العام 1977 كان بداية تنفيذ حلم القيادة في تحقيق الاستفادة القصوى من الموارد والثروات الوطنية من خلال إنشاء الهيئة الملكية للجبيل وينبع التي أنيط بها قيادة قطاع الصناعات البتروكيماوية الحلم الذي راود الملك فيصل، ووضع حجر أساسه الملك خالد، وقاده إلى العالمية الملك فهد، رحمهم الله جميعا، ثم أكمل الملك عبدالله، وولي عهده الأمير سلطان مسيرة البناء والتنمية فتضاعف حجم الجبيل الصناعية، وصناعاتها البتروكيماوية المتخصصة، وأعطى الملك عبدالله إشارة البدء في مشروع (الجبيل 2) الضخم، وحققت الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك) لأول مرة في تاريخها أرباحا فاقت رأس مالها المدفوع. تولت الهيئة الملكية مسؤولية تجهيز البنية التحتية لمدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين، وتولت (سابك) مسؤولية استغلال ثروات الغاز المهدرة، وتأسيس صناعات بتروكيماوية متكاملة، فأثبتت أنها ترجمة حقيقية لحلم القيادة، وأنها الركيزة الأساسية في صناعة البتروكيماويات العالمية، وأول منشأة صناعية سعودية تسهم حقيقة في إنجاح إستراتيجية تنويع مصادر الدخل، وفتح آفاق الصناعات الأساسية والتحويلية السعودية.
لم يكن للهيئة الملكية أن تقوم بأدوارها المميزة لولا توفيق الله أولا ثم إرادة القيادة التي وضعت في إستراتيجيتها إنشاء أضخم مدينتين صناعيتين تطلان على ساحلي البحر الأحمر والخليج العربي، لتكونا نواة المدن الصناعية السعودية وانطلاقة صناعة البتروكيماويات، التي أعادت اكتشاف قيمة الغاز المهدر، ولم يُتوقع للمدينتين الصناعيتين الازدهار لولا قيام (سابك)، فخر الصناعة السعودية التي أسست لقيام صناعات أساسية وتحويلية عالمية، وساعدت في فتح آفاق الصناعة السعودية المتخصصة. ارتباط وثيق، ومشاركة حقيقية في النجاح المحقق بين الهيئة الملكية وشركة (سابك) يرجع الفضل فيه إلى الله أولا ثم للقيادة الحكيمة، ولسواعد الرجال الأوفياء. النجاح المحقق لا ينفي وجود بعض السلبيات المتفرقة، وهو أمر طبيعي، لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال،.. وإتمام النجاح هو في تحقيق المعالجة المثلى لسلبيات العمل لا بخلق سلبيات تدميرية أخرى تحت ذريعة العلاج..
الهيئة الملكية و(سابك)... ارتباط تاريخي
خلال تاريخهما المتوازي حققت الهيئة الملكية و(سابك) أرقاما قياسية عالمية، وحصلتا على مراكز متقدمة في مجموعة من التصنيفات العالمية، فقد دخلت الجبيل الصناعية موسوعة جينيس للأرقام القياسية العام 1983 م كأكبر مشروع هندسي وإنشائي يتم تنفيذه في تاريخ العالم، وفازت بجائزة أفضل مدينة جاذبة للاستثمار في الشرق الأوسط العام 2005م، وحققت الهيئة الملكية قفزة عالمية في بناء الإنسان والمكان. باتت الجبيل الصناعية اليوم إحدى أرقى المدن العالمية تنظيما وجمالا، وتكاملا تنمويا غير مسبوق في منطقة الشرق الأوسط، حيث قدمت الهيئة الملكية لمجتمعها ثماني مؤسسات أكاديمية للجنسين، وقطاعات تعليمية، صحية، تنموية متكاملة، ودون مبالغة فإن الهيئة الملكية أصبحت تدير إدارات تفوقت في عطائها وأدائها على أداء بعض الوزارات منذ إنشائها تحملت الهيئة الملكية ميزانية التعليم، الصحة، البلدية، وغيرها، وأحسنت في إدارتها وإستغلالها الإستغلال الأمثل ما يجعلها أهلا لتكون إنموذجا تقتبس منه وزارات الخدمات فن الإنجاز والبناء المتقن.
في المقابل استطاعت (سابك) أن تؤسس وتشيد وتطور18 مجمعاً صناعياً محليا، وأن تشارك خليجيا في بناء ثلاثة مجمعات صناعية مشتركة، وأن تستحوذ على عدة مصانع عالمية في هولندا، ألمانيا، المملكة المتحدة، إضافة إلى امتلاكها قطاع الصناعات البلاستيكية التابع لشركة (جنرال إلكتريك) الأمريكية الذي يضم 44 منشأة صناعية وتقنية، ومشاريع مشتركة في 21 بلدا حول العالم. ونجحت العام 2007 في تحقيق أرباح بلغت نحو 27 مليار ريال، ونسبة من السعودة بلغت 97 في المائة في بعض شركاتها. دخلت (سابك) في شراكات مختلفة مع أطراف منافسة في قطاع البتروكيماويات، ونجحت في طرح جزء من شراكاتها الإستراتيجية للاكتتاب العام، كشركتي (ينساب)، و(كيان السعودية)، كما حازت (سابك) المركز الخامس في قائمة كبريات الشركات البتر وكيماوية العالمية، وحققت بعض شركاتها التابعة على أرقام قياسية عالمية سجلت باسم الوطن.
(سابك) وقوانين المنافسة
نجاح سابك، وسيطرتها على بعض الأسواق العالمية أثار ضدها ضغينة المنافسين، رفعت عليها قضايا خرق قوانين المنافسة أمام المحاكم الغربية واستطاعت أن تتجاوزها بكل يسر وسهولة لسلامة موقفها، وأن تضمن لها حصة ضخمة في أسواق البتروكيماويات العالمية، ومواقع جغرافية لتنفيذ عملياتها الإنتاجية بالقرب من أسواقها العالمية، ولكن ماذا عن منافستها في السوق المحلية، وهل يمكن لها احتكار السوق وفرض إرادتها على الآخرين؟.
أعتقد أن السوق السعودية باتت مفتوحة للجميع، وبعض الشركات السعودية والعالمية الضخمة أصبحت تنتج بعض المواد الأساسية التي اختصت بها (سابك) في العقدين الماضيين لأنها دخلت في شراكات محلية لإنتاج بعض المواد الكيماوية المهمة، فلم تعد الجهة الوحيدة المنتجة محليا لبعض المواد الأساسية التي تعتمد عليها الصناعات التحويلية، كما أن الأسواق الخليجية باتت مسرحا لإنتاج المواد البتروكيماوية التي يمكن لها دخول السوق السعودية بكل يسر وسهولة، إضافة إلى ذلك فالمصانع التحويلية لها الحق في استيراد ما تحتاجه من مواد أولية لعملياتها الإنتاجية، من جانب آخر فإن الدعم الحكومي المتمثل في أسعار الغاز التفضيلية، والكهرباء، والإعفاءات الجمركية وغير ذلك لم يكن يوما حكرا على (سابك) بل هو حق مشاع لجميع شركات قطاع البتروكيماويات في مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين، إذا من الصعب إلصاق صفة الاحتكار على أي من منشآت الصناعة في سوق مفتوحة خاصة بعد انضمام المملكة لاتفاقية منظمة التجارة العالمية، ولكن ماذا عن أسعار بيع منتجات (سابك) محليا؟. ربما تكون هناك مبالغة في أسعار بيع بعض المنتجات للسوق المحلية وهو أمر يحتاج إلى مراجعة دون شك؛ وهنا يبرز الدور الحكومي المنظم لعمليات البيع والتسعير واحتياجات السوق بوجه عام. الأسعار - وإن اعترضنا على قيمها - عادة ما تكون انعكاسا لتوجهات إدارة الشركة التي تركز على تحقيق المنفعة الكلية للمساهمين مع ضمان الكفاية والجودة، ولكن ماذا عن مصلحة المستهلكين المصانع الصغيرة، والسوق المحلية؟ أعتقد أن الأمر يجب أن يرتبط بالدور الحكومي المباشر، وليس إدارة الشركة خاصة أن الحكومة تمتلك ما يقرب من 70 في المائة من أسهم شركة (سابك)، فيمكنها من خلال مجلس الإدارة تحديد إستراتيجية التسعير المناسبة بكل يسر وسهولة.
دعم الصناعات المحلية هي مسؤولية وزارة التجارة والصناعة، ويمكن من خلالها وضع الاستراتيجية الشاملة لدعم الصناعات المختلفة، وتوطين صناعات جديدة تضاف إلى الصناعات التحويلية الحالية، كما يمكن للحكومة أن تفرض السعر المناسب للسوق المحلية إن أرادت، ويمكن لها ممثلة في وزارة التجارة استنساخ (سابك)، وخلق شركات صناعية ضخمة في قطاعات الإنتاج، وأن تسعى لخلق علاقة تكاملية بينها لدعم الاقتصاد، وتنويع مصادر الدخل، وتحقيق الاستثمار الأمثل للفوائض المالية الضخمة، ويمكن أيضا دمج المصانع الصغيرة للحصول على شركات قوية يمكن لها تحقيق النجاح في الأسواق المفتوحة، ومنافسة المنتجات العالمية.
الأمر يتعلق بالاستراتيجية الصناعية، والأهداف والرؤى من الخطأ تحميل (سابك) قصور خطط تطوير الصناعات التحويلية، والمشروعات الصغيرة والمتوسطة تلك هي مسؤولية وزارة الاقتصاد والتخطيط،، ووزارة التجارة والصناعة، بل هي مسؤولية الحكومة ونظرتها للمستقبل، قد لا نعفي (سابك) من التقصير، ولكن هدف الربحية عادة ما يقدم على ما سواه من أهداف في الشركات المساهمة، وهنا يبرز الدور الرقابي التنموي، والتخطيطي الذي يمكن من خلاله تصحيح الوضع، وهو من صميم عمل الوزارات المعنية،كما أنه من الخطأ الاعتقاد بعدم قدرة الدولة على اتخاذ قرارات دعم الصناعات التحويلية من خلال مجلس إدارة (سابك) إلى الحد الذي تضطر فيه تحقيق هذا الهدف من خلال خلق شراكات جديدة، أو إنشاء كيانات أخرى بهدف المنافسة ولا شيء غير ذلك، فالدولة باتت تنظر لتجربة (سابك) الناجحة على أنها الأنموذج الأمثل للاستثمار الصناعي، ولعلها بدأت في استنساخ تجربتها من خلال شركة (أرامكو السعودية) التي عقدت شراكات عالمية لتحقيق أهداف الدولة الإستراتيجية.
شراكات أرامكو العالمية
أعتقد أن شراكة (أرامكو السعودية) مع بعض الشركات العالمية، ومنها شركتا (سوميتومو كيميكال)، و(داو كيميكال) يمكن أن تساعدها كثيرا في تخفيف الضغوط التي تمارس عليها عالميا لفتح قطاع النفط السعودي أمام الاستثمار الأجنبي، في الوقت الذي يمكن أن تحقق المنفعة لصناعة البتروكيماويات السعودية من خلال الحصول على التقنية الحديثة، براءات اختراع، وتصنيع منتجات بتروكيماوية جديدة تصنع لأول مرة بالمملكة والشرق الأوسط تمتاز بأسعارها المرتفعة، وتنامي الطلب العالمي عليها، إضافة إلى دعمها الاقتصاد الوطني وإشراك المواطنين السعوديين في ملكية مشروعات قطاع النفط والبتروكيماويات، كل إضافة جديدة في قطاع الصناعات البتروكيماوية السعودية تعني توسعا استراتيجيا تكامليا مع شركات القطاع وليس العكس، خاصة مع تنامي الطلب العالمي وبلوغه مستوى يفوق في مجمله حجم الإنتاج الحالي لا يمكن للحكومة أن تفكر في محاربة شركاتها الوطنية، أو إضعافها من خلال المنافسة التدميرية بل تسعى جاهدة لخلق التكامل فيما بينها تحقيقا للمصلحة العامة، أو على الأقل المنافسة المتزنة التي تساعد على دعم الإنتاجية ورفع الكفاية والربحية.
الشراكة التاريخية (سابك)
(وأرامكو السعودية)
لو كانت شراكات أرامكو السعودية موجهة ضد (سابك) لما بدأت أرامكو في مفاوضات جادة لإقامة مشروع بتروكيميائي معها في مدينة ينبع الصناعية يناهز في ضخامته مشروع رأس تنورة البتروكيماوي التكريري المزمع إقامته مع شركة (داو كيميكال) العالمية. أرامكو، وكما تشير بعض التقارير الصحفية تخطط لإقامة مشروع مشترك مع (سابك) يعتمد على سوائل الغاز الطبيعي والمواد الخام المتوافرة في ينبع. الشراكة تتضمن تحديث مصفاة ينبع على ساحل البحر الأحمر وبناء مجمع للبتروكيماويات، الاتفاق كما أشارت له مجلة ميد، (سيمنح سابك أكبر شركة لإنتاج البتروكيماويات في العالم من حيث القيمة السوقية وصولاً إلى مدخلات إنتاج من أرامكو، وسيسمح لشركة النفط التابعة للدولة بالمضي قدماً في خطط تطوير مشروع ينبع دون شريك أجنبي)، وأضافت المجلة (أن أية شراكة بين الشركتين ستحظى بترحيب الحكومة السعودية). هذا الترحيب تأتي ضمن إستراتيجية التكامل بين الشركات الوطنية الذي يهدف من خلاله دعم الاقتصاد والصناعة الوطنية.
الشراكة الجديدة (سابك) و(معادن)
ومن أمثلة التكامل الاستراتيجي الذي تنتهجه الحكومة السعودية الشراكة الجديدة بين شركتي (معادن) و(سابك)، فالأولى يمكن أن تكون أنموذجا مثاليا للتكامل الاقتصادي بين الشركات المساهمة شبه الحكومية، وهي إحدى الشركات الإستراتيجية التي قُدِرَ لها أن تكون استنساخا لأنموذج النجاح الأول لم تخلق لإضعاف قطاع الإنتاج بل لتقويته والاستفادة من جوانب القوة لدى شركاته العاملة. من مبدأ العلاقة التكاملية بين الشركات السعودية الاستراتيجية التي تصب في مصلحة الوطن واقتصاده الفتي، وقعت شركة (معادن( اتفاقا مع (سابك)، يقضي بمشاركتها مشروع الفوسفات الذي يهدف إلى استثمار احتياطيات الفوسفات في شمال المملكة لإنتاج الأسمدة الفوسفاتية، تحقق هذه الشراكة التكامل الصناعي بين الشركتين، حيث ستقدم (معادن( التقنية والخبرات في مجال صناعة الفوسفات، بينما ستوفر (سابك ( التقنية والخبرات التسويقية في مجال الأسمدة النيتروجينية. مثل هذه الشراكات تتم وفق إستراتيجية وطنية واضحة تهدف إلى دعم الصناعة الوطنية لا تفكيكها، نحن في زمن العولمة، والاقتصادات المفتوحة، والمنافسة المحمومة التي تتطلب من الدول الراغبة في دخول معترك المنافسة الصناعية خلق كيانات ضخمة يمكن لها التعايش مع المنافسة العالمية، نحن في عصر الاندماجات والاستحواذات الإستراتيجية في قطاعات المال، الصناعة، والتجارة، ومن الحكمة أن نسعى بكل ما أوتينا من قوة إلى دعم شركاتنا الوطنية في مواجهة المنافسة العالمية وليس العكس.
دعم النجاح
شركة (سابك) والهيئة الملكية للجبيل وينبع كانتا حلما تحقق بفضل الله، ثم بدعم القيادة الحكيمة، وجهود المخلصين من أبناء هذا الوطن، يرجع لهم الفضل بعد الله في بناء المدن، وتوظيف الشباب السعودي، وإرساء قواعد صناعة البتروكيماويات السعودية التي انطلقت بالمملكة نحو العالمية، جهود الأمير سعود بن عبدالله بن ثنيان آل سعود رئيس الهيئة الملكية للجبيل وينبع رئيس مجلس إدارة (سابك) تبقى علامة فارقة في مسيرة الهيئة الملكية والشركة، اللتين حققتا أرقاما قياسية، ونجاحات كبيرة، وتطورا ملحوظا في السنوات القليلة الماضية، وتبقى جهود الرواد السعوديين الذين شيدوا (سابك) من البدايات وارتقوا بها سلم المجد والتميز جلية واضحة تسجل بمداد الذهب، كما نفخر أن تدار (سابك) والشركات التابعة بسواعد سعودية في كل القطاعات والمصانع والمرافق، فهل من الحكمة التنازل عن هذا الصرح العظيم وتقطيع أوصاله، أم تقديم الدعم والمساندة له، واستنساخه بنماذج مشابهة في قطاعات الإنتاج الأخرى؟. دعم النجاح وتعميمه، واستنساخ نماذجه، هو الداعم الحقيقي لرقي المجتمع، وتطوير قطاعات الإنتاج، ونشر ثقافة العمل المثمر البناء؛ وهو المكافأة الحقيقية لرواد النجاح في (سابك) والهيئة الملكية للجبيل وينبع.
f.albuainain@hotmail.com