حوار - ياسر المعارك
يعد الدكتور محمد بن عبدالله الخازم أحد الخبراء المهتمين بقضايا التعليم العالي ومؤلف كتاب التعليم العالي في الميزان وصاحب كتابات صحفية متخصصة بقضايا قطاعي التعليم العالي والصحة، وله إسهامات متميزة في تأسيس كلية العلوم الطبية التطبيقية بجامعة الملك فيصل، حيث كان مقرراً للجنتها التأسيسية وحالياً ضمن الفريق الذي يؤسس لكلية العلوم الطبية التطبيقية بجامعة الملك سعود بن عبدالعزيز للعلوم الصحية بالحرس الوطني، الدكتور الخازم كان لنا معه هذا الحوار حول قضايا التعليم الصحي بالمملكة، بدءاً من رؤيته حول جامعة الملك سعود الصحية التي تعتبر أول جامعة سعودية متخصصة في التعليم الصحي.
تجربة مختلفة
* دكتور محمد لنبدأ بإلقاء الضوء على جامعة الملك سعود الصحية ما أبرز ملامحها وبماذا تتميز عن أخواتها؟
- جامعة الملك سعود بن عبدالعزيز للعلوم الصحية تمثل تجربة مختلفة في التعليم العالي في المملكة وبالرغم من كونها جامعة جديدة لم تبدأ من الصفر كمؤسسة أو منظومة إدارية، حيث ترتكز على إرث إداري متميز في مجال الخدمات الصحية، وهنا يبرز لدينا وجها المعادلة، أنت هنا لا تؤسس نظاماً إدارياً مالياً مؤسساتياً من الصفر ولكنك في الطرف الآخر تراهن على نجاحك بتحويل ثقافة إدارية كانت مبنية على تقديم الخدمات الصحية إلى ثقافة أكاديمية معرفية تقدم البرامج الأكاديمية والبحثية هذا الإرث الإداري المتسم بالمرونة المالية والإدارية أتاح فرصة كبيرة نحو البدء ببرامج حديثة وقوية عبر التعاون والمشاركة مع جامعات عالمية مرموقة. هذه المرونة المالية والإدارية يتوقع أن تسهم كذلك في استقطاب كفاءات متميزة بحكم تفوق مميزاتها المالية وحوافزها مقارنة بالجامعات الحكومية.
* تحدثت عن كثير من الجوانب الإيجابية ماذا عن جانب الصعوبات التي تواجه الجامعة؟
- سؤال جيد.. لا يوجد عمل دون تحديات وصعوبات ومن وجهة نظري الشخصية فإن أكبر عقبة تواجه القطاع الصحي التعليمي توفر الكوادر المتخصصة والمتميزة حيث إن البرامج المتخصصة النادرة لا تتوفر فيها الكفاءات المحلية ولا حتى الإقليمية والعربية وهذا يتطلب البحث في دول وأماكن بعيده عن الكفاءات المتميزة في التخصصات الصحية النادرة بل أن الكوادر المحلية المتواجدة بالمستشفيات رغم ندرتها تحتاج تدريب إضافي لتتمكن من المساهمة في العملية التدريبية للبرامج الصحية بشكل متميز.
التحدي الثاني يتمثل في خلق الثقافة الأكاديمية لدى مؤسسة وأفراد وبرامج ثقافتهم الأساسية هي تقديم الخدمة الصحية ضمن مؤسسة ذات تراتبية إدارية وثقافية تختلف عن الثقافة الأكاديمية والبحثية بعلاقاتها التي تنحى للجوانب التزاملية والجماعية في ثقافتها الإدارية. في المجال الخدمي منتجنا هو خدمات محددة تقدم للناس مباشرة وبالتالي نتائجها ملموسة وسريعة ويمكن قياسها مباشرة، بينما في المجال الأكاديمي يتجاوز المنتج ذلك إلى إنتاج المعرفة وتسويقها عبر المخرجات الرئيسية المتمثلة في الطلاب والبحث والدراسات والتفاعل مع المجتمع، إلخ. وقد لا ترى نتائج تلك المخرجات سوى بعد سنوات عديدة وعبر قياسات غير مباشرة.
مستقبل التعليم الصحي
* دعنا ننتقل إلى التعليم الصحي بالمملكة بصفة عامة. كيف ترى مستقبل التعليم الصحي بالمملكة؟
- أعتقد أننا يجب أن نبدأ بنبذة تاريخية، حتى قبل ثلاث سنوات كان يوجد لدينا إحدى عشرة جامعة فقط وخمس كليات طب وكليتي علوم طبية تطبيقية وكليتي تمريض. فجأة تم التوسع في برامج التعليم العالي بصفة عامة والصحي بصفة خاصة، فاصبح لدينا اثنتان وعشرون جامعة حكومية (هناك واحدة إضافية بالدمام يتوقع الإعلان عنها قريباً) واصبح لدينا ثلاثة عشر كلية طب وخمسة عشر كلية علوم طبية تطبيقية وعدد من كليات التمريض والصيدلة وطب الأسنان الأخرى. مع ملاحظة تغير هذه الإحصائية بسبب استمرار التوسع في افتتاح كليات صحية جديدة... هذا يعني اننا نتوسع بشكل كبير ومتسارع من الناحية الكمية، لكن القلق الكبير يتمثل في النوعية حيث تعاني غالبية تلك الكليات من عدم توفر الكفاءات المتخصصة سواء في مجال تقديم البرامج أو حتى في مجال القيادة الأكاديمية والقدرة على بناء برامج متميزة. الغالبية يتبنى فلسفة النسخ لما يقدمه من برامج وللأسف النسخ من نماذج هي في الأساس متواضعة.
غالبية الكليات الجديدة تعاني ظاهرة عدم وجود أو نقص أماكن التدريب السريري حيث أوجد كليات في مناطق لا توجد بها مستشفيات مناسبة لأن تكون مستشفيات تعليمية ...إلخ.
الإشكالية هي أن الكليات القائمة منذ عقود تعاني من نقص الكوادر لضعف برامج الابتعاث والتدريب لكوادرها ولتسرب كفاءاتها المتميزة للعمل بالقطاعات الأكثر جذبا وتحفيزاً مقارنة بالقطاع الأكاديمي، وأخيراً بسبب صعوبة استقطاب الكفاءات المتميزة الأجنبية، فما بالنا بالكليات الجديدة..
* لكن البيانات تشير إلى الحاجة لعشرات الآلاف من المتخصصين في المجالات الصحية لسعودة وظائف القطاع الصحي، ودون هذا التوسع لن نتمكن من تغطية ذلك الاحتياج؟
- في المنظور العام نعم لدينا نقص كبير، لكن نحتاج..
أولاً: إحصاءات دقيقة توضح لنا النقص في كل تخصص صحي على حدة حتى نتعرف على التخصصات الأكثر احتياجاً، لأن هناك تخصصات سيتم تغطيتها خلال سنوات قليلة وهناك تخصصات لا تدرس في المملكة بالكامل.
ثانياً: نحتاج فكر جديد للنظام الصحي، حيث إن النظام الصحي لدينا لم يتعامل مع قضية نقص الكوادر بشكل إستراتيجي هيكلي فعال (هذا الأمر يطول شرحه).
ثالثاً: نحتاج إلى أن نواجه أنفسنا بالسؤال عن كيفية إيجاد مخرجات تعليم صحي متميزة، فنحن نعترض على تقديم نماذج نوعية متواضعة، وسيستمر التواضع إذا كنا نصر على معاملة الكليات الصحية الجديدة بمختلف المناطق وفق كادر التعليم العالي أو الكادر الصحي الحالي، فهذا الكادر لا يسمح باستقطاب المتميزين للعمل بالقطاع الصحي التعليمي وإتاحة الفرص الوظيفية لأبناء وبنات الوطن يعتبر قضية إستراتيجية وطنية ملحة، لكن يجب أن لا يأتي ذلك على حساب تقديم الخدمات الصحية وفق كفاءة عالية ومتميزة، ما زالت دول مثل أمريكا وبريطانيا وكندا تستعين بالكفاءات الأجنبية في القطاع الصحي. وأفضل أن يشرف على صحتي طبيب غير سعودي يحمل التميز بدلاً من طبيب سعودي متواضع التأهيل والأداء.
* بعض الأطباء المتدربين يشتكون عدم تعاون الاستشاريين في تدريبهم بالشكل الكاف. ما رأيك في هذه الشكوى؟
- يجب في البداية عدم التعميم حيث إن هناك أساتذة أكفاء يعرفون ويدركون أهمية التدريب. الظاهرة موجودة لدى البعض ومردها أولاً ثقافة العمل الطبي لدينا وأخلاقياته حيث أننا لا نغرس مفهوم وثقافة القدوة لدى أطباءنا. مواثيق وأخلاقيات ممارسة المهنة لدينا لا تركز على وجوب مشاركة الطبيب في العملية التدريبية.
الأمر الآخر هو ضعف آليات التعليم السريري في تعليمنا الصحي بصفة عامة، حيث أن البعض لا يرى التدريب سوى مجرد وضع المتدرب بالمستشفى وتعريضه لعبء عملي أكبر بحجة زيادة مساحة ممارسته دون توجيه وإرشاد وتدرج في العمل ودون إعطاء الوقت للمتدرب للتحضير والمتابعة النظرية لما يقوم به من عمل.
الكوادر الأكاديمية
* ما الحلول التي تراها للتغلب على مشكلة الكوادر الأكاديمية؟
- لا يوجد حلول جاهزة وسحرية، لكن تأهيل الكوادر بالتدريب والابتعاث أمر حتمي وخيار إستراتيجي لابد منه كذلك يجب أن نوحد التعاقد مع الكوادر الصحية بين وزارة الصحة والقطاعات الأخرى من جانب والكليات الطبية والصحية بكل منطقة من جانب أخر، بحيث نستقطب أكبر عدد من المؤهلين للعمل في الجهتين الجهة الأكاديمية والجهة الخدمية.. بمعنى أن يكون كل استشاري يعمل بمنطقة الجامعة مؤهلاً للمشاركة بالعملية الأكاديمية، والعكس صحيح، سواء باستقطاب ذوي الخبرة في المجالين أو بتدريب العاملين في المستشفيات للقيام بالأدوار الأكاديمية.
بل أقترح إيجاد وظائف مشتركة فيما بين القطاع الصحي الخدمي والقطاع الصحي الأكاديمي بشكل يسهم في توفير مميزات تنافسية أفضل ويفتح أبواب جميع المنشآت الصحية للتدريب والتعليم.
لا يمكن أن نبقى مكتوفي الأيدي نشتكي النقص وضعف الكادر والحوافز وبجانبنا القطاع الصحي الخدمي لا نستفيد من إمكاناته ونفيده كذلك بالشكل المناسب.
* تفاخر بعض الكليات الحديثة بان برامجها مبنية على فلسفة حل المشاكل وان هذا الأمر سينقل مستوى التعليم الصحي نقلات نوعية. ما رأيك بذلك؟
- الأمر هنا يعود إلى طريقة تعليمية ولكل طريقة إيجابياتها وسلبياتها. هناك عدة طرق وفلسفات تعليمية، لكن المهم هو المخرج النهائي. بعض الطرق الحديثة ليست مجرد منهج مكتوب جديد بل فلسفة في ثقافة التعليم والتدريب والعلاقة بين الأستاذ والطالب.
أعترف معك بأن الأطباء بصفة عامة وكطبيعة للتطورات العلمية المتسارعة في مجالهم الطبي ميالون إلى تجريب أساليب جديدة وطرق جديدة بينما المعنيين بالتعليم ينحون جانب التحفظ والتأني في تجريب طرق جديدة لأن التعليم بطبيعته يحتاج سنوات لترى منتجه الرئيسي...
الخلاصة هي يجب أن لا نغير بشكل متسارع طرق التدريس، وأن نركز على تدريب أعضاء هيئة التدريس بشكل كاف على الطريقة المتبعة، والعبرة تكمن في المخرجات النهائية.
الأخطاء الطبية
* يلاحظ كثرة الأخطاء الطبية فما هو دور الكليات الصحية في تقليصها؟
- الأخطاء الطبية لها عدة مسببات واحتمالات، ومن تلك المسببات نقص كفاءة الكادر الطبي المعالج، ضعف الأخلاقيات المهنية وضعف تكوين وعمل الفريق الطبي أو الصحي المعالج و ضعف الإلمام بمعايير الممارسة.
جميع هذه الجوانب يجب أن تدرج في المناهج الطبية وأقولها بكل صراحة تعليمنا الصحي لا يدعم فلسفة العمل ضمن فريق صحي متكامل بل يتم فيه تعزيز الطبقية والدكتاتورية ضمن أفراد الفريق الصحي ويتم تعليم أعضاءه بشكل متجزء وغير تكاملي.
تعليمنا الصحي ضعيف في جانب بناء الشخصية المهنية الأخلاقية حيث الطبيب لدينا (أو فئة من الأطباء حتى لا يغضب البعض) لا يتجرأ على الاعتراف بخطئه ويتجاهل بعض مبادئ العمل وأخلاقياته الرئيسية حيث تجده يتغيب عن عيادته ويتجاهل نداء المريض وغير ذلك من الأخلاقيات. تعليمنا الصحي لا يركز على تعليم المعايير الصحيحة في الممارسة مثل معايير التوثيق الطبي والالتزام بمعايير الجودة في الأداء... إلخ أطباءنا هم نتاج تعليمنا الصحي والطبي وبالتالي لا يمكن الحكم ببراءة تعليمنا الطبي مما يحدث من أخطاء.
* اسمح لي أنت لك نقد سابق على إنشاء كليات طب جديدة بالرياض تحديداً. هل لا زالت وجهة نظرك قائمة ولماذا ترفض إنشاء مزيد من الكليات الطبية بالرياض؟
- بداية نحن لا نتحدث عن الكليات الخاصة فذلك شأن آخر وصاحب المال له الحرية في استثماراته، لكننا نتحدث عن الكليات الحكومية بغض النظر عن تعدد مرجعياتها.
نادراً ما ترى في دولة أو مدينة كبرى أكثر من كلية طب واحدة كبرى أو كليتين في أغلب الحالات، خذ على سبيل المثال تورنتو أو سدني أو غيرها من المدن التي تشابهنا في الحجم.
لكن تلك الكلية تستفيد من جميع مستشفيات المدينة أو المنطقة لتكون مستشفيات تعليمية لها. نحن العكس كل مستشفى كبير يريد أن يفتتح كليته بسبب تقوقع الكلية الأم بجامعة الملك سعود وعدم مد يدها إلى جميع القطاعات الصحية لتفتح أبوابها لها كمستشفيات تعليمية. البعض يراهن على أن تعدد الكليات سيخلق مجالاً للتنافس مثل ما حدث في القطاع الصحي وبالتالي سيرفع مستوى الجودة. هذه وجهة نظر لكنها غير اقتصادية على المستوى الوطني وقد يكون لها عواقبها الأكاديمية في حصر تدريب الطلاب بكل كلية على مستشفى محدد. على العموم يبدو أن العجلة سائرة في تعدد كليات الطب بالرياض حيث وصلت الآن ست كليات. كل يراهن على أنه سيقدم شيئاً متميزاً ومختلفاً وليس لنا سوى دعم الجميع والدعاء لهم بالتوفيق والنجاح.
* كيف ترى نقل كليات وزارة الصحة للتعليم العالي؟
- هذه خطوة كانت متوقعة وسبق أن طالبنا بها، لكن ما هي الاستراتيجية المعدة في هذا الشأن؟ هل هو مجرد تغيير مرجعية إدارية أم سيكون دمج لكليات الصحة مع كليات العلوم الطبية التطبيقية وكليات التمريض؟ الغريب هنا أن وزارة الصحة توافق على نقل الكليات الصحية وفي نفس الوقت تضمن مشاريعها الجديدة مبان كليات صحية كما أنها تتبنى إنشاء كلية طب. أيهما أولى بالارتباط بوزارة الصحة كليات التمريض أم كلية الطب؟ هل ستصبح مقرات الكليات الصحية بمستشفيات وزارة الصحة ملكاً للجامعات التي ستنتقل إليها كليات الصحة؟!
التعليم الصحي النسائي
* هناك جدل يدور حول التعليم الصحي للنساء ودعوات لفصل الطالبات عن الطلاب.
ما رأيك في هذا الموضوع؟
- أعتقد أن هناك مشكلة لدى بعض أساتذة الكليات الطبية تتمثل في سعيهم الدؤوب نحو أدلجة التعليم الطبي، وبدلاً من التركيز على نوعية وكفاءة الأداء أصبح التركيز على قضايا هامشية ايدلوجية.
هذه الظاهرة ليست جديدة فهناك محاولات لإضفاء صبغة الإسلامية على الطب وهناك من يحاول ربط الممارسة الطبية بالجوانب الدعوية وهناك من يرى تقديم كليات صحية نسائية ومراكز صحية منفصلة للمرأة... إلخ.
حسب نظم التعليم العالي في المملكة لا يوجد اختلاط في التعليم وأجزم بأن كليات الطب تسعى جاهدة لاحترام الخصوصية الدينية قدر الإمكان ولا يوجد ما يسمى بالاختلاط سوى في التدريب أو الممارسة السريرية التطبيقية بالمستشفى وهذا أمر يبدو أن لا خيار فيه، حيث لا يمكن عزل عمل الطبيب عن عمل الطبيبة.