(1)
** في الفلسفة الهيغليّة (جورج هيغل 1770- 1831م) إشارة إلى أن الإنسان يعيش وسط العالم انطلاقاً من وعيه الخاص، بينما يعيش الحيوان وفق إحساسه بذاته، وبمعنى أكثر مباشرة...
فإن الحواس -وإن اشترك فيها الإنسان مع الحيوان- تبقى حياديّة لدى البشر حتى يتكوّن عبرها الوعيُ القادر على إنارة الطريق؛ فيختارون وفقاً لعقولهم لا غرائزهم.
** بمثل هذا التكوين تبدأ رحلة الاعتراف بالذات؛ فمن تسيِّره رغائبه سيكون أسيراً لها، ومن يصنعُه الموقف يعيش حرّاً لا تعوقه إشارة، ولا تستميله عبارة، ولا يهتمُّ بكم الإضاءات أو حجم الفضاءات.
** هنا تبدو الأيديولوجيا عائقاً أمام تكوين الذات حين ينطق الإنسان بلسان جماعة أو مذهب أو طائفة، كما أن المصلحة عائق آخر تحرفُ الإنسان تجاهِ ما يملأُ رصيده المادي والمعنوي، والشهرةُ تجبر الباحث عنها إلى السير في الرمضاء وفي العراء كيلا ينأى عن (الفلاشات).
** الاعتراف بالذات محرك مهم للثقافات والحضارات، وعلاقة السيّد بالعبد تلاشت منذ أن شعّ نور الإسلام في الشرق وقامت الثورة الفرنسية في الغرب؛ فباتت علاقة التماثل والتبادل والمساواة الإطار الذي يحتوي أبعاد التفاعل بين الناس ليحدِّد مقاسات المفاضلة بينهم وفق ما يقومون به لوجه الحقيقة وحدها مما يخلده ذكر الأقربين وتأريخ الأبعدين.
(2)
** لو سألنا من تواروا عن الساحة السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية عن أسباب تواريهم، لأجاب أكثرهم: إنه الإحساس بعدم الجدوى.
** شعورٌ قاتل يحسُّ به مَنْ كان لديه مشروعٌ شاء إكماله ثم يئس فتخلّى، نائياً إلى ذاته وربما عنها، مقتنعاً أن الحياةَ ضمن المجموع أكثر استقراراً، وأن زمن التضحيات ولّى.
** ونصادف من عاشوا داخل دائرة الأضواء حتى أعشتهم، وغادروها غير نادمين عليها، تاركين الاستئثار بها لمن لا تزال تبهرهم البهارج، مؤمنين أنهم الأعلى وإن بدوا الأدنى، والأسعد وإن لم ينعمُوا بالإضافات والحواشي.
** هكذا يُصنعُ (النجم) ويغيب القائد، ويمثل هذه الرؤية يشار بالبنان لمن يحترق بالضوء، ويغيب البيان داخل انطفاء الفيء.
**النماذج كثيرة حول النجوم لكنها نادرة في القادة، ومن يتأمل الحال يرى أن النجومية قد اجتذبت السياسي مثلما الثقافي والاجتماعي؛ فباتت شهرتُهم جواز عبورهم نحو الصدارة؛ فانقادوا ثم قادوا، وويل لأمة يقودها المقودون.
(3)
** في الحالةِ الثقافية -وهي الأهمُّ كما الأخطر- ينتشرون -كما ذرات غبار الصحاري- أولئك الذين يرون العمل الثقافي من جوانب تمسُّ حالهم ومآلهم؛ فيعارضون لمصلحة، ويوافقون لمثلها، وينتقلون بين الوسائل والمسائل تحقيقاً لأربٍ شخصي قد يصعد بهم ليصبحوا نجوماً.
** وإذا استطاع زاهدٌ مثل (أبي العلاء) أن يخترق القاعدة، فإنه وأمثالَه قد استوعبوا درس التاريخ الذي لا يعترف بمقاسات النجومية الآنية الأنويّة؛ فأحكامُه متأخرة كثيراً، غير أنها تنحو إلى إنصاف من هجر الصفوف الأولى، مؤمناً أن العمليات الثقافية مستقلة عن النظرات والنظريات المؤقتة.
** لن ينتهي زمن الزهد، ولن يتلاشى الزاهدون، وسيبقى لهم تأثيرُهم إذا لم تُحبطهم الوقائع والموانع، والمغريات والمثبطات، وإذا لم يتحولوا إلى مرددين في فرقة الإنشاد التي تعزف أنغام الزمن الرديء.
(4)
** يلجأ المثقف إلى الأضواء رغبة في انتزاع الاعتراف بقيمته الشخصية، وتُهمه الشهرة وسيطاً مهماً في الواجهة المجتمعيّة، وقد يرى في نفسه إمكاناتٍ تؤهله ليكون الضيف والمضيف والحاضر والمحاضر والسائل والمجيب، وقد يصدق نفسه؛ فيختال في الأرض تيها، وينأى عن رسالته التي يفترض شرطُها الأول عدم الارتهان لحكايات ما وراء (الاعتراف) التي نسميها (النجومية).
** إنها حكايةُ جيل وربما أجيال صدمتها الممارسة الثقافية التي تنجب أرقاماً دون أن تحل المعادلات، ولو قدر لبعضنا أن يكتب مشاهداتِه أو شهاداتِه على ما يراه في الوسط من تناقضات بين الأصل والصورة لرأى كيف يتحول الظِلُّ إلى شمسٍ حارقة.
** وخذوا صورة كاتب يطيل التأمل حين تراه شخصاً أو رسماً، ويبدو لك ذا قضية (تحت الهواء)، حتى إذا خرج (على الهواء) لم نجد سوى منشدٍ يحمل الدفوف في آخر الصفوف.
** وهنا صورةُ عالم لديه ما يضيفه، ثم يعتلي المنبر (الإعلامي) فيعيد المعاد، وينافس في المزاد، وتلمس معه الأسى وتفتقدُ التأسي.
** أضيفوا إليهما الشاعر والروائي والواعظ والموجِّه وغيرهم من رموز الفعل الثقافي، وبتأملٍ عابر تبدو حكاية الاتزار بالوجاهة بحثاً عن حالة الاعتراف التي تضمن له اغتراف المصالح المستلبة من حقوق من لا يدرون أو لا يريدون أن يدروا.
** المعضلةُ عربية، والحل -أيضاً- عربي، ونماذجُ النقاء موجودة، لكنها -وقد وعت معادلة الاعتراف والاغتراف- متوارية؛ ودورُنا البحث عنها، ودفعها للصدارة أمام الجيل الجديد كي يدرك أن للمعنى دلالات لا يدركها من استهلكه الشكل.
(5)
** ينفصل المثقف عن بيئته حين يتمحور حول ذاته، ويبلغ شأوه فيكون أسيراً لفكر التعالي، وإذا كان من مهام (المفكر) قراءة الأسباب وشرح المبررات والخلوص إلى نتائج ورسم السياسات والغايات فإن ذلك لا يعني نأيه عن نسيجه المجتمعي وإدراكه كيف يفكر الناس وكيف يعيشون وكيف يصنع الموت العلني والخفيّ في الجموع النائية التي هي - مبتدأ وخبرا- جموعه ونجوعها هي ربوعه.
** في هذا الفصام أو الانفصال تولد الأبراج العاجيّة والشخصيات الوهميّة والتراتبية الطبقيّة، وكلّها سمات لا تصلحُ لمن له رأس يفكر وإحساس يقدّر، ونفس راضيةٍ مطمئنة ترى في المبدئية المثال، وفي الالتزام غير المؤدلج والمبهرج الراحة والجمال.
(6)
** درس كثيرون العقل العربيّ من حيث عنايتُه بالقيم وتمثله الأخلاق، ليبقى المجال العملي هو الفاصل بين الفرضية والتطبيق، وقد سعى محمد عابد الجابري -وهو من أبرز دارسي العقل العربي- إلى تأصيل مفهوم نقد الثقافة في سبيل بنائها، مؤكداً على أن نظام القيم لا يصوغُه الفرد بل المجتمع.
** ويبقى السؤال الصعب: أي مجتمع نعني؟ وعن أي مثقف نتحدث؟ وإلى أي عقلٍ نتطلع؟ ومن نُسمع أو نقنع بمثل هذه القراءات؟ وهنا تختفي الإجابات مؤمنة أن الاستفهامات تكفي.
** تبقى الأسئلة معلّقة، ليبقى خداع الذات أو الانخداعُ بها داءً قل من يسلمُ منه؛ وفي زمنه لم يرتقِ (سقراط 469-399 ق.م) منصة عالية أو يعتمْر قبعة خاصة، ولم يزد عدد أصدقائه على بضعة عشر، وهنا يلتقط (هيغل) الصورة ليرسم دور الفيلسوف الأثيني بتنوير الأذهان، فلم يكن رئيساً، ولم يسعَ لمريدين، وبهذا بقي وأمثاله، ومات كثيرون وأمثالهم.
* البقاء للقيم لا الرمم.
E:Mail:IBRTURKIA@Hotmail.com