في مكان عام، يجتمع فيه الناس للترويح والتخلُّص من ضغوط الحياة، تنطلق سيدة بارتباك ظاهر، تقطع الممرات جيئة وذهابا، حتى كاد فؤادها أن يكون فارغاً إلاّ من أفكار سوداوية تحيط بها وتحيلها رماداً!
استوقفت رجلاً تسأله بلهفة وحرارة كحرارة قلبها المحترق، بينما كانت الإجابة باردة كبرودة يوم شتوي!
كانت تسعى وتستوقف الآخرين بتوسُّل ظاهر، حتى ليبدو وكأنها متسوّلة! ولو يعلمون أنها أشدّ حاجة للمساعدة من المتسولات، لتوقّفوا ليواسوها ويهدّئوا من روعها!
كادت أن تسأل المقاعد والجدران!! ولو قدُّر لهذه الجمادات أن تفصح عن مشاعرها لأطلقت العنان وشاركت هذه السيدة لوعتها وألمها!
وقد تتساءلون عمن تبحث هذه المرأة المكلومة؟
إنّها ليست سوى طفلتها!
وهل هناك ما يوصل المرء للهذيان ويؤدي به لحافَّة الجنون إلاّ ضياع طفل في مكان عام؟!
ولو أنّ طفلك قد غاب فجأة عن نظرك في أحد أركان منزلك ولو لدقائق، لتيبّست أطرافك. فكيف حين تفقده في مكان يغصُّ بالناس؟ وحينها تبدأ التوجُّسات بأنه ربما تعرّض للاختطاف أو التغرير، في زمن لا يأمن المرء على نفسه وهو راشد، فكيف بطفل تتشابه عليه الشخوص وتتماثل لديه الطرقات؟!
وقفت المرأة حائرة بائسة حزينة، يقطر منها الأسى! ومن حولها يقف مترقباً متعاطفاً ومتألماً!
وحين ظنّت أنّ اليأس قد أكل فؤادها والتهم كبدها، والقنوط قد شرب دماء أوردتها، والغم قد كتم أنفاسها، لاح من بعيد خيال ينبئ عن أمل متجدّد.
وكانت رحمة ربك أكبر مما يحسبون، وأوسع مما يظنون!
وابتدأت تظهر ملامح ذلك الخيال، وقسمات ذلك الشبح، حيث كان حارس الأمن يقبل وينهب الأرض نهباً، وكانت تظنه سرابا، ولكنها حقيقة كبزوغ الشمس من مطلعها.
يده تمسك بطفلة تقاومه بذهول وفزع، قد تطاير شعرها وشحب لونها وجفّت شفتاها البريئتان.! فكانت تمثل بقية باقية من أثر خوف ورعب!
لقد أخذ منها الذعر كل معاني طفولتها الشقية، وأخذت منه ذكرى مريرة لن تنساها، وستبقى في ذاكرتها تنغِّص عليها ضحكاتها البريئة!
وسأدع لخيالكم الانطلاق ما شاء له أن ينطلق ليصور لقاء الأم بطفلتها.
حتما ستتصوّرون الاحتضان لدرجة الالتصاق، والقبلات لدرجة الاحتراق! وتتوقّعون البكاء لدرجة العويل!
وما أجمل لحظات اللقاء بعد ألم الفقد!
واعذروني حين أقطع على خيالكم الخصب متابعة بقية مشاهد اللقاء.
لقد تحوّل اللقاء فجأة إلى حالة من الحب الغريب والعجيب!
إنّه الحب العنيف بأوضح صوره، وأشدّها قسوة!
فهذا الحب - بتعبير الأم الشخصي - لم يكن سوى انهيال بالضرب والصفع والرّكل لدرجة كادت فيه الطفلة أن تزور الموت أو يزورها! لا فرق!
وسأطلق السؤال قبل أن تأخذ الدهشة والتعجب والاستغراب منكم مأخذها.
هل تتوقّعون أنّ هذه الأم لا تحب ابنتها؟
حتماً لا .. ولكنها ثقافة الحب المغموس بالعنف، المغلّف بالغلظة:
(إني أضربك لأني أربيك)
(وإني أعنفك لأني أهذبك)
(وأني أسخر منك لأني أحبك)
ترى متى نقضي على هذا المنطق المقلوب؟
وهذا العرف السائد؟
وهذا المصطلح البائد؟!
ص. ب 260564 الرياض 11342
rogaia143@hotmail.com