غداً الأربعاء يُفتتح المؤتمر الحضاري لحوار الأديان في مكة المكرمة الذي دعا إليه ويرعاه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله -. المؤتمر في تقديري محطة مفصلية ومهمة في العلاقة الثقافية بين الإسلام وبقية الأديان. وهي فرصة سانحة، يجب توظيفها جيداً لتقديم الإسلام للعالم على أنه دين الحوار والسلام والحكمة والموعظة الحسنة، وليس دين القتل وإراقة الدماء والعنف، وإرغام الآخر على قناعاتك.
أعرف أن كثيرين من إخواننا المتشددين لهم تحفظات على مثل هذه التوجهات (الحضارية) التي تقودها المملكة. ولكنني أعرف - أيضاً - أننا لو جارينا الفكر المتشدد، الذي لا يرى العالم الآخر إلا من خلال الكراهية والعداء والبغضاء، فإننا سننتهي في النتيجة إلى (عزلة) على جميع المستويات، سنخرج منها بقدر من الخسائر الفادحة لا يمكن أن تدركها رؤى المتشددين الضيقة. ونحن جزء من هذا العالم؛ وعندما لا نبالي به، فإن ذلك يعني أن نخرج من سياقه إلى المجهول.
الفترة المكية من تاريخ الدعوة فيها الكثير مما نستطيع أن نهتدي به في حوار الأديان. فالرسول صلى الله عليه وسلم آنذاك كان عملياً يمارس ضرباً من ضروب هذا الحوار؛ فضلاً عن أنه كان يتعامل مع البيئة والظروف برؤية استراتيجية تقوم على (الواقعية) من جهة، ومن جهة أخرى على أن العبرة بالمقاصد، والمقصد الأول والأهم بين عينيه هو انتشار الإسلام.
وفي تقديري أننا نعيش في عصر نحتاج فيه إلى وسائل (الفترة المكية) الدعوية. فالمسلمون اليوم ضعفاء أمام قوة الآخر؛ لذلك فالإسلام اليوم أشبه ما يكون بوضعه في الفترة المكية؛ الأمر الذي يجعل اقتفاء فقه الدعوة في تلك الفترة هو أفضل ما يتناسب مع أوضاعنا اليوم، هذا فضلاً عن أن ذلك من متطلبات الموضوعية التي تفرضها الظروف المعاصرة.
ففي الفترة المكية - مثلاً - نزلت آيات كلها تدعو إلى الصفح والصبر والسلام وعدم المواجهة مثل: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّه} ، ومثل: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: (وقل: سلام، أي لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيئ، ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلاً وقولاً). قد يقول قائل: إن هذه الآيات نسخت بآية السيف كما هو قول بعض المفسرين؛ غير أن وجودها باقية في كتاب الله إلى الآن يعني في تقديري أنها صالحة لكل زمان، شريطة أن يكون هناك ما يبرر إحياءها وتفعيلها؛ فالقاعدة في الناسخ والمنسوخ (ألا يُصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين الأدلة)؛ أي أنها مسألة محض تقديرية؛ يقول الشيخ ابن باز رحمه الله: (يُنظر للمسلمين، وينظر لحالهم وقوتهم، فإن ضعف المسلمون استعمل الآيات المكية، لما في الآيات المكية من الدعوة والبيان والإرشاد والكف عن القتال عند الضعف).
المهم أن ندرك أن حوارهم، وتألفهم، وتقريب وجهات النظر قدر الإمكان بيننا وبينهم، هي حاجة ماسة لنا وليس العكس. وعندما نصر على رفض الحوار معهم كما هو شأن (المتشددين) فيجب أن ننتظر العزلة، والعيش خارج منطق (التنمية) التي يملكون هم لا نحن كل أوراقها، والتي لن يبقى لنا بقاء إلا بها.