كتب - مندوب الجزيرة:
أجمع عدد من أصحاب الفضيلة العاملين في المجال الدعوي على أهمية الدور المناط بالدعاة إلى الله في المجتمع المسلم وأثرهم الواضح في علاج كثير من القضايا التي تظهر في المجتمع، سواء ما يتعلق بسلوكيات الأفراد أو أفكارهم داخل المجتمع، مشددين على ضرورة تزويد الدعاة بالخبرات والمهارات التي تمكنهم من مخاطبة المدعوين بأسهل الطرق وأيسر العبارات التي من شأنها أن تبصر المجتمع بكثير من المسائل المستجدة، وخصوصاً ما يتعلق بالأفكار المنحرفة التي تتعارض مع وسطية الإسلام واعتداله.
الدراسة المتخصصة
في البداية يقول د. محمد الأمين الخطري - المدير العام لفرع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بمنطقة المدينة المنورة: لقد كرَّم الله تعالى هذه الأمة، ورفع ذكرها، واختصها بخصال كانت بسببها خير الأمم، ومن أبرز تلك الخصال أنها أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}، وأمر الله عز وجل هذه الأمة بأن تقوم بواجب الدعوة إليه لتتم لها الريادة، والخيرية، التفضيل، على سائر الأمم، قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّة يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
والدعاة إلى الله هم المعنيون والمشتغلون بالبلاغ عن الله عز وجل، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فهم ورثة الأنبياء الذين ورثوا حظاً وافراً من العلم الذي ورثه الأنبياء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر)، وهؤلاء الدعاة مأمورون بأن تكون دعوتهم على علم يستقونه من هدي الكتاب والسنة، قال تعالى: {قُلْ هَذِه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّه عَلَى بَصِيرَة أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّه وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، والبصيرة هنا العلم في العلم الشرعي، وهو الأساس الذي تقوم عليه الدعوة، ويكون الداعية به مؤهلاً للتشرف بتحمل مسؤولية الدعوة.
ولتزود الداعية بالعلم الشرعي ثمرات كثيرة، ومن أبرزها قدرتهم على دعوة كل فئات المدعوين بما يناسب كل فئة، من حيث بدئه بالأهم فالمهم من حيث الأسلوب والوسيلة، ومن الفئات التي يجب على كل داعية العناية بدعوة أفرادها، تلك الفئة من الشباب الذين ولجت قلوبهم الأهواء، وحاد بهم فهمهم الخاطئ عن طريق الحق والصواب، ففارقوا سبل الهدى، ووقعوا في مزالق التطرف، والغلو، والتكفير للمسلمين، والخروج على ولاة الأمر، ومفارقة جماعة المسلمين، ولن يفلح داعية في دعوة أولئك المتأثرين بتلك الأهواء حتى يأخذ بأمرين لا غنى له عنهما:
أولاً: أن يرسخ في طلب العلم، ويأخذه عن أهله ومن مظانه، ويعلم طريقة علماء السلف ومن سار على هداهم، ولهذا فإن لطلب العلم الشرعي وسائل كثيرة منها: طلب العلم في حِلق العلم التي في المساجد، والتي يقيمها العلماء الربانيون، وكذلك الدراسة الأكاديمية المتخصصة في الكليات الشرعية، ومن ذلك الإعداد لعقد الدورات العلمية المتخصصة في العقيدة داخل أروقة الوزارة، حيث يتلقى الدعاة حظاً وافراً من العلم بمسائل العقيدة.
ثانياً: أن يعتني بالوسائل والأساليب الدعوية التي تمكنه من خلالها من الوصول إلى أذهان وقلوب تلك الفئة، وإن من أكثر الأساليب تأثيراً أسلوب المخاطبة بالأدلة الشرعية، والبراهين من كلام العلماء المحققين. ومن الوسائل التي ينبغي على الدعاة العناية والانتفاع بها وسيلة الإنترنت، وذلك بإنشاء المواقع النافعة، والإسهام بالكلمات والدروس في المواقع القائمة ذات التوجه الوسطي، كما ينبغي على الدعاة المشاركة في وسائل الإعلام، سواء في الفضائيات، أو الصحف ونحوها، فكل ذلك من الإسهام النافع حتى تكون الدعوة على بصيرة، وعلم ينتفع به، أياً كان فكره وثقافته.
دعاة متخصصون
أما الشيخ علي بن سالم العبدلي - المدير العام لفرع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بمنطقة الجوف - فقال: إن للداعية أهمية كبرى في تبليغ الإسلام؛ لحاجة الدعوة إلى دعاة أكفاء قادرين على القيام بالواجب المنوط بهم على أمر وجوب تبليغ الدعوة؛ لذا فإن عملية إعداد الدعاة وتكوينهم ينبغي ألا تكون عشوائية أو ارتجالية، بل تحتاج إلى تخطيط ودراسة متأنية ومتخصصة؛ لأن الداعية كلما كان إعداده علمياً وشرعياً إلى جانب العلوم الطبيعية كان تأثيره في المجتمع أكبر؛ لذا كانت هناك جامعات ومدارس ومعاهد وجمعيات ومؤسسات تقوم على تأهيل الدعاة من ذلك الطراز الذي تحتاجه المجتمعات الإسلامية ولاسيما في العصر الحاضر؛ لأن النهوض بتبعات الدعوة يحتاج إلى دعاة مستوعبين لرسالتهم، مدركين لحجم التحديات التي تحيط بالإسلام. وحتى يقوم الداعية بمهام الدعوة خير قيام فإن عليه أن يحصل من علوم القرآن الكريم وما تتطلبه أعمال الدعوة إلى الله من العلوم الأخرى التي تمكنه من مواكبة العصر الحديث، وأن يكون قادراً على مواكبة ركب العلوم التقنية؛ لأننا اليوم في حاجة إلى دعاة متخصصين في قضايا مختلفة منها العلمية والمهنية والفكرية والشرعية التي تحتاج إلى مساحة كبيرة من العلوم العصرية خاصة قضايا التكفير والإرهاب والتطرف والغلو، وما لم يكن الداعية ملماً بهذه العلوم فإنه يجد نفسه منعزلاً عن الناس وعاجزاً عن أن يصل إلى مواطن اهتمامهم. إذاً لا بد من تأهيل الدعاة تأهيلاً علمياً من خلال الجامعات الإسلامية والمؤسسات والمعاهد وبالدراسة المتخصصة لمواجهة القضايا المختلفة في هذا العصر. وما يعول عليه البعض من عقد دورات تدريبية للدعاة لمواجهة قضايا هذا العصر فإن ذلك في رأيي غير مُجدٍ، وسيكون ضعيف التأثير خاصة ونحن أمام تعديل للخطاب الديني المطروح الذي يعالج قضايا الأمة على أسس علمية ومنهجيه، وإلى جانب الأسس الشرعية التي يقوم عليها هذا الخطاب.
فالصراع يدور سجالاً بين الحق والباطل؛ لذا لا بد من دخول هذا المعترك بسلاح متطور وإمكانيات حديثة، وهنا يأتي دور الداعية من أفراد ومؤسسات للتصدي لهذا التحدي والدفاع عن الأمة وبذل قصارى الجهد لحفظ كيان الأمة ومعتقداتها، وذلك على بصيرة ومعرفة؛ إذ يتوجب على الدعاة من أفراد ومؤسسات أن يكونوا مطلعين على الوسائل والغايات والأهداف وكشف المعتقدات الضالة والأفكار الخاطئة التي تؤدي إلى الانحلال الخلقي وإلى الطعن في الأمة ومعتقداتها، وذلك من خلال المحاضرات والندوات والكتابات في الصحف والمقابلات المرئية ومتابعة ذلك أولا بأول حتى لا تترك فرصة قد يستغلها أعداء الأمة للنيل من أمتنا في الطعن بدينها وتشويه صورتها أمام الأمم.
العلم والخبرة
ويؤكد د. علي بن محمد العجلان - المدير العام لفرع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بمنطقة القصيم - أن الدعوة سواء كانت إلى أعظم شيء وهو التوحيد، أم كانت إلى فضائل الأعمال، إذا لم تضبط بضابط العلم الصحيح المنتقى من كتاب الله ومن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا بد أن يحدث الافتراق في الأمة كما حصل فعلاً، ولم يحصل الافتراق لأجل نقص العلم، ولكن حصل الافتراق لأجل الجهل والبغي، قال تعالى:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}, وقال - جل وعلا - مبيناً أن تفرقهم كان بسبب البغي: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}.
وقال: إن على الدعاة أن يكونوا قدوة حسنة للمجتمع الذي يعيشون فيه، تبدو في حياتهم آثار الرسالة التي يدعون إليها، وترسم في خطاهم ملامح المبادئ التي يحملونها، وبذلك يحس كل من حولهم بأثرهم، فالدعاة هم الأشخاص الذين يحملون الدعوة إلى الناس بأعمالهم قبل أقوالهم، وبسلوكهم وحسن سيرتهم قبل خطبهم ومحاضراتهم، ولهذا كان الاهتمام بتربية الدعاة وتدريبهم واختيارهم أمرا لا بد منه، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختار الدعاة ويرسل منهم إلى كل جهة ما يناسبها، وما تحتاج إليه.
وزاد قائلاً: إنه في ظل الحملة الشرسة التي يواجهها العالم الإسلامي اليوم والتي تنال من دين الإسلام ومن رسوله يجب علينا تأهيل الدعاة لمواجهة تحديات العصر الحديث في جميع جوانب الحياة، والرد على كل إساءة للدين، ومنها اتهام الإسلام بالإرهاب، رغم أنه دين التسامح والسلام، والوسطية والاعتدال؛ الأمر الذي يتطلب أن يكون الداعية مؤهلاً تأهيلاً شرعياً وثقافياً واجتماعياً، وعلى دراية بالتطورات والأحداث العالمية التي يمر بها العالم اليوم، حيث ينهض الدعاة بدعوتهم وفق منظور جديد يلائم هذه المتغيرات ومتطلبات العصر. إننا نعيش في عصر تعدد فيه الفرسان، وكثر المتزاحمون بالمتلقي، وأصبحت أوراق الداعية أما الجمهور قابلة للتأمل والتذوق والمراجعة، ولم تعد مقبولة من أول وهلة، فإذا أراد الداعية خطاباً عدلاً في مضمونه، محكماً في أدلته وسبل إقناعه، فلا بد أن يؤهل نفسه تأهيلاً يقدر لكل ذي حق حقه.
نوازل ومستجدات
ويضيف د. العجلان في سياق حديثه: إنه يجب على الداعية أن يلامس واقعه، وأن يكون قريباً من مجتمعه، فإذا ما طرأ طارئ أو نزلت نازلة أو استجدت قضية، انبرى وعالجها بنظرة شرعية على ضوء ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واجتماع الأمة، فالمجتمعات الإسلامية، وبخاصة في هذا العصر، تواجه العديد من النوازل والمستجدات، وتقف حائرة حيالها تتلهف إلى من يبصرها في أمرها، ويدلها على الحقيقة والصواب، ومن تلك المستجدات على سبيل المثال لا الحصر ظهور فرق ومذاهب وتيارات منحرفة تدعو الناس إلى مبادئها وضلالتها وفق مفاهيم ضلت فيها، فأفكارها ومعتقداتها محصورة، وهذا الأمر يتطلب حصراً شاملاً من أهل العلم لجمع شبههم والجواب عليهم والرد بأدلة وقواعد مفصلة مقنعة شرعاً، وتزويد كل الجهات وطلبة العلم والخطباء والدعاة بها؛ ليكونوا على بينة منها، وليردوا على تلك الأفكار بحيث يلزم حصر الشُّبه والرد عليها (التكفير، والجهاد وضوابطه، والتولي والموالاة، والحكم بما أنزل الله، والمواثيق الدولية).. إلخ من القضايا التي يتداولها أصحاب الفكر المنحرف الضال، حيث لزم تبصير طلبة العلم، والدعاة، والخطباء، وغيرهم بمنهج أهل السنة والجماعة واتباع السلف الصالح في هذه المسائل والقضايا، حيث إذا وردت وتطرق إليها يكون الجواب عليها شافياً كافياً مفنداً لها، مبيناً وجه الحق فيها، وفيه الرد على المفاهيم الخاطئة نحوها التي يتلقفها أصحاب التيارات المنحرفة، ويدندنون حولها.
وخلص إلى القول إن تأهيل الدعاة حيال هذه المسائل القضايا وغيرها، وتزويدهم بالعلوم الشرعية والمعارف المستقاة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أمر لا بد منه؛ للوقوف في وجه انتشار هذا الفكر الضال، والرد عليه، وتحصين الشباب من أن يتغلغل فيهم، ووقايتهم من الانخداع بهذه الشبهة التي يثيرها من يقف وراء هذا الفكر المنحرف، ويسعى إلى ترويجه.
قضايا العقيدة والنوازل
ويشير الشيخ خالد بن جريد العنزي - مساعد المدير العام لفرع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بمنطقة الحدود الشمالية إلى أن الداعية الحق هو الذي أخلص دعوته لله تعالى، أراد بدعوته وجه الله والدار الآخرة، علم فضل الدعوة وشرف الدعاة فاحتسب الأجر في دعوته، لم يدع لحزب من الأحزاب أو جماعة من الجماعات، وهذا نهج النبي عليه الصلاة والسلام ونهج أتباعه، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّه عَلَى بَصِيرَة أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّه وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، قال الطبري: والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته سبيلي وطريقتي ودعوتي أدعو إلى الله وحده لا شريك له. ثم الداعية الحق كما أنه يدعو إلى الله بإخلاص فهو يدعو إلى الله على بصيرة وعلم، قال الطبري: على بصيرة بذلك ويقين علم مني به أنا، ويدعو إليه على بصيرة أيضاً من اتبعني وصدقني وآمن بي. فالأنبياء وأتباع الأنبياء يدعون الناس إلى العلم النافع والعمل الصالح.
ولا شك أن الدعاة إلى الله تعالى فتح لهم قنوات كثيرة يصلون من خلالها إلى الناس، خاصة في هذا الزمان وفي بلادنا المباركة، فالداعية إلى الله تعالى يلتقي بالناس من خلال إمامته وخطابته فيهم، ومن خلال محاضراته وكلماته ودروسه في المساجد والمدارس والإدارات الحكومية والمؤسسات الخاصة وإجابته عن أسئلة الناس، ولقاءاته مع مختلف الفئات بل واللهجات واللغات والطوائف من خلال التوعية الإسلامية في الحج، بل بلغ تأثير الداعية مبلغاً عظيماً عن طريق اتصاله بالناس من خلال وسائل الإعلام المختلفة، حتى قرأت في إحصائية عن أكثر البرامج مشاهدة في عدد من القنوات فوجدت البرامج الإسلامية، وهذا الأمر كما أنه يفرح الداعية إلى الله تعالى فهو يحثه على التزود بالعلم الشرعي وتأصيل المسائل وتحقيقها، ففي هذا الزمان أصبح الناس يستمعون إلى داعية الحق، وفي المقابل يستمعون إلى غيره، وبالتالي فالمسائل التي ينقلها الداعية إلى الله عبر القنوات يجب أن تكون مسائل مؤصلة، يؤسس البنيان على قواعد شرعية ثم ينصب عليها الأدلة فتأتي القضية المسألة واضحة كفلق الصبح.
الداعية المتخصص
ويؤكد العنزي أننا في هذا الزمان وفي كل زمان نحن بحاجة إلى الداعية المؤصل تأصيلاً شرعياً، إلا أن الحاجة في هذا الزمان أمس، والداعي أكبر؛ إذ كثرت الشهوات والشبهات، وأصبحت هذه الفتن تعرض بطرق شيطانية تقبلها النفوس؛ ولذلك نحن بحاجة إلى الداعية الذي يجمع بين التخصص في القضية المراد علاجها، والقدرة على المناظرة، وسعة الصدر، والاستفادة من مقدمات أصحاب الشبه وإقامة الحجج عليهم، وهذا منهج الكتاب والسنة في التعامل مع المخالفين. والمخالفون ليسوا سواء؛ فمنهم من تنفعه الموعظة البليغة، منهم من يحتاج إلى إقامة الحجج والبينات، ومن يحتاج إلى المناظرة والرد على شبهة، كما قال الله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِه وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}؛ ولذلك لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن لم يرسل شخصاً من أفراد الناس، بل أرسل رجلاً من خيرة رجاله علماً وسمتاً وفهماً وعملاً؛ فمعاذ رضي الله عنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وهو من يتقدم العلماء برتوة يوم القيامة، ثم لم يتركه النبي عليه الصلاة والسلام، إنما بيّن له حالة المدعوين الذين يقدم عليهم معاذ رضي الله عنه. يقول عباس: بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن، قال له: إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس. فبين له حال المدعوين وأرشده إلى التدرج في دعوتهم والبدء بالأولويات.
ولذلك فالحاجة قائمة إلى الداعية المؤصل المتخصص في القضايا المهمة والمعاصرة، ومن هذه القضايا المهمة في هذا الزمان التي يجب أن ينبري لها عدد من الدعاة قضايا التكفير والإرهاب والتطرف والغلو، وتأصيل مسائل الجهاد، والمولاة، وتحصين المجتمع من هذه الأفكار الدخيلة، خاصة إذا علمنا أن من أصحاب الأفكار المنحرفة قد تخصص في انحرافه وأجلب على الناس بخيله ورجله، وخاطب الناس خطاباً عاطفياً مستغلاً بعض الأخطاء، وبعض الأوضاع، مغرراً ببعض ضعاف العقول وقليلي العلم، ممراً ما يريد من انحراف عبر اللقاءات الخاصة، ومواقع الإنترنت، حتى وجد مواقع على الشبكة العنكبوتية متخصصة لنشر هذه الأفكار، بها مئات المقالات والكتب الداعية إلى هذه الانحرافات، وبالتالي فالحاجة قائمة إلى داعية متخصص في الرد على شبه المنحرفين بعلم وحكمة، يبين جانب الصواب في كلام المخالف ويصحح الخطأ الذي فيه؛ لأن أصحاب هذه الشبه رغم ضلالهم وخطئهم إلا أنهم لا يأتون بباطل محض، وإنما يأتون بشيء من الحق ويقررون معه ما يريدون من الباطل.
ولهذا على الجهات المعنية تأهيل الدعاة إلى الله تعالى تأهيلاً علمياً ومهنياً وفكرياً وشرعياً، سواء عن طريق الدورات المتخصصة، أو عن طريق بحوث دقيقة تفصيلية تعرض هذه الشبه وترد عليها، بالإضافة إلى تزويدهم بما يحتاجون إليهم من مراجع، فإن هذا الفكر يحتاج إلى فكر لتحصين شباب الأمة من هذا الخطر الذي إذا استشرى عطلت فيها المصالح الدينية والدنيوية.
هموم الشباب
ويوضح الشيخ عبدالعزيز بن محمد الوهيبي - الداعية بمدينة الرياض - أن الغالب في الداعية أن يكون ملماً الإلمام الشامل دون الإلمام التفصيلي بالكثير من القضايا، ولكن هناك قضايا معينة تحتاج إلى أن يكون المحاور فيها متخصصاً كحاجات الشباب، ومشكلاتهم، وكالقضايا التي تحتاج إلى نقاش واستدلال مع الآخر، فهذه لا بد من العلم الشرعي المؤصل لها، وعرضه بالصورة الصحيحة المبسطة، واستغلال ما يوافق الشرع عند المنصوح والمتلقي؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للشاب الذي جاء يريد الزنا!!: (أترضاه لأمك؟، قال: لا. أترضاه لأختك، قال: لا..) الحديث، فأزال ما في نفسه مع تذكيره بجانب الغيرة.
وكذلك في مناقشة قضايا التكفير والإرهاب والغلو، فهذه قضية فكر، والمناقشة والحوار لا بد أن يكون من شخص يعرف شبهات ذلك الفكر، ومتعلقاته؛ ولذلك ابن عباس في مناصحته للخوارج طلب ما لديهم من شبهات ابتداءً، ثم فندها واحدة واحدة، حتى انجلت غمة كبيرة من الضلال.
والدعاة في هذا السبيل كل بحسبه، فمنهم من يحتاج إلى دورات تدريبية فيما يتخصص فيه، ومنهم من يحتاج إلى زيادة علم ومعرفة في هذا الباب، ومنهم من لا يحتاج إلا إلى تزويده بالمعلومات المطلوبة في كل ما يجد، وذلك بحكم درايته بما هو قائم من مشكلات وأحداث، ومعرفته بطريق الوصول لمعالجة هذا الفكر، سواء عن طريق معالجة ذلك بالمناظرة المباشرة، أو القنوات الموصلة لذلك، كمواقع الإنترنت وغيرها، مع استشعار الأمانة والمسؤولية، وخطورة الأمر على البلاد والعباد، وهذا هو الغالب بحمد الله على الدعاة إلى الله تعالى.
التأثير في المدعوين
ويقول الشيخ أحمد بن عبدالكريم الخضير - الداعية بمدينة الرياض -: إن الدعوة إلى الله تعالى - مع فضلها وأهميتها - لا بد لها من ضوابط تحجزها عن الجنوح عن الطريق المستقيم الموصل إلى هدفها الأسمى وهو هداية المجموع البشري، والإسلام يحث على تحصيل الخير، وبزوغ الرشد، وتحقيق التآلف بين المسلمين، ويحتفي بكل ما من شأنه تغذية مفاهيم الوحدة الإيمانية، وتعميق أواصر الإخاء، سواء على مستوى الأفراد، أو مستوى الجماعة، حتى تشيع في المجتمع روح المودة، وتتوطد علائق التقارب.
والداعي غالباً ما يتعامل مع المخطئين أو المذنبين، فلا يجوز أن يضع بينه وبينهم حواجز تمنعهم من الاستفادة من دعوته، مدعياً الطهارة، أو يطل عليهم من برج عاجي؛ فهذه المظاهر سلبية تضر بالمدعو وبالدعوة، كما أنه لا بد للداعية حتى يكون مؤثراً في الناس، ومكانته مرموقة، أن يكون قد تأهل من حيث العلم الشرعي، والمهني، وأن يكون صاحب فكر معتدل مستقيم. ومعلوم أن الداعية دون علم شرعي فإنه كمن يروم الصعود من غير سلم، أو أن يكون صاحب صنعة من غير أدواتها، فأهم أدوات الدعوة التحصين بالعلم الشرعي {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، {قُلْ هَذِه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّه عَلَى بَصِيرَة أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي}، ومعلوم أن الجاهل قد يفسد أكثر مما يصلح.
كما أن اعتدال الداعية فكرياً، والتزامه منهج الوسطية، وما اتفق عليه سلف هذه الأمة، وعلماؤها العاملون، من أهم الأسباب التي تتوج عمله بالنجاح، ويكون كل من يتلقى عنه العلم الهدى والنور. أما من حاد عن الطريق، وتمنهج ببعض المناهج المخالفة، إما على مستوى التسهيل والتمييع، أو على مستوى التشديد والغلو والتطرف، فإن فساده في المجتمع أعظم وأخطر من غيره؛ ذلك أن الناس يثقون بمن يتحلى بمظاهر الاستقامة، وقد رأينا من يبرزون إلينا ويطلون عبر القنوات الفضائية ممن توج بأحلى الألقاب، وزُين بأجمل العبارات من قِبل أصحاب القنوات، أطلوا علينا بشبهات فكرية، ظللت من ليس عندهم علم شرعي، فتأثروا بهم، وبدؤوا يؤثرون في مجتمعنا. وفي ظني أن خطر هؤلاء أعظم من خطر أصحاب الشهوات، كفى الله المسلمين شرورهم.
من هنا كان لا بد أن يؤهل الداعية وكل من انبرى لتوجيه الناس على كافة المستويات، وذلك بتطويرهم علمياً ودراسياً، عبر الابتعاث الداخلي أو الخارجي، مع أهمية ربطهم بمجالس كبار العلماء في هذا البلد المبارك، وذلك أن الكبار في العادة يعرفون عواقب الأمور، ويقدرون المصالح والمفاسد، حتى تكون دعوتهم مبنية على الحكمة التي من نتائجها الاستقامة على الطريق المستقيم.