ألغت تكنولوجيا الفضاء المفتوح، سواء بالنسبة للتلفزيون أو الإنترنت، إمكانية الرقابة الثقافية من أي نوع. فالمعلومة، لم يعد بوسع أحد أن يمنعها. ومع ذلك مازالت وزارات الإعلام العربي تحاول أن تجد لمراقبيها دوراً ما، بعد أن ألقتهم التكنولوجيا الفضائية بعيداً عن الرقابة على أذهان البشر. في الماضي كان وزراء الإعلام العرب يتعاملون بمنتهى الغرور والتعالي مع منتجات الثقافة، فيمنعون ويفسحون؛ أما الآن فأصبح الرقيب العربي يتحسر وهو يرى الفضاء المفتوح يمرر المعلومة إلى الشعوب العربية دونما إذن من أحد.
نعم؛ هناك من الفضائيات، وكذلك بعض المواقع على الشبكة العنكبوتية، من سيكون له تأثير سلبي على أخلاقيات الإنسان؛ وبالذات المواقع الإباحية، ومواقع صناعة الموت (المواقع الجهادية)، ومواقع كيفية صناعة الخمور والمخدرات، والسحر والدجل والشعوذة وما شابهها. غير أن الحرية مثلما أن لها إيجابيات فإن لها في المقابل سلبيات. وليس أمامنا لمواجهة هذه السلبيات إلا خيار واحد هو (التوعية)، وتحصين الإنسان من خلال توسيع مداركه، والارتقاء بقدراته على التمييز بين الصالح والطالح؛ إضافة إلى سن الأنظمة والقوانين التي من شأنها الحد من تأثير هذه السلبيات على المجتمع، وحصرها في أضيق نطاق، طالما أن ليس في مقدورنا أن نمنعها.
ويجب ألا يعمينا التحذير من سلبيات هذا الفضاء المفتوح من النظر إلى إيجابياته، وأهمها أنه مكّن إنسان العالم الثالث من الاقتراب إلى درجة الالتصاق بثقافات الأمم الأخرى، وبالذات تلك الثقافة المتفوقة في مضامير التحضر والمدنية. هذا التقارب اختصر ما كنا نظنه في الماضي بوناً شاسعاً بين ثقافتنا وثقافتهم، يحتاج منا لمواكبته عقوداً من الزمن. وأي راصد موضوعي يقارن كيف كنا ثقافياً قبيل سنوات، وكيف أصبحنا الآن، سيدرك ما أريد أن أقوله هنا؛ هذا التقارب ما كان ليتأتى لولا هذا الفضاء المفتوح الذي ألغى عملياً البعد المكاني، ومكّن من اختصار الفارق الزمني، الأمر الذي ساعد على إيجاد الإنسان المنفتح والمتواصل مع (حاضر) الثقافات المتفوقة عليه في المجال الحضاري.
طبعاً هناك - بلا شك - متضررون من هذه الأجرام الفضائية التي تمخر عباب الفضاء، وتلقي بالمعلومات إلى الأرض، وهم أولئك الذين ينادون (بالتقوقع) ويحاربون الانفتاح؛ غير أن قدرتهم على منع هذا التواصل الذي أتاحه الفضاء المفتوح لا تتجاوز (صفراً) بكل المقاييس.
ومثل هذا التقارب لا بد وأن يكون له تبعات قد تكون بمثابة (الكوارث) على تيار التقوقع، بقدر ما هي - في المقابل - (فوائد) للتيار الذي ينادي بالانفتاح ومواكبة القيم الحضارية المعاصرة في كل مناحي الحياة. والإنسان المتقوقع هو إلى (المكابرة) أقرب منه إلى (الموضوعية)؛ فهو لا يتعلم من ماضيه بالشكل الذي يجعله موضوعياً، وإنما يكرر أخطاءه، ويصر على مكابرته، رغم ما يتكبده من أضرار نتيجة لإصراره على التجديف ضد التيار. هذا ما رأيناه مراراً وتكراراً في أكثر من زمن، وفي مواجهة أكثر من ظاهرة.
ومهما تكن سلبيات الفضاء المفتوح فإن أهم ما أعطانا هو أننا الآن مضطرين (للشفافية)، وأن نحسب قراراتنا بدقة؛ فالعمل أضحى اليوم على المكشوف؛ فقد ولّى زمن السرية إلى غير رجعة.