والذين تََنِدُّ بهم المحاكاة عن جادة الصواب، لا يخلو طرحهم من فائدة، ومن ثم لا يسوغ التقليل من شأنهم ومبلغهم من العلم، وقد ينطوي ما يأتون به على فوائد جمة، غير أن التعامل معهم يتطلب الحيطة وأخذ الحذر
فقد يكونون حاذقين في التقنُّعِ والتوهيم، وبخاصة أولئك المجاورين منهم أو المنغمسين في حضارة الغرب، أمثال (أركون) و(حسن حنفي) فقارئ هؤلاء يقف على أشياء ذهنيّة ليست ميسّرة للمترفين من القراء الذين تُقَصِّر أكفُّهم عن تناول ما هو متداول من أفكار تمسّ كل جوانب الحياة، فقراءة مثل هذا الصنف المتضلع من مختلف الثقافات تتيح فرص التعرف الأوسع والأعماق على نتاج الفكر الغربي المعاصر، بكل ما هو عليه من انفتاح غير محدود، وكما أشار (علي حرب) ف(أركون) يستعرض في مقالاته معظم الكشوفات الراهنة في علوم الإنسان.
و(حنفي) يُنَقّب في الفكر الغربي غير المتاح، ويعود بأشياء منه، وتخليص هذه المكتسبات من الشوائب المضرة من المعضلات، ولهذا حذّر المفكرون التربويون من تلويث الفكر، وإذ نقطع بالإرث فإننا -أيضاً- نقطع بأن كل حضارة خليط من حضارات شتى، والحضارة في النهاية إنسانية، والوحي السماوي يتمم مكارم تلك الحضارات التي سلفت، وحادت عن جادة الصواب، وإشكالية الخلطة والاختلاط في معرفة المقادير وتحديد المباح والمحظور، وجناية المثقفين في تجسير الفجوات للقبول المطلق والفعل المطلق، وهو ما لا تستقيم معه الأمور.
ومن الوهم الكبير أن يتصور البعض أن محققات التحول في التخلي عن الخصوصية والخلوص من النسقية، وبذات القدْر من الوهم يكون تصور الخصوصية على غير ما هي عليه وهذه الدقائق تحملنا على استبعاد الجاهزيات، وصدق الله {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}فالذين يظنون أن القول بالخصوصية يقتضي المفاضلة والاستغناء والتصدير والهيمنة على ما سواها ومنابذة الآخر والاكتفاء بأمجاد التاريخ، لا يكون لقوله إيجابية ولا فاعلية ولا مشروعية، وعلى الوتيرة ذاتها نجد من يتفلت على أنساقه الثقافية متناسياً حقه في التميز والندية وتكافؤ الفرص، وكلتا الخليقتين لا تحققان تحولاً نحو الأفضل والأكمل، ومعاناة المشاهد من أولئك المهتاجين الذين يسرفون على أنفسهم وعلى عشيرتهم، ممن يتنازعهم الإفراط والتفريط، وما أتيت الأمة في عقر دارها إلا من مقترفات هؤلاء وأولئك، والمعادلة الأصعب تعني المواءمة بين الأخذ بأسباب الحضارة الإنسانية والاحتفاظ بمحققات حضارة الانتماء.
والنسق الثقافي يعد بمثابة البنية التحتية التي تُرْسِي شوامخ المكتسبات.
ومن ضعفت أنساقه أصبح كالريشة في مهب الريح، والذين يدعون إلى تحرير المسائل المتداولة بإلحاح وتأصيل المعارف القائمة في كل المشاهد إنما يودون تثبيت الأفئدة التي استخفها المرجفون، فالذين يخوضون معترك الفكر ويصارعون صلف الخطابات المادية المنْكِرَةِ للعِلَّةِ العَلِيَّة، ويواجهون العقلية المتعالية على النص المقدس، ويدرؤون مجمل (الأيديولوجيات) ثم لا يأوون إلى ركن شديد من الخلفيات الثقافية والمعرفية تَعْصِفُ بهم تلك الحضارات المتدنسة بوضر المادية والإلحاد، ولا يكون ما يتلبسون به من باب التحول الحتمي، إن الارتماء المهين في شراك الآخر تحت أي مسمى وفي ظل أي تبرير لا يغني من الحق شيئاً، والمؤسف أنه داء المشاهد كلها.
والمتهافتون على أشياء الغير أقل معرَّة ممن أشربوا في قلوبهم الأفكار والقيم الأخلاقية، واستهلاك الأشياء أقل ضرراً من تبني القيم والمبادئ والأفكار، والتحول المشروع ما يكون استجابة لحاجة ذاتية فرضها الواقع المعاش، إنه الانبعاث الطوعي من الداخل، وليس هناك ما يمنع من رؤية الذات في مرايا الآخرين، وموازنة المستجد بمعايير الغير، فالتجربة الإنسانية حق مشاع، واعتزال القوم لا يعني الرفض المطلق، وإذا كانت العلّة مناط الحكم فإن للمصلحة حقها، وحيث تكون المصلحة المباحة يكون الحق في الممارسة، وتجربة الآخر العلمية والإجرائية هي وحدها مجال التبادل المشروع، ولكن أين الذين يتقنون هذه المعادلة ويحسنون الخلوص من شراك الآخر المتربص.
والمتعشقون لبوادر الحضارات المهيمنة يوصفون بالتغريب، وهو غير الاستغراب الذي أصبح كما الاستشراق علماً له مقدماته وأصوله ومناهجه.
والاستغراب الذي نعني يختلف كلية عما نراه ونسمعه من المجازفين في القول الذين لا يجدون غير لغة الإثارة والاستفزاز وتوتير مشاعر الرأي العام.
وإذا كان الخطاب الثقافي ذا أبعاد ثلاثة فإنه لكي يكون ممسكاً بعصم الأصالة والمعاصرة يجب أن يحفظ التوازن، فهو ذو مساس بالتراث والمعاصرة والآخر المستعلي، وتلك هي أبعاده الثلاثة، وما لم تكن حاضرة ومفعّلة بمقدار فإن زمن التيه سيمتد إلى ما لا نهاية. ومتى جنح الخطاب الثقافي من تحولاته السريعة لأحد الأبعاد على حساب الآخر دخل الحياة وشِقُّه مائل، وليست القضية في القَسْم العدل، ولكنه في المقادير المناسبة وفي دقة التحري وضبط الإقدام.
والراصد لتحولات الخطاب الثقافي: الذاتية والقسرية يراه أوزاعاً بين العقل المحض والعملي والنقل والتراث والمعاصرة والتغريب والتعريب والواقع والخيال وبين أزمنته الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل بوصفه استشرافاً وتهيأ، وهذا التنازع يعيق التصور السليم ولكنه لا يحول دون التحرف السليم، وقد لا يكون هناك ارتباط عضوي بين التصور والتحرف على أي شكل من الأشكال، والمهارة في الخلوص من تداخل الألوان واختلاط المفاهيم وارتباك المسيرة.
وإذا كنا نقطع بالتحول فإننا لا نملك القدرة على ضبط المسار ما لم يكن التحول عفوياً وذاتياً، إن القسرية تعطل القدرات وتُفْقد إمكانيات الخيار، ومكمن الإشكالية في حتمية التحول واحتمال التحكم، والصعوبة تزداد استحالة حين يغيب الوعي أو يُغَيّب لتمرير الأهداف المشبوهة، وإذا أراد الله إمضاء قضائه وقدره عطّل الإمكانيات الذهنية، ولو أن النخبة استعانت بمناهج السلف وآلياته في استقبال المستجد لكان خيراً لها.
والغرب النافذ الإرادة والمهيمن بآليته ومؤسساته لا يريد التحول إلى الأفضل، وإنما يريد استكمال متطلبات الهيمنة، وتسلط يزداد حدة كلما أمعن الرهينة بالرفض، وقد تدفع الرهينة إلى التشنج ليشرعن لنفسه مزيداً من القيود فبقدر تفريطنا بالمكتسبات وارتباكنا في المواجهة يكون احتفاظ المتسلط وأناته وحكمته والمركزية الغربية تحافظ على مكتسبات التفوق، ومن ثم لا تدع فرصة للتأمل والخيار، ومن الخطأ أن يتصور الحالمون أن القرارات المصيرية ممكنة، وأن العالم الثالث يتمتع بكامل سيادته، وعلى افتراض أن العالم الثالث يملك ما يدعيه عبر وسائل الإعلام فإن استقلاليته في اتخاذ القرار غير ممكنة على إطلاقها. وقد لا يكون من مصلحته التفكير بهذا القدر، وما أحسن التسديد والمقاربة والأخذ والمطالبة، والإمعان في استغلال الممكن دون تحد أو مجاهرة بالعداوة، ورحم الله أمة عرفت قدرها وأدركت إمكانياتها واشتغلت في إطار القدر والإمكانيات.
وليس شرطاً لتحقيق التحول وتحققه أن يكون من النقل إلى العقل ولا من التراث إلى المعاصرة، وإنما يتحقق بالوعي التام بالذات من حيث هي أحق بالبقاء مستصحبة مكوناتها العقدية والثقافية.
وإذا كنا نؤمن بعالمية الانتماء الحضاري وشموليته فإن هذا لا يعني إلغاء الآخر أو احتواءه، وإنما يعني التفاعل والتبادل والتكامل، ولقد قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
وأي حضارة لا يمكن أن تدخل اللزز وتضمن السبق أو المشاطرة واقتسام المكتسبات حتى تسبق ذلك بالتأسيس، والحضارة الإسلامية سبقت إلى ذلك وحققت لنفسها حضوراً مشرفاً، وإن كان في نظر البعض تاريخياً، غير أنها مهيأة لممارسة حقها وندّيتها متى وعاها المنتمون إليها، ولما يزل الغرب خائفاً من المنازلة ولو أتيح للفكر الإسلامي ممارسة حقه في الوجود والأداء لاستعاد مكانته، ومتى أصبح من المسلمات التحول فإن واجب الأمة إعداد العدة وصدق الله {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً}وإذا كان جل وعلا يكره انبعاث المنافقين ويريد تثبيطهم وقعودهم، فإنه لا يود ذلك للأمة الإسلامية، ولكن الأمة تركن إلى ذلك، وتحب القعود أو الاهتياج الأعزل والأرعن.
يتبع..