خمس سنوات مضت والعراق لا يزال يرقد في محيط من الدم والدَّمار والتخبُّط والتمزُّق, خمس سنوات مرّت على احتلال العراق والمشهد كما هو لم يتغيَّر، يحدث ذلك وسط تمزُّق بلد وتدمير شعبه واستنزاف موارده، حتى بات الشعب العراقي يُعَد من الشعوب التي تعيش تحت خط الفقر.
وسيكتشف كلُّ من يستطيع قراءة الأحداث وتحليلها بموضوعية مع نهاية السنة الخامسة للغزو والاحتلال الأمريكي للعراق، أنّ هناك الكثير من الأخطاء التي ارتكبت فيه، وأنّ هناك العديد من الفرص الضائعة لشعب وبلد عاش تجارب مختلفة بين الحروب والحصار والدكتاتورية والديموقراطية والغزو والتحرير، دفعت بالبلاد إلى حالة من الفوضى وانعدام الأمن، في مسرحية لا تزال فصول المأساة تتوالى حتى الآن وإلى أجل غير مسمى، مما جعل وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت تصف الوضع بالعراق بأنّه: (أسوأ مما كان عليه الوضع في فيتنام).
لقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ التبرير الأساسي الذي ساقته إدارة بوش للحرب على العراق، هو القضاء على أسلحة الدمار الشامل لديه، وأنّه على صلة وثيقة بتنظيم القاعدة، ومن ثم هجمات 11 سبتمبر 2001م غير صحيح . فلم تفلح الإدارة الأمريكية في إثبات وجود أسلحة دمار شامل في العراق، كما ثبت بشكل قطعي عدم وجود أيّة علاقة بين النظام العراقي السابق وتنظيم القاعدة . بل أكد وزير الخارجية الأمريكي السابق (كولن باول) أنّ كلَّ ما تم الحديث عن أسلحة الدمار الشامل لم يكن سوى ذر للرّماد في العيون، مستشهداً بتقرير كاذب عن اليورانيوم المستقدم من النيجر . وما تلاه من الفضيحة التي أعلنها السفير الأمريكي السابق في النيجر (جوزيف ويلسون) الذي نفى شراء العراق لليورانيوم، وأثبت أنّ كلَّ الوثائق التي استندت إليها المخابرات الأمريكية كانت مزوّرة. ومن خلال المعلومات الموثوقة والمنشورة علمنا جازمين أنّ القرار الأمريكي بغزو واحتلال العراق كان متخذاً بالفعل منذ 21-11-2001 م، لكن الإدارة الأمريكية أرادت تعبئة الرأي العام الداخلي والعالمي لحساب قرار غزو العراق بتلك الأكاذيب والمزاعم الباطلة.
من جانب آخر فإنّ اعتقاد بوش أنّ العراق في طريقه إلى التمتع بالحرية والديموقراطية والاستقرار والازدهار اعتقاد بليد . فقد أعاد الغزو الأمريكي العراق إلى العصور المظلمة، فأصبح نموذجاً للفوضى والعنف الطائفي وغياب التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى انعدام الأمن، وتدهورت أحوال العراقيين بشكل غير مسبوق، فلم تنجح في فرض النظام في البلاد ومن ذلك : تدمير البنية الأساسية لكلِّ مرافق الحياة، حيث انقطاع إمدادات الكهرباء عن أحياء بأكملها، وعدم توافر مياه الشّرب بنسبة 70% من أهله، وانتشار الأوبئة، وارتفاع معدّلات البطالة وفقاً للمؤشّرات إلى 60% من الأيدي العاملة في بلد يبلغ عدد سكانه قرابة 26 مليون نسمة.
أمّا حقوق الإنسان والحرِّيات، فحدث ولا حرج عن سلسلة طويلة من الانتهاكات الرهيبة . فعلى سبيل المثال، قال الجنرال الأمريكي (انتو نيو تاغوبا): (إنّ التعذيب والإهانة والتحقير كانت عملاً منهجياً منظماً ومنتظماً) .. ومن صور الانتهاكات: إرغام معتقلين ذكور على ارتداء ألبسة نسائية داخلية، وتطويق رقاب معتقلين ذكور عراة بجنازير كلاب، وإقدام عنصر من الشرطة العسكرية على اغتصاب معتقلة وممارسة الجنس معها . وهؤلاء الذين فعلوا ذلك تلقّوا ثناءً وإطراءً من رؤسائهم تقديراً لما فعلوه). إضافة إلى مقتل أكثر من مليون عراقي على يد قوات الاحتلال، وجرح أضعاف أضعافهم، وتشريد 2.5 مليون عراقي داخل بلادهم، و2.5 مليون عراقي في الخارج منهم 2.2 مليون عراقي في سوريا والأردن وحدهما، وترفض الحكومة القائمة في بغداد ومعها الحكومة الأمريكية تحمُّل تكاليف إعالتهم أو حتى المشاركة في تلك التكاليف.
ولا أحد يمكن أن يجادل بأنّ الحرب على العراق كانت تكاليفها كبيرة والثمن غالياً . ففي كتاب جديد بعنوان (حرب الثلاثة ترليونات دولار) يقرِّر (جوزيف ستيغليتز) أستاذ السياسة العامة في جامعة هارفارد والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، ومعه (ليندا بيلمز) خبيرة الموازنة والتمويل، أنّ التكاليف الإجمالية لغزو واحتلال العراق ستلامس سقف الثلاثة ترليونات دولار . وكانت النتيجة الحتمية أن ارتفعت أسعار النفط من 25 دولاراً للبرميل الواحد إلى 112 دولاراً، مما سيزيد الأعباء على دافع الضرائب الأمريكي. وترنّح الدولار وأصبح كالحمل الوديع أمام العملات الأخرى وانحدر بسرعة مخيفة. وتعرّض الاقتصاد الأمريكي إلى كساد عظيم وتضخُّم مخيف، فارتفع الدَّين من 5 ترليونات إلى 10 ترليونات في السنة القادمة.
وإذا كان هناك منتصر من كلِّ تلك الأحداث فهي إيران الدولة الأكثر نفوذاً في العراق. حيث عزّزت من وجودها في العراق، وأمسكت بمفاصل كثير من أجهزة الدولة العراقية، بعد أن استفادت من أخطاء السياسة الأمريكية في العراق، وغياب الدور العربي الفاعل والمؤثِّر هناك، لا سيما وأنّ لإيران طموحات قديمة تجاه العراق، وقد كتب أحد المحللين بمعهد (كاتو) البحثي في واشنطن يقول: إنّ الحرب كشفت حدود قدرتنا وأبرزت منتصراً واحداً هو إيران التي صارت تتمتع بنفوذ إقليمي، بعد الفراغ الذي حدث في السلطة.
وصفوة القول: إنّ الأهداف الحقيقية للغزو الأمريكي تتمثّل في السيطرة على نفط العراق البالغ احتياطيه 115 بليون برميل، فذهبت ثروة العراق النفطية إلى غير أهله. وفتح أبوابه أمام الشركات الأمريكية ووقعت عقود استغلال حقول النفط لشركات أمريكية، إضافة إلى إقامة قواعد عسكرية دائمة في هذا البلد من أجل تعزيز أمن إسرائيل. وأخشى ما أخشاه أن يتفكّك الكيان العراقي ويتحوّل إلى دويلات صغيرة متصارعة ممزّقة تتوزّع الخريطة العراقية من جديد لا يعلم نهايتها أحد إلاّ الله.
drsasq@gmail.com