بقلم د. عويِّد بن عياد المطرفي الحربي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على سيدنا محمد عبدالله ورسوله الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه أجمعين، ومَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الله عزّ وجلّ قد فرض على عباده المؤمنين فرائض معلومة، وجعل لأدائها أوقاتاً زمانية، ومعالم مكانية سماها لهم ليؤدوا له فيها ما فرض عليهم أداءه فيها من عبادة على الوصف الذي شرعه في المكان الذي سمّاه، وعيَّنه.
وكان من هذه الفرائض المشروعة على كل حاج ومعتمر السعي بين الصفا والمروة اللذين سماهما الله عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم؛ فقال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَة مِن شَعَآئِرِ اللّه فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْه أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا...}(1).
وهذا صريح في إيجاب التطوّف بهذين المَعلمين اللذين هما من معالم الحج والعمرة، ومناسكهما في هذه البلاد المقدسة التي جعلها الله تعالى مهوى أفئدة عباده المؤمنين، ولا يتم حج، ولا عمرة إلا بالتطوف بهما كما أمر الله في هذه الآية الكريمة.
وأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر تأكيداً، وتبليغاً؛ فقال: (يا أيها الناس اسْعوا فإنّ الله كتب عليكم السعي)(2).
وقد أدى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الشعيرة المفروضة في حجه وعمراته التي اعتمرها في حياته المباركة في الموضع الذي عينه الله عزّ وجلّ له في هذه الآية الكريمة، وعلى الوصف الذي شرعه الله له، وأمر أصحابه الكرام، وجميع المؤمنين من بعدهم بالاقتداء به في أقواله وأفعاله في خصوص هذه الشعيرة في التطوف بين الصفا والمروة المذكورين في هذه الآية الكريمة بقوله صلى الله عليه وسلم لهم: (خذوا عني مناسككم)(3)؛ لكونه صلى الله عليه وسلم المبلِّغ عن الله، والأسوة الحسنة للمؤمنين في كل أقواله، وأفعاله، وأحواله الشريفة وحياته المباركة.
صورة قلمية لما كان عليه جبل الصفا وما طرأ عليه من تطور:
معلوم علم اليقين لكل ذي لُب، وفكر، وكل ذي وعي، ومتابعة لحركة الانتشار السكاني، والتكاثر الإنساني، والتطور الحضاري والبناء العمراني أن المسعى الذي يقع شرق الكعبة المشرفة بين جبلي الصفا والمروة قد تطاولت عليه أيدي الناس على طول الزمان ببناء دورهم، ومنازلهم على جانبيه الشرقي والغربي وطرفيه الجنوبي والشمالي، فأحالوا سعته وانفساحه ضيقاً وحرجاً، فاختلط الساعي لنسكه فيه تعبُّداً لربه بالمتسوِّق، والمتجر، والقاطنين على جوانبه من كل جهاته.
حتى هيأ اللهُ عزَّ وجلَّ آل سعود حكام هذه البلاد المباركة عام 1375هـ فأسفروا وجهه، وأزاحوا عنه ما أساء إليه، وإلى المؤدين مناسكهم فيه من الحجاج والمعتمرين الذين جعله الله لهم منسكاً ومتَعَبَّداً، فأخلصوه لذلك حقاً.. جزاهم الله خيراً.
وعاد المسعى بذلك ظاهراً للعيان مُتسِعاً عما كان عليه من قبل، وظهرت ساحاته مُتنفسا لحجاج وعمار بيت الله الحرام، والمتعبدين فيه، بيد أنّ أعداد الحجاج والمعتمرين أخذت تزداد عاماً بعد عام، واشتدت رغبة المسلمين من أقطار الأرض في أداء فريضة الحج والعمرة؛ لما وفَّرتْه لهم هذه الدولة الكريمة من سُبل الرعاية الأمنية والصحية، ويُسْر في المواصلات، وتوفير للاتصالات، والسكن، وأمنٍ وأمانٍ في التنقل بين المشاعر المقدسة، وما يؤدي إليها من سبل، وبينها وبين المدينتين المقدستين: مكة المشرفة، والمدينة النبوية المنورة؛ فضاقت بكثرتهم وجموعهم الأماكن والمعالم الشرعية، واكتظت بهم الساحات ووطئ بعضهم بعضاً في أماكن التعبُّد ومعالم المناسك التي أمرهم الله بالسعي فيها بعد أن كانت بعد التوسعة السعودية الآنفة الذكر فضاءً مفتوحاً تتسع لمن وفد إليها من حجاج وعمار، فاحتاج الحال إلى النظر في توسعة أخرى تيسِّر للمسلمين أداء سعيهم وتضمن سلامتهم.
وحُقَّ لذلك لأهل العلم في هذه البلاد، وغيرهم من ديار الإسلام، وأهل الولاية والحكم في ديارنا هذه الذين يرون ما يعانيه وفد الله في الحج والعمرة من مشقة ورهق، وضيق بالآلاف المؤلفة في أداء مناسكهم أن ينظروا إلى قائد مسيرتهم في هذه البلاد المباركة، وراعي ركبهم فيها، والساهر على مصالح رعيته، وغيرهم من إخوانه المسلمين الذين يقصدون هذه الديار لحج أو عمره، الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله ووفقه - ليوسع لهم ما يمكن توسيعه من عرض مَعْلمِ المسعى الذي ضاقت بهم جنباته، وغصَّتْ بجموعهم سبله حتى دهس بعضهم بعضاً فيه؛ فأُزهقت بسبب الازدحام والزحام فيه أنفسٌ معصومة جاءت إلى هذه الديار راغبة في غفران الله لذنوبها، مؤملة أن تعود إلى أهلها وديارها سالمة غانمة، فأزهقها ضيق المكان وركْل الإنسان الذي ضاق به مَعْلم عبادته مع إمكان إفساح ساحته دون مانع شرعي، ولا عائق طبيعي.
وإذا كان هذا الشأن بهذه المثابة، والحج أحد أركان الإسلام الخمسة، والسعي بين الصفا والمروة أحد أركان العمرة - إن كانت مفردة - فإن الحال يدعونا إلى بيان المراد بكل من الصفا والمروة، وامتداد عرض كل منهما حتى يقع سعينا في الموضع الذي سمّاه الله لنا، وعيّنه لأداء تعَبُّدنا له فيه إذا وسعنا عرضه.
تعريف الصفا ووصفه:
وهنا أقول: إنَّ الصفا الوارد ذكره في قول الله عز وجل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَة مِن شَعَآئِرِ اللّهِ...}(4) جبل في سفح جبل أبي قبيس)(5) معروف بذاته وصفاته، يمتد ارتفاعاً في سنده (6)، ويمتد في أصله وقاعدته الغربية جنوباً إلى منعرجه نحو أجياد الصغير (موضع قصر الضيافة اليوم)، ويمتد شمالاً إلى منعطفه نحو البطحاء (موضع الساحة الواقعة اليوم أمام باب العباس).
وليس الصفا مقصوراً على الحجر الأملس الذي كان موجوداً هنالك، ولا على ما هو مشاهد اليوم في الموضع الذي يبدأ منه الساعون سعيهم، كما يتبادر إلى بعض الأذهان من مشاهدة العيان؛ إذ لو كان الأمر كذلك لاستدعى الحال أن نضيِّق من عرض المسعى!! وهذا مما لا يقول به عاقل.
وكانت أحداب ومرتفعات جبل الصفا الغربية مما يلي أجياد تمتد ظاهرة للعيان قبل أن تبدأ الهدميات لتوسعة المسعى والمسجد الحرام من ناحيته الجنوبية وغيرها في شهر صفر عام 1375هـ في عهد الملك سعود - رحمه الله -، وكان على أحد أكتافه الممتدة جنوباً المتصلة بجبل أجياد الصغير ثنية يُصعد إليها من أجياد الصغير ثم تنحدر منها طريق تمر وسط سقيفة مظلمة، ومنها تنزل الطريق من فوق هذا الجبل متعرِّجة بين البيوت المنتشرة على تلك المنطقة من جبل الصفا حتى تصل إلى الصفا الذي يبدأ الساعون منه سعيهم من غربه.
كما كانت البيوت السكنية شابية على جبل الصفا من كل ناحية تفترش قمته وأكتافه، وظهره، وسفحه الشمالي والجنوبي ووسطه وما يحيط بموضع ابتداء السعي منه ففطَّتْ معالمه ومنحدراته التي تعلوها في الجبل أصلاد (صخور) جبل أبي قبيس التي استعصى كثير منها على التسهيل لبناء الناس عليها يوم ذاك.
ولما ابتدأت هدميات هذه التوسعة ظهر للعيان جبل الصفا على حقيقته الجغرافية الطبيعية التي خلقه الله عليها يوم خلق السماوات والأرض، وأنّ امتداد طرفه الغربي الجنوبي المحاذي لمسيل البطحاء من جنوبها كان يصل قبل إزالته في التوسعة إلى موضع الباب الشرقي للسلم الكهربائي الصاعد اليوم إلى الدور الثاني من المسجد الحرام من ناحية أجياد، وإلى موضع قصر الضيافة الملاصق للبيوت الملكية من الجهة الجنوبية الذي موضعه الحالي جزءٌ مرتفعٌ من جبل الصفا.
فلا تعجب - والحال ما ذكرت لك - من تسمية كل هذه المنطقة من هذا الجبل باسم (جبل الصفا)؛ لأن أهل مكة في إبان أرومتهم العربية في الجاهلية والإسلام هم الذين سموه بهذا الاسم، وتبعهم في ذلك سكانها من بعدهم؛ إذ كان من عادة واضعي اللغة الذين يحتج بكلامهم في بيان المراد بمعاني الألفاظ في تفسير القرآن وغريب الحديث النبوي أن يسموا بعض أجزاء جبل ما أو وادٍ ما باسم خاص به يميز ما سموه منه عن اسم أصله لوصف قائم بذلك الجزء من الجبل، أو الوادي كما هو الحال في تسميتهم أصل جبل أبي قبيس من ناحيته الغربية والغربية الجنوبية وما بينهما من امتداد بالصفا الذي جعله الله عزّ وجلّ من شعائره في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَة مِن شَعَآئِرِ اللّهِ..}.
وقد ورد إطلاق اسم (جبل الصفا) على هذه المنطقة من هذا الجبل عند علماء العربية في مدوناتهم العلمية اللغوية، فقال الأزهري في كتابه تهذيب اللغة: (الصفا والمروة وهما جبلان بين بطحاء مكة والمسجد)(7).
وكذلك قال ابن منظور في لسان العرب(8).
وقال ابن الأثير في النهاية: (الصفا أحد جبلي المسعى)(9).
وقال أبو حفص الحنبلي في تفسيره لهذه الآية: (الصفا والمروة هما في الآية الكريمة علمان لجبلين معروفين)(10).
وقال القرطبي: (أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس، وهو هنا جبل بمكة معروف، وكذلك المروة جبل أيضا؛ ولذلك أخرجهما بلفظ التعريف)(11).
وقال عرّام في كتابه أسماء جبال تهامة وسكانها.. وهو يُعدد جبال مكة، قال: (ومن جبال مكة أبو قبيس، ومنها الصفا.. والمروة جبل إلى الحمرة ما هو)(12).
وقال الأعشى هاجياً عمير بن عبدالله بن المنذر(13):
فما أنت مِنْ أهلِ الحجون ولا الصفا
ولا لك حقُّ الشرب من ماءِ زمزم
ومعلوم لكل أحد أن الشاعر يريد سكان جبل الصفا وما حوله مما هو موضع للسكن والاستقرار، ولا يريد الصفا الذي هو الحجر الأملس؛ لأنه ليس محلاً للسكن ولا صالحاً له، ولا هو ما يُمدح به، هذا أولاً.
وثانياً: بدليل أن الشاعر قابل ذكر الصفا بذكر الحجون، فقابل جبلاً ذكره بجبل متسع المواضع مريداً سكان كل من الجبلين، وهذا يدل على أن الصفا في هذه الآية الكريمة موضع متسع يمكن اليوم الاستفادة مما تشمله التسمية منه في توسيع عرض المسعى؛ إذ الشاعر عربي ممن يحتج بدلالة قوله في دلالة ألفاظ اللغة التي نزل القرآن مخاطباً العرب بها.
وذكر أبو إسحاق الحربي في وصفه لمكة يوم أن حج إليها في كتابه (المناسك) جبل الصفا، وذكر أن امتداده أمام جبل أبي قبيس (من طرف باب الصفا إلى منعرج الوادي.. وأن طرفاً من جبل أبي قبيس يتعرج خلف جبل الصفا)(14).
وتعرّج جبل أبي قبيس الذي يحتضن جبل الصفا من خلفه، والصفا أسفل منه من أول منعرجه من ناحية البطحاء (الساحة الشرقية للمسعى اليوم) إلى منعطفه إلى أجياد الصغير (موضع قصر الضيافة اليوم) تغطيه الدور التي كانت تجثم على قاعدته، وعلوه، وأسفله إلى موضع السعي من الصفا المعروف اليوم كما سبق أن ذكرت آنفا، قد أُزيل من موقعه بقصد توسعة المسجد الحرام على مرحلتين:
أولاهما عام 1375هـ حين قُطعتْ أكتاف جبل الصفا وفُتح عليها شارع لمرور السيارات يصل بين أجياد والقشاشية التي لم تبق لها اليوم عين أيضا.
وثانيتهما في عام 1401هـ أزيل هذا الشارع وقُطع الجبل من أصله وفُصل موضع الصفا عن الجبل، وفتح بينه وبين الجبل الأصل طريق متسع للمشاة بين ما بقي من أصل الجبل وجدر الصفا من خارجه الشرقي؛ تسهيلاً للحركة والمشي حول المسجد الحرام؛ ما يسَّر على الناس عناء صعود الجبال والهبوط منها في ذلك الموضع.
وبهذا أزيل ظاهر جبل الصفا من الوجود، ودخل في ذمة التاريخ في هذا العام 1401هـ، بيد أن أصله وقاعدته موجودة تحت أرض الشارع المذكور ممتدة إلى منعطفه الشمالي الشرقي المواجه لساحة المسعى الشرقية؛ ما يثبت امتداداته قبل نسفه، وفصله عن أصله، وإزالة الظاهر على وجه الأرض منه.
ومعلوم لكل من رأى باب الصفا قبل التوسعة السعودية العظيمة التي لم يسبق لها نظير في التاريخ أن باب الصفا الذي عناه أبو إسحاق الحربي كان يُخْرَجُ منه من المسجد الحرام إلى الوادي: مسيل سيل البطحاء، ثم يُسارُ فيه بعد الخروج منه بانعطاف مرتفع نحو الشرق حتى يلاقي الطريق النازل من منحدر الثنية المنكدرة من أعلى الصفا.
ومنْ ثمَّ يُدْخَلُ إلى المرتفع من الصفا الذي يبدأ الساعون منه سعيهم.
وبهذا يظهر أن طرف جبل الصفا الغربي الجنوبي كان منقاداً إلى موضع السلم الكهربائي الصاعد إلى الدور الثاني من المسجد الحرام الذي سبق أن قررت القول فيه آنفا.
كما أن قول أبي إسحاق في تحديده لجبل الصفا (إلى منعرج الوادي) ينص صراحة على اتساع هذا الجبل شمالا إلى منعطفه من واجهته الغربية، إلى منعطفه نحو الشمال المقابل للبطحاء (الساحة الشرقية للمسعى). ولا ريب أن ما بين طرفه الغربي الجنوبي وطرفه الشمالي عند منعرج الوادي إلى الشرق من ناحية الشمال تشمله التسمية المقصودة بالخطاب في هذه الآية الكريمة.
وما شمله الاسم العَلَمُ للمسمى صح اعتبار ما يحدث في بعضه من الأعمال والأقوال حادثاً في جميعه، وله حكمه ووصفه شرعاً وعرفاً.
ويترتب على هذا أن المنطلق (أي الساعي) بنية السعي من أي موضع مما يشمله اسم الصفا لغة وعرفاً يكون داخلاً في عموم المراد بالخطاب بهذه الآية الكريمة ساعياً بحق وحقيقة بين الصفا والمروة، إذا ما انتهى به سعيه مما ذكرت إلى مسامتٍ له من جبل المروة المقابل له من ناحية الشمال.
وسوف لا يكبر عليك إطلاقهم اسم الصفا على كل هذه المساحة من الصدر الغربي والجنوبي الغربي من جبل أبي قبيس، ولا كيف عدّوا بعض هذا الجبل جبلاً آخر وسمّوه - أيضاً - باسم آخر إذا علمت أنهم قد عدُّوا أصله وأسفله من ناحيته الشمالية المقبلة على المسجد الحرام وامتداد المسعى شمالاً المحاذية لموضع مولد النبي - صلى الله عليه وسلم وآله وسلم- (موضع مكتبة مكة اليوم) جبلاً آخر سمّوه فاضحاً منذ أن تغلب فيه مضاض بن عمرو الجرهمي جد نابت ابن إسماعيل -عليه السلام- لأمه على السّميدع الجرهمي أيضاً ملك قبيلة قطوراء الجرهمية وقتله، وافتضح قبيلته ونساءهم وأخرجهم من الحرم وتملك عليه (14).
وسوف لا يكبر عليك أيضاً أنهم سموا واجهته وسفحه الجنوبي والشعاب النازلة منه (أي من جبل أبي قبيس) على المسيل اللاصق به من الجنوب أجياد الصغير (15).
وكذلك سموا شِقّه الأعلى المرتبط من الشرق والشمال الشرقي بالجبال المتصلة به الخيدمة (16).
فهذه أربعة أسماء لجبال أربعة متفرقة الأسماء مستقلة الذوات مجتزأة من جبل واحد يسمى كل منها جبلاً مستقلاً بذاته وصفاته على الحقيقة، وينسب إليه ما يقع فيه من أحداث ووقائع، وما يخصه من أحكام أو يخص المكلفين بعمل فيه.
المقصود من ذكر ما سبق من القول:
وإنما ذكرت هذا بياناً لمجمل ما أردت إيضاحه من أن الصّفا جبل متسع التكوين عريض الامتدادات من جنوبه الغربي وشماله المحاذي للامتداد الشرقي والغربي لجبل المروة، وليس مقصوراً على الموضع الذي حجز اليوم بالبناء عليه لبدء الساعين منه سعيهم كما يتبادر لعين المشتغل بأداء شعيرة السعي فيه، كما سأوضحه في ما يلي من بحثي هذا - إن شاء الله- ليعلم أن ما يصل بين موضعين متقابلين من هذين الجبلين مشمول بخطاب ما شرعه الله تعالى من التطوف بهما للحاج والمعتمر.
صورة قلمية لجبل المروة قديماً وحديثاً
المروة إذا أطلقت في الوضع اللغوي هي واحدة المرو. بهذا عرَّفها علماء اللغة في مدوناتهم العلمية.
و(المروة حجارة بيض برّاقة صلاب) (17)
وأما المروة المرادة بالخطاب في قول الله عز وجل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ} فهي كما قال ابن منظور في كتابه لسان العرب (جبل مكة شرفها الله تعالى (18) وقال الفيروزآبادي في القاموس المحيط والزبيدي في شرحه تاج العروس (المروة - بهاء- جبل بمكة يذكر مع الصفا، وقد ذكرهما الله تعالى في كتابه العزيز {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ} ثم قال الزبيدي -أيضاً- قال الأصمعي: سمي (أي الجبل) لكون حجارته بيضا براقة (19)
وقال الفيومي في المصباح المنير (المرو الحجارة البيض، الواحدة مروة، وسمي بالواحدة الجبل المعروف بمكة (20).
وكل هذا ينص صراحة على أن المقصود بالمروة في هذه الآية الكريمة جبل بعينه بمكة، وليس حجراً ولا موضعاً صغيراً في جبل يقصر الحكم عليه دون غيره من بقية الجبل المقصود بالخطاب مواجهاً لجبل الصفا.
وزيادة في البيان والإيضاح أقول: سبق آنفاً أن ذكرت أن كلا من الأزهري وابن منظور وابن الأثير وأبي حفص الحنبلي والقرطبي، وعرام قد سموا المروة جبلاً بمكة وأنه يذكر مع الصفا، وأنهما المقصودان بالخطاب في هذه الآية الكريمة {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ}.
وكذلك سماها جبلاً كل من الآلوسي في كتابه بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب فقال: (وأما المروة فجبل بمكة يعطف على الصفا يميل إلى الحمرة (21)
وكذلك سماها جبلاً ابن سيده في المحكم (22) والبكري في معجم ما استعجم (23) والحموي في معجم البلدان فقال (الصفا والمروة وهما جبلان بين بطحاء مكة والمسجد الحرام) (24)
وكل هذا -أيضاً- يدل صراحة على أن المروة جبل قائم بذاته وصفاته ممتد الجوانب واسع الواجهة المقابلة من الشمال لجبل الصفا وامتداده إلى منعطفه نحو الوادي المواجه من الشمال الشرقي لبطن المسعى.
كما يدل على هذا بقوة قول قصي الجد الرابع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو يتمدّح ويفخر ويظهر بسط سلطانه على أرض المروة وما جاورها من أرض حيث يقول (25):
لي البطحاء قد علمت معد
ومروتها رضيتُ بها رضيت
إذ من المعلوم أنه كان يعني بقوله هذا (جبل المروة) وكل امتداداته وما حوله من الأرض التي هي محل للرغبة في التملك والسكن والسيادة التي يفخر بمثلها مثله، ولا يقصد بحال من الأحوال ذات المروة التي هي الحجر الأبيض لوجود هذا النوع من الحجر وتوفره في كل موضع من السهل والجبل.
وهو على هذا المعنى الأخير لا يفخر بتملكه ولا بحيازته إذ ليس فيه مطمع لأحد ولا حاجة له به.
ويؤيد ما أقول من اتساع جبل المروة في تكوينه الطبيعي الكبير الممتد شرقاً وغرباً عما هو عليه الآن إذ قد أزيلت معالمه الشرقية وقطعت متونه وأكتافه وامتداداته العضوية التي خُلق عليها في التوسعة للحجاج والمعتمرين والقاطنين عام 1375هـ.
أقول: يؤيد قولي هذا ما رواه الأزرقي في موضعين من تاريخه (أخبار مكة) بسنده من طريق علقمة بن نضلة قال (وقف أبو سفيان بن حرب على ردم الحدّائين فضرب برجله فقال: سنام الأرض إن لها سناما، يزعم ابن فرقد.. أني لا أعرف حقي من حقه، له سواد المروة، ولي بياضها، ولي ما بين مقامي هذا إلى تجنى (26) فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن أبا سفيان لقديم الظلم، ليس لأحد حق إلا ما أحاطت عليه جدراته (27).
وسواد المروة هو ما امتدت إليه مساحة المروة السوداء ووصل إليه عرضها من ناحيتها الغربية من طرف جبل المروة الغربي المواجه من الشمال اليوم لباب الفتاح.
وبياضها هو ما امتد إليه عرض جبلها من ناحيته الشرقية مما يلي دار أبي سفيان الذي يقع اليوم مكانه على يسار النازل من المدعى إلى الساحة الشرقية من المروة وما يتصل بها من الساحة الواقعة شرق المسعى، وهو داره الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة (... ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن) (28).
وابن فرقد هذا الذي كان يشاحن أبا سفيان في المروة هو عتبة بن فرقد السلمي حليف بني عبدالمطلب ابن عبدمناف. وكانت داره برباع حلفاء بني عبدالمطلب بن عبد مناف بشق المروة السوداء التي أقر أبو سفيان في قوله هذا بملك ابن فرقد لها.
ومما يؤيد وجود كل من المروتين هاتين، وأنهما كانتا معروفتين عند أهل مكة آنذاك، وأن لكل من أبي سفيان ملكاً في المروة البيضاء، ولابن فرقد ملكاً في المروة السوداء أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم ينف ملك أي منهما لما يملكه، ولا نفي وجود واحدة من المروتين، وإنما ذم توسع ادعاء أبي سفيان في ملك ما ليس بملكه.
هذه واحدة.
والأخرى أن أبا سفيان عربي اللسان والأرومة يحتج بكلامه في تفسير معاني الألفاظ، وتعيين المسميات وتحديد المعالم والأمكنة في ديارهم. وكلامه هذا يدل على وجود مروتين في جبل المروة وليس مروة واحدة.
كما يدل -أيضاً- على اتساع مسمى المروة وواقعها وأن المروة البيضاء التي نحقق القول اليوم في امتدادها شرقاً تصل ارتفاعاتها دار أبي سفيان الواقعة على يسار النازل اليوم من شارع المدعى إلى ساحة المسعى وأن المروة السوداء تمتد غرب المروة المعروفة اليوم.
وكل هذا يدل على اتساع مساحة المروة إلى جهة الشرق على أوسع بكثير مما يقصر الناس التسمية عليه اليوم من ظنهم أنها واحدة، وأنها مقصورة على ما كان عليه العقد الذي كان منصوباً على الطرف الشمالي من المروة قبل توسعة المسعى.
وقد كان معروفاً قبل نسف ارتفاعات هذا الجبل، وإزالتها أن جميع المباني والبيوت التي كانت قائمة في هذه المنطقة كانت مبنية على الجبل وأن ارتفاعاته التي كانت تحت تلك البيوت قد أزالتها معاول النسف والتفجير تسهيلاً لسير الناس من حجاج وعمار ومواطنين عليها دون إعاقة ولا عنت.
وكانت البيوت السكنية تلك التي لا يزال بعض سكانها أحياء يرزقون - والحمد لله - أعرف كثيراً منهم تفترش بيوتهم واجهة جبل المروة الممتدة شرقاً إلى الطريق النازل اليوم من المدعى إلى ساحة المسعى، كما تفترش سفحه ومنحدراته وارتفاعاته الواقعة على واجهته الجنوبية المطلة على المسعى وعلى الوادي الفاصل بين جبل الصفا وجبل المروة الذي ابتطحته البيوت السكنية هو الآخر قبل التوسعة السعودية، فأذهبت معالمه وقطعت ظاهر ما كان بين الصفا والمروة من اتصال متسع ينجو به الساعون من مخاطر ومحاذير الازدحام؛ إذ كانت الجهة الشرقية للمسعى فضاء غير محدود ببناء قبل أن يزحف عليها الناس ويضيقوا سعته بما أقاموا عليها من دور ومنازل قبل أن تفك التوسعة السعودية ضائقته وتطلق أسره من المعتدين عليه.
ومن ثم عاد مهندسو التوسعة السعودية فضيقوا على المسعى ما انفسح به عرضه، ولو تركوه دون أن يقيموا عليه جدراً من الشرق لما ضاق المسعى اليوم بأحد من الساعين فيه، ولما احتاج الأمر منا إلى بيان ولا إلى رجاء توسيع عرضه.
وأعود فأقول: إن الواجهة الجنوبية الشرقية لجبل المروة المواجهة لجبل الصفا من الشمال كانت مغطاة بالبيوت السكنية منقادة متراصة بعضها بجانب بعض على طول متن الجبل من ملاصقة جدر المروة الشرقي إلى الطريق الصاعد من شرقي الطرف الشمالي للمسعى إلى المدعى.
وقد كانت بيوت السادة المراغنة التي كان يستأجرها صالح بن محمد سابق على جبل المروة ملاصقة جدرانها جدر المروة الشرقي وعرض بيتهم الملاصق لجدر المروة من الشرق ممتداً نحو الشرق حوالي خمسة عشر متراً.
ويتصل به ملاصقة من الشرق حوش المحناطة الذي كان بائعو الحبوب بالمدعى ينخلون فيه حبوبهم قبل بيعها، وامتداده من دار المراغنة على جبل المروة أيضاً إلى جهة الشرق باتجاه طريق المدعى حوالي خمسة وعشرين متراً، وتمتد منه سقيفة طويلة هي الطريق منه إلى طريق المدعى لمن أراد الذهاب بالحبوب المنخولة إلى أصحابها البائعين.
فهذا بعض عرض واجهة مرتفعات جبل المروة من ناحية الشرق من ملاصقة المروة التي يسعى منها الناس على خط مستقيم نحو الشرق إلى شارع المدعى على متن جبل المروة كان مرتفعاً جبلياً عن مستوى المسعى ارتفاعاً ظاهراً يعرفه العام والخاص قبل تكسيره وتسويته بالأرض. ويلاصق بيت المراغنة الآنف الذكر من الجنوب على امتداد طول المسعى على واجهة المسعى الشرقية على يسار النازل من المروة منحدراً إلى المسعى متجهاً إلى الصفا وقف المراغنة، يفتح بابه على داخل المسعى.
ويلاصقه متصلاً به من الجنوب -أيضاً- على نفس الوصف بيت الجاوة على يسار النازل من المروة إلى المسعى. ثم يلاصقه من الجنوب أيضاً على ذات الحال والوصف بيت عبدالرحمن سمباوة.
ويلاصقه من الجنوب أيضاً بيت المندر.. ثم يلاصقه أيضاً على ذات الوصف بيت النفوري وغيرها من البيوت وجميع أبوابها تفتح على بطن المسعى وأعظم هذه البيوت على المنحدر الجبلي من المروة.
أقول: لولا الزحف على عرض المسعى.. هل كان أحد يجرؤ على البناء على عرضه دون وازع ديني، ولا رقيب إداري؟؟
وقد عوضت هذه الدولة الكريمة أصحاب هذه الدور وغيرهم ممن دخل داره في التوسعة بما أغناهم وأرضاهم - جزاها الله خيراً.
والحاصل الذي لا مين، ولا مراء فيه أن المرتفعات الجبلية الصخرية لواجهة جبل المروة الشرقية الجنوبية تمتد شرق موقع المروة الحالي الذي يقف عليه الساعون اليوم زيادة عما هو عليه الحال الآن بما لا يقل عن أربعين متراً من ناحية الشرق.
حتى تلاقي الطريق النازل من المدعى إلى ساحة المروة الشرقية.
وهذا يدعو عاجلاً إلى توسيع عرض المسعى بما لا يقل عن العرض الموجود حالياً حتى تكون التوسعة الجديدة موضعاً لسعي القادمين من الصفا.
ويكون المسعى الموجود حالياً موضعاً للساعين من المروة إلى الصفا.
ويُقام على التوسعة الجديدة دوران علويان فوقها حتى يصبح المسعى بهذا ستة مسارات كل ثلاثة منها فوق بعضها بعضاً.
وقد طلبت من صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبدالعزيز وزير الشؤون البلدية والقروية ورئيس هيئة تطوير مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة - حفظه الله - في اجتماعنا الثاني معه بداره الكائنة بحي العزيزية بمكة المشرفة بعد صلاة تراويح مساء يوم السبت 29-9-1427 هـ عمل مجسات للمنطقة الشرقية الملاصقة للمروة حتى يظهر للعيان ثبوت ما أقول من إن الواجهة الجنوبية الشرقية الصخرية لجبل المروة ممتدة إلى مسافة الطريق النازل اليوم من المدعى إلى ساحة المسعى الشرقية قبل أن تزال مرتفعاته وأكتافه ومتونه الجنوبية الشرقية ويُقْطع امتداده الشمالي عن أصله المتصل به من الشمال ويفتح بين أصل الجبل من الشمال وموضع الوقوف على المروة شارع سفلي موازياً لها من الشمال تحت الجسر الآتي من الجبل من الشمال إلى الدور الثاني للمروة والمسعى.
وآخر علوي يربط شارع المدعى من شمال المروة بالشارع النازل على مورد زمزم الحالي على جبل المروة من ناحيتها الغربية تسهيلاً لحركة الحجاج والمعتمرين وجميع السائرين في هذا المشعر الشريف فوافق سموه الكريم في الحال جزاه الله خيراً وشكر الله سعيه.
وقد تم وقوفنا على الموضع المذكور مع معالي الدكتور ناصر السلوم الأمين العام لهيئة تطوير مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة اللطيف اللقاء والسماحة وصحبه الفضلاء ضحى يوم الاثنين 8-10-1427 هـ للنظر في ذلك والمؤمل أن يحقق الله المساعي، ويكلل الأعمال بالنجاح ولو بدون عمل المجسّات - لما فيه خير وراحة المؤمنين بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم في تأديتهم للسعي بين الصفا والمروة وتسهيل سيرهم وحركتهم في هذه المنطقة المحتاجة دوماً للتسهيل والرعاية حفظاً لسلامتهم وعناية بصحتهم وتوفيراً لأمنهم الحياتي من الموت دهساً في الزحام حتى يؤدوا مناسكهم في يسر وطمأنينة وأمان تحقيقاً لقول الله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا} (30).
هذا مجمل القول فيما يتعلق بامتداد المرتفعات الشرقية لجبل المروة البيضاء الواقعة في الواجهة الشرقية والجنوبية الشرقية من مقبل جبل المروة على بطحاء مكة الكائنة بين جبلي الصفا والمروة، وموضع السعي بينهما.
وهذا هو الموضع الذي آمل مخلصاً صادقاً داعياً الله تعالى أن يهيئ ولي أمرنا في هذه البلاد المقدسة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود إمام المسلمين وقدوتهم الطيبة في فعل الخيرات وتيسير أمور الحياة لهم والعناية بسلامتهم فيجري على يديه الكريمتين توسعة عرض المسعى من جانبه الشرقي، وسيبقى له الأجر العظيم جارياً ما بقيت الدنيا، وما عند الله خير للأبرار.
خلاصة لما سبق:
وحاصل القول إن ما ذكرته آنفاً من حدود جبل كل من الصفا والمروة وامتدادات كل منهما بطبيعة خلقه مع تقابل واجهة الصفا الشمالية لامتدادات جبل المروة الشرقية الجنوبية المواجهة للصفا أدلة ظاهرة على جواز توسيع عرض المسعى من ناحيته الشرقية الممتدة من جبل الصفا إلى جبل المروة بما لا يدع مجالاً للتوقف ولا للشك في القول بهذا لتحقق دخول ما يُزَادُ في عرضه من الشرق في وقوعه يقيناً موضعاً للسعي بين هذين المعلمين اللذين جعلهما الله تعالى من شعائره في أعمال الحج والعمرة.
الكلام فيما يتعلق بالمروة السوداء
وأما ما يتعلق بالمروة السوداء (31) التي قلَّ أو يندر أن يعرف أحد من الناس في هذا العصر موقعها لبناء المنازل والأسواق عليه قبل التوسعة السعودية بدهر طويل ثم لتحويل المسعى عن موقعها في التوسعة الثانية للخليفة المهدي العباسي عام 167 هـ.
ثم لإزالتها في التوسعة السعودية عام 1375 هـ مع ما أزيل من دور ومنازل وأسواق وشوارع وطرق كانت عليها دون أن يفطن لها أحد من أهل العلم المهتمين بالمعالم المكية الذين يُعْنَوْن بمثل هذه المواقع فإن موقعها اليوم غرب موقع المروة الحالي في واجهة جبل المروة المقابل اليوم للجزء الشرقي من باب الفتح الحالي بالمسجد الحرام فيما بين الدرجة الصاعدة من ساحة باب الفتح إلى مورد ماء زمزم الحالي الذي فوق جبل المروة في وقتنا الحاضر، ويفصل بينها وبين المروة التي ينتهي الساعون إليها اليوم في سعيهم جدار المروة والباب وموضع السلم الصاعد منها إلى الدور الثاني من المسعى وما يليه من متسع غرب جدار المسعى.
ويلي موضعها من الغرب الميضأة الحالية الواقعة اليوم على يسار الصاعد من ساحة باب الفتح إلى مورد زمزم المواجه لباب الفتح من الشمال المنجور لها تحت أصلاد (صخور) جبل المروة السوداء الذي أزيلت مرتفعاته، وَوُطِّئ صدره ومتنه اليوم طريقاً للسيارات الواردة إلى ماء زمزم المورود نميره والصاعدة من جواره إلى مرتفع القرارة المؤدي إلى الراقوبة.
وهذا الموضع من المروة - وهو الموضع الذي كان فيه دار ابن فرقد السلمي الآنف ذكره في اعتراف أبي سفيان له به - كان قبل توسعة المهدي الثانية عام 167 هـ - كان يقابل أدنى المرتفعات الصخرية الغربية الجنوبية من جبل الصفا الممتدة يومذاك إلى موضع السلّم الكهربائي الصاعد اليوم من أجياد إلى الدور الثاني من المسجد الحرام كما ذكرت آنفاً في تحديد مرتفعات جبل الصفا.
وموضع المروة السوداء هذه هو الامتداد الطبيعي لجبل المروة من جانبه الغربي الجنوبي الذي كان على هيئة نشوزات وأحداب من الكتلة الجبلية الغربية لجبل المروة التي كان ينتهي إليها سعي الساعين من الصفا في الجنوب إلى المروة في الشمال (قبل أن يؤخر المسعى)(32) من موضعه الذي كان فيه ببطن المسجد الحرام إذ (كان المسعى في موضع المسجد الحرام)(33) قبل توسعة المهدي الثانية عام 167 هـ كما يدل على ذلك ما رواه الأزرقي عن جده الذي عايش تلك التوسعة، والتوسعة الأولى عام 160 هـ كما سأوضح هذا بعد قليل في بحثي هذا إن شاء الله بذكر ما هدم من دور كانت محيطة بالمطاف ومتصلة به من جانبه الشرقي الذي كان لا يفصله عن المسعى سوى دارين اثنتين الشرقي منهما بابه مفتوح على أصل المسعى مباشرة فاستدعت توسعة المطاف للمسلمين يوم ذاك أمرين اثنين هما:
1- هدم الدور المحيطة بالمطاف من جهة وبالمسعى من جهتها الأخرى الشرقية.
2- تأخير المسعى ونقله من موضعه الذي كان هو فيه ممتداً في موضع الحصوة التي كانت شرقي بئر زمزم إلى الموضع الذي هو فيه اليوم متصلاً من شرقه بالفضاء الممتد بين جبلي الصفا والمروة مفتوح عرضه للساعين فيه مهما كثروا وازدحموا لايعيقهم فيه عائق لعدم وجود حاجز يمنع توسع الساعين في عرضه إذا ازدحموا فيه في حيز ما بين الجبلين قبل أن يعتدي الناس عليه ببناء دورهم على جانبه الشرقي وتضييقه على الساعين وطمس معالم اتساعه عرضا بما أقاموه عليه من دورٍ وأسواقٍ دون أن يمنعهم حكامهم من الاعتداء على المشاعر المقدسة.
توسعة المطاف وتأخير المسعى عن موضعه
الدعوة إلى توسيع عرض المسعى لتخفيف الازدحام فيه عن الساعين أمر مطلوب شرعاً ومرغوب عُرفاً من وجوه كثيرة:
أولها - ما سبق أن ذكرته آنفاً من بيان حدود كل من جبل الصفا وجبل المروة، وأن توسيع عرض المسعى من الشرق على الطرف الغربي من الساحة الملاصق للجدر الشرقي من المسعى بقدر عرض المسعى الحالي، ليكون الحالي للآتي من المروة والجديد للساعي من الصفا إلى المروة يقع ضمن حدود البينية الكائنة بين جبلي الصفا والمروة، وليس خارجاً عن أي منهما.
وأنه مشمول بقول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، وهذا جائز شرعاً لعدم خروجه عن دلالة نص هذه الآية الكريمة ومنطوقها.
وقد سبق آنفاً إيضاحي تفصيلاً بيان صدور هذين الجبلين وامتدادات كل منهما.
ثاني هذه الوجوه: أن التوسعة في مثل هذا المشعر الحرام سبق لها نظير في مثله، بل في ما هو مقدم عليه شرعاً.
فقد وسّع عمر بن الخطاب رضي الله عنه المطاف حين رأى شدة ازدحام الحجاج فيه فاشترى البيوت التي كانت محيطة به فهدمها ووضع المطاف في موضعها وذلك سنة 17 هـ.
ثُمَّ وسَّعَهُ - أيضاً - عثمان بن عفان رضي الله عنه في عهده سنة 26 هـ لنفس الغرض أيضاً.
ثُمَّ وسعه - أيضاً - عبدالله بن الزبير أيام خلافته لنفس الأمر حين رأى كثرة الزحام فيه فهذا عمل اثنين من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخذ بسنتهم والعض عليها بالنواجذ.
وهو - أيضاً - عمل صحابي آخر هو أحد خلفاء المسلمين وحكامهم.
وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على هذا وأقروه حيث لم يعترض منهم أحد على هذا العمل، بل حَبَّذوه ورأوه عملاً صالحاً تم لمصلحة المسلمين، ثالثها، أن المسعى الحالي ليس هو في عرضه على ما كان في العهد النبوي، ولا في عهد الصحابة رضي الله عنهم بل اقتصر من عرضه بزحف المباني عليه من ناحيتيه: الغربية والشرقية:
1- أما من الناحية الغربية فيدل على ذلك أن البيوت كانت لاصقة بالمطاف مرتص بعضها بلصق بعض من المطاف إلى المسعى حيث كان:
أ - دار الأزرق بن عمرو الغسّاني جداره لاصق بالمطاف من ناحية الشرق فاشترى ابن الزبير نصفها وأدخله في المطاف، ثم اشترى بقيته المهدي العباسي عام 160 هـ فأدخلها المطاف.
ب - واشترى دار خيرة بنت سباع الخزاعية التي كانت لاصقة بدار الأزرق من الشرق وبابها الشرقي كان شارعاً مفتوحاً مباشرة على المسعى قبل أن يؤخر عن موضعه وَوُضِعَ المسجد في موضع دارها ودار آل جبير بن مطعم وجميع الدور التي كانت بين المسجد والمسعى فَوُضِعَ المسجد في موضعها وأُخِّرَ المسعى إلى موضعه الذي هو فيه اليوم (34)
ج - وفي توسعة المهدي الثانية عام 167 هـ أمر بشراء الدور التي كانت باقية بين المسجد والمسعى فاشتريت وهدمت وهدم أكثر دار محمد بن عباد العائذي الكائنة عند العلم الأخضر بركن المسجد من جهة الصفا وما جاورها توسعة للمسجد وللمسعى.
قال الأزرقي: (فهدموا ما كان بين الصفا والوادي من الدور وجعلوا المسعى والوادي فيها)(35) أي نقلوا المسعى من بطن المسجد إلى موضع الدور التي هدموها أقول: ما اقْتُصِرَ مِنْ عَرْضِهِ حينا، وَزِيدَ فيه حينا آخر يجوز اليوم حتما توسيع عرضه محافظة على سلامة الساعين وحياتهم بدفع الازدحام عنهم فيه بقيد ما ذكرته سابقاً في بياني لحدود جبلي الصفا والمروة.
د - هذا من ناحيته الغربية، وأما من ناحيته الشرقية فإن عدم منع الناس من الزحف عليه ببناء منازلهم وأسواقهم على جانبه الشرقي قد ضيّق عرضه كثيراً يدل على هذا ما رواه الحاكم في كتابه المستدرك على الصحيحين (3 - 502 - 503) من أن يحيى بن عمران بن عثمان بن الأرقم قال - وهو يخبر عن طمع أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور (36) في امتلاكه لدارهم التي هي دار جدهم الأرقم بن أبي الأرقم التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجتمع فيها بأصحابه في أول أمر.
وحاصل القول في أن توسيع عرض المسعى من الجهة الشرقية بقدر ما يماثل المسعى الحالي ليكون القديم للآتي من المروة إلى الصفا.
ويكون الجديد للنازل من الصفا ذاهِباً إلى المروة عملاً مبروراً وسعياً مشكوراً لا حرج فيه لا شرعاً، ولا عرفاً لتحقق كونه بين جبلي الصفا والمروة، كما حققت هذا آنفاً.. هذا أولاً.
ولتحقيقه المصلحة والسلامة للمسلمين الساعين فيه لحج، أو عمرة ثانياً.
اقتراح تجميلي
مما ينبغي عمله وإظهاره للعيان لجميع الساعين والرائين أيضاً أنْ إذا يَسَّرَ الله توسيع عرض المسعى على ما قلتُ أن يقام في موضع الصفا صفاً صناعياً على مثل وشكل الجبل الذي أزيل يتدرّج ارتفاعه من أسفل إلى فوق.
وكذلك تقام مروة بيضاء مثل الجبل الذي أزيل يتدرّج ارتفاعها من أسفل إلى فوق حتى تطمئن القلوب ويذهب عنها ما قد يوسوس به الموسوسون وينصرف النظر عن الاشتغال بما لا داعي له من تمحُّل.
الحواشي
(1) سورة البقرة آية 158
(2) الأم للإمام الشافعي 3-545، السنن الكبرى للبيهقي 5 - 98، وسنن الدارقطني 2-256
(3) شرح السنة للبغوي 7-176 بنحوه.
(4) سورة البقرة آية 158
(5) مجلة العرب، المجلد الخامس ص 116 شعبان عام 1390 هـ.
(6) السند هنا ما قابلك من الجبل وعلا عن سفحه. القاموس المحيط مادة (سند).
(7) تهذيب اللغة 12-249
(8) لسان العرب 14-469
(9) النهاية في غريب الحديث والأثر 3-38
(10) اللباب في علوم الكتاب 3-92
(11) الجامع لأحكام القرآن 2-179
(12) أسماء جبال مكة.. مطبوع ضمن نوادر المخطوطات 2-418 المجموعة الخامسة تحقيق عبدالسلام هارون ط2، عام 1394 هـ
(13) ديوان الأعشى214
(14) كتاب المناسك لأبي إسحاق الحربي 479 تحقيق حمد الجاسر
(15) أخبار مكة للأزرقي 1-82، 83، 2-268، 269
(16) الأزرقي 2-290
(17) الأزرقي 2-269
(18) لسان العرب 15-275 مادة (مرا) وتاج العروس 39-520 مادة (مرو)
(19) لسان العرب 15-276
(20) تاج العروس 39-521
(21) المصباح المنير 2-235
(22) بلوغ الأدب 1-239
(23) المحكم لابن سِيْده 10-336
(24) معجم ما استعجم للبكري 4-1217
(25) معجم البلدان 3-411
(26) السيرة النبوية لابن هشام 1-135
(27) أخبار مكة للأزرقي 2-165، 237 وتجنى ثنية قريب الطائف
(28) نفس المصدر، وانظر العقد الفريد 4-272
(29) أخبار مكة للأزرقي 2-235
(30) سورة القصص آية 57
(31) تاريخ مكة للأزرقي تحقيق ابن دهيش 2 - 860، أخبار مكة للفاكهي 3-276 تحقيق ابن دهيش.
(32) أخبار مكة للأزرقي 1 - 75 سطر 2
(33) نفس المصدر 1 - 79 سطر 5، إتحاف الورى 2 - 214 سطر 14
(34) أخبار مكة للأزرقي 2 - 69 - 75 باختصار.
(35) الأزرقي 2 - 79 - 80
(36) تولى الخلافة سنة 136 هـ وتوفي سنة 158 هـ.