وقفت متعجباً أراقب صراع أمواج البحر، فهالني انحسار قرص الشمس ببطء خلف السحب الكثيفة، وقد لاح في الأفق البعيد مزيج من تناغم الأفكار التي افترشت بسادية دامية بر البحر وجفاف الماء متأبطة هيجان الأمواج وسكون الشمس وعذب صوت الطيور في طريق عودتها لأعشاشها، صخرة يتلاطمها ماء الموج ونور الشمس وظلام الماء.
صخرة ذات هامة عالية تقف بشموخ الأبطال تتأمل منظر الغروب وتطرب لعذاب الشفق أثناء غرقه في الماء، وترتاح لعتمة الليل القادم بترانيم العواصف.
فخرج سكون صوتي يصارع الأمل مع مرارة الخوف من المجهول، والفراق مع اللقاء، والحياة مع الموت، والبقاء مع الرحيل وزلزل كيان نفسي رهبة جللت النفس بشك العالمين مع خيوط اليقين السوداء، وقبس ما تبقى من الشمس ممنحة الدفء لقلبي العليل الذي ما انفك يئن من همومه الدائمة المتراكمة التي تتربع على عرشه منذ سنوات، حتى سمعت سكون كلمتي قائلة أمازلت على قيد الحياة أم أنه القدر الذي يصور تلاطم مياه الموج بصورة النجوم المتلألئة فيضيع تحتها الحي والميت.
صمتاً قاتلاً يجلل وقوفي فوق ملوحة المياه وصفير الرياح وتقاذف الأمواج وشبح الموت المحدق الذي يحيط بي من كل جانب، أحدق في مالانهاية شارداً في لا مكان باحثاً عن مقر لقلبي التائه ولعقلي الضائع ممسكاً بطموحي الطائر الذي لا ينفك يطير من مكان لآخر مختاراً التحليق فوق كل الهامات كاسراً جفاء الأرض وحقد البشر وحرارة النار.
ركبت قاربا صغيرا وغدوت أصارع الموج العالي وغير العالي في صراعهما على لا شيء سوى محاولة الإيقاع بقاربي الطفولي، ورحت أرخي أشرعته تارةً، وأرفعها أحياناً محارباً من أجلِ الوصولِ إلى مرادي، متمايلاً يميناً وشمالاً. أختفي تحت الماء مطأطئاً رأسي تارةً وأعلوفوق الماء تارةً أخرى متنازعاً الأمواج وكأنني أرجوها أن تقلل من غضبها، وأن تسكن المياه من جموحها، وأن تركن الملوحة إلى طبيعتها المالحة والسماء إلى صفائها.
راقبت عيناي وهي تشهد فن السباق غير العادل، وقد تأثرت بشعور الاحتضار والتوق إلى الحياة، ما بين التصميم على المضي قدماً أواليأس والغرق في اليمّ الخانق ورفع راية الاستسلام!.
عجبت لقدرتي الكامنة وأنا أصارع رياح السموم ومياه الأمواج وأحمل أشواق الأمل في الوصول إلى شاطئ البر الذي أغرس قدماي فيه، وأمني النفس أنها ستلمس تراب الوطن قريباً وأنا فوقه وإن طالته الأخطار وعصفت به رياح البعد وكثرة الترحال وأنا داخل الوطن.
كدت أفقد الأمل برهة بأن ألمس الثرى وأنا فوقه وأصل إلى شواطئ الأمل، فلا أملك دفة القارب أبداً بل رحت أختال ممتطياً لحظات اليأس والشك. وفقدان اليقين في قدرة الذات على دخول الأعالي وإقتحام الهضاب، وبت أصارع الموت أوالتسليم دون قتال إلى آخر رمق، وهلت بوادرالاحتضار، فذهب الأمل وبعد الهدف، كيف! وهم يقولون: إن الأمل هو واحة المعذبين وملاذ المحرومين، ونور القلب ومرسى السفن المهاجرة!
لحظات قليلة فصلت أحلامي عن واقعي، وآمالي عن أحداثي، تلك هي لحظة اصطدام قاربي الصغير بالصخرة الشامخة التي تأبى أن تسمح بمرور هكذا قارب حتى لوقاده بطل الريح وبقلب المحروم، تحطم القارب وبقي الفارس يصارع الأمواج باحثاً عن مرفأ الأمل وعن نور مرسى الأمان.
dr.aobaid@gmail.com