يقول الله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}ويقول الشاعر: |
أرى المرء يبكي للذي مات قبله |
وموت الذي يبكي عليه قريبُ |
وما الموت إلاّ في كتاب مؤجّلٍ |
إلى ساعة يُدْعَى لها فتُجِيبُ |
بالأمس كنا نكتب عن أستاذنا وأستاذ الجميع الدكتور صالح بن عبد الله المالك عندما كان يرقد على السرير الأبيض في المستشفى وهو يعاني من المرض الذي ألمّ به، واليوم ننعاه بعد أن غيّبه عنا الموت الذي هو سنّة الله في خلقه عصر يوم الاثنين: 22-5-1429هـ. |
كان - رحمه الله - إنساناً وأديباً وقويّ العزيمة حتى وهو يصارع الموت، كان يعرف بأنّ موته قريب وهو في حاله التي كان عليها في المستشفى، فكان صابراً محتسباً شاكراً لله بأن أنعم عليه بنعمة الإسلام، وكان يحدّث من يجلس معه عن الأدب والشعر والتاريخ وينسى بأنّه مريض، كما كان يُقوّي عزيمته بالصبر على المرض الذي كان يعاني منه بشكر الله والحمد له والثناء عليه، وعندما أزوره أو اتصل به يطلب مني أن أبلّغ والدتي بأن تدعو له بالشفاء والعافية. |
وُلد الدكتور صالح المالك - رحمه الله - في محافظة الرس عام 1357هـ وحصل على الشهادة الجامعية من جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، ثم حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه من الولايات المتحدة الأمريكية في علم الاجتماع. ثم عمل بعدّة مواقع في الدولة منها وكيل وزارة الشؤون البلدية والقروية حتى انتهى إلى وظيفة أمين عام مجلس الشورى بالمرتبة الممتازة، كما كان يعمل محاضراً في عدّة جامعات خارج المملكة وعضواً في مجلس إدارة عدّة شركات داخل المملكة وخارجها، وألَّف عدّة كتب وهي عبارة عن بحوث اجتماعية وعمرانية وسياسية واقتصادية، كما أنّه محاضر متميّز باللغة الإنجليزية. |
كان - رحمه الله - يتميّز بعاطفة رقيقة لكلِّ من يعرفه، وبروح مرحة لمن يحادثه، يقابل من يزوره بالبشر والترحيب، كان - رحمه الله - عندما أزوره في منزله يرحب بي ويبدي لي محبته وثناءه عليّ، كما كان يثني على ما أكتبه من بحوث عن مدينته الرس، وكنت أحبه وأجد فيه الأب الحنون والصديق الوفي، والأديب البارع، وكان يتفضّل عليّ بالتوجيه والنُّصح في كتاباتي ويقوم بمراجعة كتبي قبل طباعتها. كما كان - رحمه الله - عندما أجلس معه يحدثني عن متابعته المستمرة لمرض ابنه عبدالله عندما يتردّد به إلى أمريكا للعلاج، وعندما أصيب هو بالمرض يذكرني بذلك ويتحدث لي عن ما أصابه ويطلب مني أن أدعو له وكأني به يعرف كل شيء عنه. |
تحدّث عنه الكثيرون ممن يحبه ويجلّه في حياته وبعد مماته، فقالوا فيه شعراً أو نثراً جميلاً يثنون عليه. وسوف أقتطف بعض ما قيل فيه من شعر. |
قال فيه الأستاذ الشاعر صالح بن حمد المالك قصيدة في اللغة الفصحى بعنوان (ابتهالات) ما يلي: |
إلهي يا ملاذ الخائفينا |
وكاشف كربة المتضررينا |
أعيذ بك ابن عمي من بلاء |
ألمّ به وصيّرني حزينا |
وأبكى أهله ولداً وزوجاً |
وإخواناً وكل الأقربينا |
كما قال فيه الشاعر علي بن حمد المالك قصيدة باللغة العامية قال فيها: |
بسم الله اللي ما لغيره ترجيت |
ولا بعد مديت إيدي لغيره |
بسم الله اللي كل ما أصبحت وأمسيت |
رفعت إيديني أطلبه واستجيره |
يا الله طلبتك بالفجر يوم صليت |
إنك تعافي ولد عمي تجيره |
ترفع عنه يا رب يا حامي البيت |
تبقيه لصغيّر وبنت صغيره |
خلّه يربيهم مثل ما أنت وصيت |
في محكم كتابك يريح ضميره |
وكان - رحمه الله - لديه موهبة شعرية وقال مجموعة من القصائد باللغة الفصحى، وكنت أنوي الكتابة عن تلك الموهبة الشعرية التي يمتلكها الدكتور صالح - رحمه الله - خاصة وهو يعتبر من شعراء الرس المجيدين، وقد ضمّها لديوان شعر صغير الحجم كبير القدر بعنوان (إخوانيات) قالها في معانٍ شعريةٍ راقيةٍ تتنوع بين القصائد الإخوانية والقصائد الاجتماعية وقصائد الرثاء؛ قالها في والدته بعنوان (إلى أمي الحنون)، والأخرى قالها في الشيخ صالح بن عبدالله بن حميد بعنوان (ما لها إلا ابن الحميد)، ألقاها عند احتفاء مجلس الشورى بالشيخ عند تعيينه رئيساً للمجلس. وسوف أورد هنا هاتين القصيدتين لما لهما من مكانة لديه - رحمه الله -. |
القصيدة التي قالها في والدته - رحمها الله - عام 1424هـ عندما وصله خبر وفاتها حيث كان - رحمه الله - يحبها ويعطف ويحنو عليها ويصلها كثيراً ويدعو لها وكذلك كان يفعل مع أخته وأقاربه، وقد كتب قبل القصيدة وهو في أمريكا يتابع علاج ابنه عبدالله مقدمة جميلة عن حبه لأمه ويصف حبها لأبنائها وتضحيتها بعد وفاة والدهم، ودعا لها بالمغفرة والرحمة وقال: |
لموتك يا أماه ينفطر القلب |
وترتاع مني النفس والعين واللب |
ولو كنت أدري أن حتفك عاجل |
لما شغلتني عنك أرض ولا حب |
ولكن عبدالله نجلي قد دنا |
من اليأس حتى كاد يقتله الكرب |
يعاني من الأسقام وهو محاصر |
بأصناف آلام .. فأسهلها صعب |
فتى لا ينال النوم إلاّ معذبا |
ولا الزاد إلا ما يجود به ثقب |
ثمانون يوماً أو تزيد أو بدا |
كطفل وليد لا يسير ولا يحبو |
فأذعنت للرحمن قلباً ومهجة |
فليس لنا إلاّ الذي قدّر الرب |
وزرت بلاد العم سام لأبتغي |
شفاء بإذن لله يمحى به الخطب |
ظننت وشاء الله غير مظنتي |
بأن شفاء الأم ليس به ريب |
فداهمني خطب جليل بليلة |
دقائقها دهر وهدأتها حرب |
إذ الهاتف المشؤوم ينعي أميمتي |
ويعلن أن الموت ليس له طب |
فعدت سريعاً أذرف الدمع ساخناً |
يسيح غزيراً ليس يحجبه الهدب |
ويا حر قلبي في المطار وقد بدا |
وجوم على وجه الأحبة بل نصب |
بكيت على أم رؤوم لطيفة |
وإني لها المشتاق والواله الصب |
فقدتك يا أماه عطفاً ورحمة |
فأنت ربوع الخير والمنبع العذب |
أقول إلى من نلمس الود بعدما |
تواريت في قبر يجلله الترب |
فكل سمات الطهر فيك تمثلت |
وفاضت وقد أمسى إليك لها درب |
ألا في سبيل الزهد تسعون حجة |
وتسعة أعوام تجنبها العيب |
مضت في سبيل الله تنشد جنة |
وتطلب ربا أن يكون بها القرب |
أقول لأختي حين مزقها الجوى |
رويدك يا أختاه كل له نحب |
رويدك يا أختاه كفي عن البكا |
عسى كوثر الرحمن منه لها شرب |
فويح لأختي وابنتيها وخالتي |
وأولاد أبناء على حبها شبوا |
هو الموت لا يبقي ولا هو غافل |
وكل امرئ منا سيدركه النوب |
سقى الله قبرا ضم أما كريمة |
من العفو والغفران تمطره السحب |
وخص إلهي بالتجلد إخوتي |
ولا لقي الأحباب حزنا ولا الصحب |
واذهب عن ابني البأس يا رب كله |
وبلغه ما يهفو إليه وما يصبو |
وأختم قولي بالصلاة على الذي |
سيلقى الإله لا يدنسه ذنب |
أما القصيدة الثانية فقد قالها في الشيخ صالح بن حميد عندما تقلَّد قيادة مجلس الشورى يوم: 25-1-1423هـ قال فيها: |
أسرت قلوب الشيب والشبان |
لما بدت في قدها الفتان |
تبدي شروطاً للحبيب كأنها |
تومي إلى محبوبها ببيان |
فرنت عيون النابهين لماجد |
كفء يروض صعبها بعنان |
ولسان حالهم ينادي: ما لها |
كابن حميد بساحة الميدان |
فهو الجدير بأن يقلد عقدها |
وهو الجدير بحبها الفينان |
فتراقصت دلا به وتهللت |
جذلى: وقالت ذاك من أرضاني |
تلك الرئاسة قد تعلق قلبها |
بذوي التقى والزهد والإحسان |
زفت إليك وأنت خير مؤهل |
بالعلم والإخلاص والإيمان |
رجل المحافل والمنابر زانكم |
حب الرسول وطاعة الرحمن |
يا من لكم فوق المنابر سطوة |
ببيان نحرير وأي بيان؟ |
شرفت لمجلسنا رئاسة جهبذ |
شهم، محبته بكل جنان |
يا مرحبا نسل الحفي يقودنا |
وقلوبنا تزجي أحر تهان |
فأصالة عني أقدم طاقة |
شعراً يمثل في الوفا إخواني |
والعذر عن تقصير شعري فيكم |
فالحب نبض والقصيد معاني |
كما أنّه قال قصائد أخرى في مناسبات عدّة موجودة في ديوانه المطبوع الصغير التي رحل - رحمه الله - وتركها. ولكن يقول الحكيم (الليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر والعمر مهما طال فلا بد من دخول القبر) وأقول لأصحاب وزملاء الدكتور صالح المالك لا تحزنوا فإنّ صاحبكم مهما غاب عنكم فهو معكم بما أوجده لديكم من محبة وما زرعه فيكم من مودّة سوف تذكرونه بعلمه وأدبه وخلُقه، وأقول لأُسرته وأبنائه لا تبكوا فإنّه بينكم بحبه وعطفه ومودّته وقد ذهب بجسمه وبقي لديكم قلبه وروحه. |
رحم الله أستاذنا الدكتور صالح بن عبدالله المالك وأسكنه فسيح جناته وجمَعَه مع الأبرار في جنات النعيم. |
الرس |
|