من أين أبدأ الحديث عنك يا أبا هشام، هل أبدأ باللحظة الأولى التي تعرفت فيها عليك؟ أعتقد أن ذلك كان في عام 1973م في كلية الآداب في مبناها القديم في الملز، وأنت حديث عهد بانتقالك من جامعة الملك عبدالعزيز أو جامعة أم القرى لا أذكر، وأنا حينها كنت في بداية تعييني معيداً بكلية الآداب.
كنت بهياً في طلعتك، أنيقاً في ملبسك، حلواً في لغتك تتحدث بلغة الأكاديمي صاحب التخصص في دراسة علم الاجتماع، وهو أحد العلوم الراقية ذات الأبعاد والمناحي الفلسفية. وأذكر أن قسم الاجتماع في بداية نشأته في كلية الآداب يتحاشى رواد هذا القسم التعريض على الفلسفة. كان حديثنا مقتصراً على ما كان يشغلني حينذاك وهو التهيؤ للابتعاث إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأنت كنت حينذاك حديث العودة منها. كنت أرى فيك مبشراً بمستقبل سعودي جيد في الدراسات الاجتماعية، فقد كان كل أعضاء هيئة التدريس في ذلك القسم الحديث النشأة -على ما أذكر- من الأخوة العرب.
افترقنا، وذهب كل منا إلى وجهته أنا إلى الوسط الأمريكي، بعد أن زودتني -وكنت فعلاً خبيراً ماهراً في ثقافة الشعوب- بعدد من النصائح، وطريقة التعامل مع ثقافة وحضارة مختلفة. ذكرتك كلما مر بي ظرف يذكرني بنصائحك. أما أنت فقد فتحت لك خبرتك الواسعة، وعلمك الغزير الأبواب مشرعة أمامك، فتبوأت عديداً من المناصب وانطلقت بكثير من المسؤوليات. كنت أتابع أخبار نجاحاتك من خلال ما كان يصل إليّ من صحفنا الوطنية.
كان عملك في وزارة الشؤون البلدية والقروية من أهم محطاتك العملية، وقد تركت لك بصمة واضحة بها، وظفت فيها خبرتك بصفتك دارس اجتماع وتخطيط المدن الحضري.
جمعت بيني وبينك -وإن كان بدون تنسيق، أو علم مسبق- محبة الدراسات المتعلقة بمدينة الرياض أنت من الجانب الاجتماعي الحضري للمدينة. أما أنا فمن جانب أعشقه في هذه المدينة وهو الجانب التاريخي.
لم نلتقِ كثيراً قبل أن أعين في مجلس الشورى في دورته الثانية، ولكن كنت أنت أول من كنت حريصاً على معرفته عن قرب، وكنت من أعضاء الدورة الأولى، وتميزت بخبرتك المبنية على المعرفة، وسعدت بزمالتك في الدورة الثانية والثالثة والرابعة. كانت الدورة الثانية في مجلس الشورى محطة مهمة في تاريخ المجلس، اتخذت في خلالها قرارات حاسمة كان أولها تلك المناقشات الحامية حول موضوع الحد من زراعة القمح، وكان الدكتور صالح بدعاباته ومهاراته اللغوية يحاول -حينما يحتدم النقاش- أن يلطف الأجواء بقصائد شعرية وظف فيها استخدامات القمح في أكلات شعبية في مناطق مختلفة مثل العصيدة في الجنوب، والقرص عند البادية، والحنيني والكليجة في القصيم.
كان أبو هشام ماهراً لغوياً. فإذا توقفنا عند مصطلح أو معنى يأتي إلينا بعد وقت قصير جداً بالتفسيرات للمصطلح، وبالمرادفات للفظة أو معنى. تلقيت منه -رحمه الله- عدداً من الأوراق التي يتبادلها الأعضاء فيما بينهم يفسر لي معنى، أو يصحح لي مفردة ومشتقاتها.
كان رئيساً للجنة الشؤون الاجتماعية عندما عرض علينا النظر في إعادة دراسة نظام العمل، واستضاف بعضاً من أعضاء اللجان للاشتراك في النقاشات حول هذا الموضوع، وكنت أحدهم، فتعلمت منه -رحمه الله- مهارة إدارة النقاش، وسماع الرؤى المختلفة برحابة صدر.
كان تجلي أبو هشام حينما قررت الدولة خوض معارك انتخابات المجالس البلدية، وكان رئيس فريق وضع الأنظمة لهذه التجربة الجديدة، وكان الذي رشحه -على ما أعتقد- صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبدالعزيز إلى جانب سمو الأمير منصور بن متعب، كان أبو هشام خير من انتدب لهذه المهمة، وسيبقى أحد رواد هذه التجربة.
طلب من مجموعة من أعضاء مجلس الشورى، وأنا كنت أحدهم، الذهاب إلى مناطق مختلفة من المملكة للحديث إلى الناس عن هذه التجربة الأولى في المملكة، وزودنا بدليل استرشادي لنا في طريقة تثقيف الناس في هذا المجال.
لقد كان أبو هشام -رحمه الله- أحد أبرز أعضاء مجلس الشورى نشاطاً، وأدقهم في القيام بمسؤولياته، لدرجة أنه يضني نفسه ببذل كل جهده حتى في أدق التفاصيل، لدرجة أنني كنت أشفق عليه لمَ كنت أرى على وجهه من أثار التعب، ولكنه كان جندياً مقاتلاً لا يعرف لحظة توقف، حتى ولو توقف، أو ما يسمى باستراحة محارب.
حينما اضطلع بمسؤوليات الأمين العام للمجلس خلفاً لسلفه الهادئ الطباع الزميل الدكتور حمود البدر حاول أبو هشام أن يقوم بتغيرات في عمل الأمانة العامة، وأنا متأكد أنه كان يحلم كثيراً من أجل التغيير والتطوير، ولكن المرض لم يمهله للوصول إلى حلمه. رحم الله أبو هشام، لقد كان علماً بارزاً في مسيرته من أجل خدمة هذا الوطن، لقد كان خلوقاً صادقاً محباً لكل من تعامل معه. لم تفقدك أسرتك الكبيرة الكريمة أسرة آل المالك - الأخوة الأعزاء- يا أبا هشام فقط، بل كلنا فقدناك. فالعزاء لأسرتك الصغيرة هشام وأمه وعمته وأخوته وإخوانه.
عزاؤنا لأسرتك الكبيرة أسرة آل المالك الذين فقدوا فيك أحد أبرز رموزهم، ولكنها أسرة ولادة للرموز الصادقين المخلصين لهذا الوطن. ثم أخيراً العزاء لنا نحن زملاؤك في مجلس الشورى الذين فقدنا فيك أخاً كبيراً سنذكرك ما دمنا أحياء. عاش هذا الوطن ولاداً للرموز أمثالك وإلى جنة الخلد إن شاء الله.
عضو مجلس الشورى