الشفافية هي أحد المصطلحات الثقافية المعاصرة المأخوذة من المخزون الغربي الفكري الذي صرنا نعبّ منه عبّاً، عن طريق الترجمة الهائمة في كلِّ ما هو غربي، سلبياً كان أم إيجابياً، دون وعي أو تمييز، والويل كلُّ الويل لمن ينتقد هذا التوجُّه فهو (ماضوي) مصادر للآراء الأخرى المتقدّمة.
وبالمناسبة فمفردة ماضوي تندرج أيضاً تحت هذا السياق، حيث هي كلمة عصرية يلوح بها كل من لا يرى في الماضي شيئاً يجذبه، حتى لو كان معتقداً دينياً تنزل من عند رب العالمين، وذلك لأنّه لم يظهر في عصرهم الجديد المتطوّر؟ متجاهلين أنّ جديدهم سيغدو عما قريب قديماً وربما خاطئاً بل مثيراً للسخرية.
وهذا هو حال السنن الكونية المتغيّرة المتجدّدة، فلا يصح إلاّ الصحيح:
{... فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ...} (17) سورة الرعد، ولو تأمّلنا حال كثير من البدع والعقائد الضّالة والأخلاقيات المنحرفة، لرأيناها أضحت أضحوكة المؤرّخين.
نعود لمصطلحنا اليوم، وعلى فكرة أود أن أزفّ إليكم: أني نويت أن أخصِّص لكلِّ أسبوع في هذه الزاوية مصطلحاً مترجماً معاصراً، وأن تكون الدندنة حول هذه المصطلحات، كي يزداد عدد المخدوعين، عفواً إنّما أعني عدد المعجبين بكتاباتي الإبداعية التي ستنقلكم من الخيمة إلى الشاطئ !
بيْد أني وجدت أنّ تلك المصطلحات من الكثرة بمكان، بحيث لا تكفي سنيّ عمري للإحاطة بها، لذا فقد قرّرت أن أؤلِّف فيها كتاباً بل مجلّداً زاهياً، ضمن الناشر لي فيه المكسب المادِّي الجزيل الذي سيرفِّهني بقية حياتي.
أووووه ، لقد كدت أنسى مصطلحنا اليوم وهو مفهوم الشفافية الذي يعني المكاشفة والوضوح، وتقبُّل النقد في أريحية وصدر رحب، ولكن هيهات هيهات، فما أسهل أن يوجِّه البعض اللوم للآخرين وتخطئتهم بكلِّ الوسائل، لكن حين يوجِّه أحد النقد إليهم سلقوه بألسنة حداد، تصل لحد الاتهام والقذف الظالم !
حسناً سادتي سيداتي، سأفترض مسبقاً أني سأتقبّل هذا المصطلح الحديث من باب أنّ ديننا لا يحارب التجديد، وهو الدِّين الذي نزل للناس كافة وليس لقوم دون آخرين، لكني أتمنى عليكم أيُّها المبهورون بكلِّ ما هو مستورد، بأن (تطبِّقوا معناه فعلاً، لا تشدُّقاً)، حيث هو التواصل والمحاسبة الدقيقة لكلِّ ما يعيق الصلاح والتنمية الإيجابية والعدالة وتقبُّل النقد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} .. لأنّ المعنى المباشر والمبسط للشفافية هو ضد السرِّية والتخفِّي وعدم وضوح الرؤية، فقد انتهى عصر السذاجة والضحك على الذّقون، لأنّنا نعيش عصر العولمة الذي هو عصر الشفافية التطبيقية والتكشُّف بدءاً من تكشُّف الحقائق ونهاية بتكشُّف الأردية والعورات.
لقد ظهرت منظمات عالمية عديدة تدعو للشفافية والمساءلة لمقاومة الفساد الإداري والاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ولكنها حتماً لن تنجح النجاح المرجو طالما هي لا تنظر إلاّ بعين واحدة.
وهكذا سيكون الحال في كلِّ مكان إذا استمر أصحاب المصالح المختلفة من فكريّة ومادية ومعنوية يريدون أن تكون الساحة لهم فحسب، فحينئذ ستصبح الشفافية حولاً ليس له دواء.
g-al-alshehk@hotmail.com