذهني، فقال أحدهم قرأته في مجلة العربيّ الكويتية، العدد 590، والعدد 591 عن نماذج من العمارة البشرية، على وجه الأرض، وما وصل إليه العقل البشري من فنّ وهندسة، إذ كان يتعجب من ناطحات السحاب، في أمريكا، إلى روعة الفن

المعماري في الصين، وهندسة اليابان، وتشكيلات الصين.

وعرّج أحدهم على نهضة شرق آسيا الجديدة، وما بدأ يبرز فيها من عجائب البناء، حتى أن كوريا على عهدة العربي 591: سوف تبني برجين، بارتفاع 640 متراً، يضمان 151 طابقاً في كلّ منهما، وهذه من المباني العملاقة فنياً وهندسياً، إذ سوف تتغلّب على ناطحات نيويورك، وكما قال أحمد أمين في كتابه: أميركا الضاحكة بأن أطول ناطحات السحاب في نيويورك هي المسماة (انتربرايز) طوابقها فقط 132 طابقاً.

ثم إن في كوريا جسرا جديدا سينتهي عام 2009م طوله 12 كم و34 متراً، سيُعدّ من عجائب الإنشاءات العشر في العالم. فقال آخر هذا يدل على أن أعمار الأمم، كأعمار البشر صعود ثم هبوط، وكل هذا وأكثر منه مما سوف يتفتق عقول البشر، في كل مكان إذ بدأت الدول الصغيرة تكبر، ويبدع أبناؤها في نماذج من الحضارة، والكبرى بدأها الهرم. وعلق على هذا آخر بقوله: إن مدّ الله في العمر لأي واحد منكم فسوف يصل منطقتنا العربية، بل وفي هذه البلاد مع توفر الأمن والأمان والرخاء، وعدم تحرك الأعداء، طمعاً وحسداً، وكل ذي نعمة محسود، الدور إن شاء الله - فتحدث أخ كريم ليربط الأمر بالنظرة الشرعية، وقال: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من علامات الساعة التطاول في البنيان، فردّ عليه مقاطعاً: الساعة علمها عند الله، ولا تأتي إلا بغتة، وهي من الأمور الخمسة التي اختص الله سبحانه بعلمها، في آخر سورة لقمان، ولا ننازع الله في علمه، ولكننا نناقش شيئا فيه عبرة وعظة.

فردّ عليه الأول: بأنني قلت من علاماتها، ولم أقل تأتي معها، بدليل أن بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من علاماتها، لأحاديث منها قوله: أنا والساعة كهاتين، وقرب بين أصبعيه، ثم إن علاماتها الصغيرة كثيرة، منها ما جاء منذ قرون فقال أحد خبراء الآثار وهو بحسب مهنته، يحبّ أن يجذب الناس للسياحة: إن أمما كثيرة قبلنا عمروا الأرض وبعض معالمهم بارزة للعيان، فيها قدرات لم يستطعها الإنسان اليوم، وخفية لم تكتشف، وتحتاج إلى حفريات ثم دراسات، لنعرف زيادة عن حضارات الأمم، وعندنا شاهد من القرآن الكريم: حيث استعمر الله الخلق في الأرض، وأعطاهم عقولا وقدرات فأبدعوا، يقول سبحانه: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (9) سورة الروم. فقال أحد الأدباء: إن ما نشاهده من إعمار وتنافس فإنه للتفكر والاعتبار والشاعر يقول:

إذا تمّ شيء بدا نقصه

ترقّب زوالاً إذا قيل تمّ

وهكذا سارت الأقوال، على نماذج شتى حسب المعهود الفكري عنده، إلا أن مهندسا أكمل آخر شهادة علمية في جامعة من دول الغرب، قال: إن أستاذنا في الهندسة المعمارية فاجأنا يوما بالسؤال عن أحسن وأجود هندسة على وجه الأرض؟ فذهب طلابه أشتاتاً في الإجابة بين أهرامات الجيزة بمصر، ومنارة الإسكندرية، وحدائق بابل، وناطحات سحاب أمريكا، وهندسة الطرق والقطارات في اليابان ونفق المانش، وبرج بيزا، وجامعة عليكرة بالهند ومازلنا نعدّد كلما سمعنا، عن حضارة الإنسان، وهو يقول: لا.. لا.. حتى مللنا، فقلنا ما هو؟ قال: الذي أعنيه بين أعينكم وترونه، في كل مكان، فلّما أعيانا الجواب، قال: إنه جسم الإنسان: ذكراً أو أنثى، وما أودع الله من الأجزاء المتناسقة والمعامل الدقيقة التي تشتغل بانتظام ولا يختلط عمل شيء مع شيء آخر ثم بدأ يتحدث عن الجسم البشري وعجائبه.

ولما وصلوا إلى هذا المدخل وكنت أستمع فقط، أحببتُ المشاركة خاصة وأنه كان لي برنامج في الإذاعة مستمر، تحت عنوان (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) الذي قدّمت فيه - قبل التوقف - أكثر من (300) حلقة طبعتُ منها مجلدين، فقلت: إن الله سبحانه قد أودع في أجسامنا: مصانع عديدة وأجهزة تدير العمل بانتظام مع المراقبة والمتابعة، بما هو أدق وأسرع من الأجهزة التي نتعجب منها وتوصّل إليها عقل الإنسان.

خذ مثلا: القصبة الهوائية والبلعوم، وهما متعامدان على بعضهما، إذ اشتغل الواحد انغلق الثاني تلقائياً، بإشارة سريعة من مركز التحكم في العمليات وهو المخ ليؤدي كل منهما وظيفته في وصول الطعام والشراب للمعدة لتؤدي دورها ثم ينفتح الآخر بعد هذا المرور لتوصيل الهواء إلى الرئتين، ولو ذهب عمل هذا، لمهمة الآخر؛ لمات الإنسان وما (الشرقة) بما يتبعها من كحة إلا تصحيح لما جاء خطأ بأمر بسيط وتُعين (الكحة) وبشدة في الأمر. ولكنه: صنع الله الذي أتقن كل شيء وأحاطه بعلمه سبحانه وعنايته.

والأطعمة والأشربة إذا وصلت للمعدة بعدما أدّت الأسنان وظيفتها بالطحن والإذابة، واللسان بالتقليب حتى ينطحن كل جسم في هذا الطعام، ويذوب والغدّد التي في الفم بما أفرزته من لعاب يعين على الطحن وهذا اللعاب شبيه بعيون الماء التي تتوزع في الأرض للزراعة والتيار وسائر المنافع البشرية والحيوانية.

يتحول هذا الطعام سهلا ميسّراً، وبلذة لدى الإنسان ليستقر في المعدة فتأتيه عملية أخرى بعصارة المعدة المادة القلوية كالأسيد لتذيب هذا الطعام وتصهره في عملية تقليب كأنه في غسالة الملابس على دفعات كلما انتهت دفعة طلبت إشارة من مركز العمليات لفتح باب المعدة (الصمام) لينحدر إلى الأمعاء الدقيقة (الأثنى عشر) وينغلق الصمام تلقائياً لتستمر المعدة في عملية الهضم مرات متعددة، وكل جهة تعمل في مجالها، لا يختلط العمل ولا تتداخل المهمات.

ودور الأمعاء الدقيقة الفرز والتوزيع فتعطي البنكرياس ما يحتاجه والكبد والرئتان والعيون والأعصاب والعظام، ومصنع الدم يوزع ذلك إلى أجزاء الجسم كل يذهب إليه وهو بحاجة إليه ألا ترى أن الطبيب يعطي المريض الدواء، لمرض عضوي في مكان من الجسم المتعددة بدءً من الرأس ووظائف، فيه إلى الأمور الباطنية والأطراف ويكون هذا الدواء يتناوله المريض بالفم: سواء قبل الطعام أو بعده فلا يغلط مركز العمليات في المخّ عندما يعرض عن هذا الجسم الغريب الذي دخل بدن الإنسان، ليعرف المهمة التي جاء من أجلها وليذهب للمهمة المقصودة المرضية عند هذا الإنسان. وبذا يأخذ كل جزء مهما صغر نصيبه في البدن، وإلا اختل التوازن.

ثم لعلّ واحداً منكم يسأل لماذا الطعام والشراب الذي يتناوله الرجل والمرأة تختلف مهمته لكل منهما حسب ما أودع الله في جسم كل منهما فلها مصنع حليب من أجل غذاء الطفل والرجل لا يوجد، {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} (66) سورة النحل. ومثلها الخصائص الأخرى المتعلقة بالنسل والتكاثر، فإفرازاتهما تختلف كثيراً عن الآخر {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} (36) سورة آل عمران. سواء في العاطفة والإفرازات والوظائف والتركيب، فسبحان الخالق الذي جبل لكل منهما وظيفته في الحياة، بعكس ما يريده الماديون برغبتهم تغيير فطرة الله التي فطر الناس عليها: بتحويل المرأة إلى وظيفة الرجل في الأعمال والتحمل والابتذال، وما ذكرته فهو مثال لقدرة الله في مخلوقاته وعظمة صنعه وإلا فالحديث في هذا طولي والنماذج كثيرة، ولكن يجب الدراسة والتعمق لندرك حكمة الله البالغة في كل أمر لنعبده ونشكره كما ينبغي لجلاله وعظمته.

عقاب قوم لوط

ذكر ابن كثير في تاريخه بعدما أورد الآيات الكريمات الواردة في القرآن عن قوم لوط، فقال: والمقصود الآن إيراد ما كان من أمرهم وما أحل الله بهم مجموعاً من الآيات والآثار: وذلك أن لوطاً عليه السلام لما دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي ما ذكر الله من الفحش، فلم يستجيبوا له، ولم يؤمنوا به حتى ولا رجل واحداً منهم، ولم يتركوا ما نهوا عنه، بل استمروا على حالهم ولم يرتدعوا عن ضلالهم وهموا بإخراج رسولهم من بين ظهرانيهم فطهره الله من بينهم وأهله إلا امرأته وأخرجهم من قريتهم أحسن إخراج، وتركهم في محلتهم خالدين.. لكن بعدما صيرها عليهم بحرة منتنة ذات أمواج، لكنها عليهم في الحقيقة نار تأجج وحرّ يتوهج، وماؤها ملح أجاج.

وقد كان لوط قد نزح، عن محلة عمه الخليل عليهما السلام، بأمره له وإذنه فنزل بمدينة سدوم من أرض غور زُعَر وكان أهلها من أفجر الناس وأكفرهم وأسوأهم طوية، وأرداهم سريرة وسيرة يقطعون السبيل، ويأتون في ناديهم المنكر، ولا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون.

ابتدعوا فاحشة ما سبقهم إليها أحد من بني آدم، وهي إتيان الذكران من العالمين، وترك ما خلق الله لهم من النسوان لعباده المخلصين. فدعاهم لوط إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه المحرمات والفواحش والمنكرات والأفاعيل المستقبحات فتمادوا على ضلالهم وطغيانهم، واستمروا على فجورهم وكفرانهم فأحل الله بهم من البأس الذي لا يردّ، ولم يكن في خلدهم وحسبانهم، وجعلهم عبرة يتّعظ بها الألبّاء من العالمين.

فقالوا لنبيهم {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } (29) سورة العنكبوت. فعند ذلك: دعا عليهم نبيهم الكريم فأمروا لوطاً أن يخرج بأهله وهم ابنتاه ولم يتبعهم منهم رجل واحد، فلما أشرقت الشمس نزل بهم العذاب.

قالوا: اقتلع جبريل عليه السلام قراهم بطرف جناحه وكنّ سبع مدن بمن فيهنّ من الأمم وما معهم من الحيوانات وما يتبع تلك المدن من الأراضي والمعتملات فرفع الجميع حتى بلغ بهن عنان السماء حتى سمعت الملائكة أصوات ديكتهم، ونباح كلابهم ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها، قال مجاهد: فكان أول ما سقط منها شرفاتها.

(البداية والنهاية لابن كثير 257:1 - 262)

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5068 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد