لا يريد العروبيون، وكذلك الصحويون، أن ينفكوا من عقدة (المؤامرة). كانوا في الماضي دائماً ما يتحدثون عن وهم مؤامرة (بروتوكولات حكماء صهيون)، فيحملونها مآسيهم وفشلهم وهزائمهم. وعندما اتضح أن هذه البروتوكولات مجرد (كذبة) وأنها مفبركة، عادوا للحديث عن معاهدة (سايكس بيكو)، ليثبتوا أنهم كانوا ضحايا (لمؤامرة) حيكت بكل خبث بليل حالك السواد. والآن انتقلوا إلى مؤامرات المحافظين الجدد أو اليمين المسيحي المتطرف في الولايات المتحدة. هذا كان موضوع نقاش لي مع أحد الأصدقاء؛ فهم دائماً ضحايا لمؤامرة، من بروتوكولات حكماء صهيون، وحتى مخططات سايكس بيكو، ونهاية المؤامرة اليمين المتطرف الأمريكي.
وأنت عندما تعتبر الغرب عدواً، فإن من الطبيعي جداً أن يتآمر عليك، ويسعى إلى الإيقاع بك، قبل أن توقع به. والسؤال الذي لا يريد هؤلاء المغالطون أن يجيبوا عليه، فحواه: لماذا كانت (سايكس بيكو) أصلاً، ولماذا استطاعوا فرضها، لولا قوتهم في مقابل ضعفهم، وعقلانيتهم أمام عواطف جياشة ما قتلت ذبابة قط؛ ثم أيهما أولى: أن تقتل الناطور أم تجني العنب؟. هذا ما يجب أن تتعاملوا معه بموضوعية، أما العنتريات وأنتم لا تملكون إلا (الخرطي) فضربٌ من ضروب الغباء والحمق.
وأهم من ذلك كله: لماذا نضع العقبات تلو العقبات في طريق تواصلنا مع الغرب، ومع حضارته، ولماذا لا نتعلم من تفوقهم، طالما أننا المنهزمون، وهم المنتصرون؛ مثلما تعلم اليابانيون من هزائمهم، واستوعبوا ثقافة المنتصر عليهم، واستلهموا تجربته، وفهموا سبب انتصاره، حتى استطاعوا أن يثبوا حضارياً كالعملاق من جديد.
اتفاقية (سايكس بيكو) -أيها السادة- أفرزت عملياً نفس نتيجة (استسلام إمبراطور اليابان)، بعد الهزيمة النكراء التي منيوا بها على يد الغرب. لو أن اليابانيين اتبعوا أسلوب العروبيين، وأقاموا مناحة، وحفلة لطم خدود، وشق جيوب، كما فعل بنو يعرب، ورسخوا ثقافة (الكراهية والبغضاء) لثقافة المنتصر، أو بَحَث منظورهم عن سلفي (ياباني) في تاريخهم، يستلهمون منه قيم وكيفية المقاومة، ويستمدون منه الأصالة، ومن فكره إجابة على أسئلتهم، ومن أقواله وعنترياته شحذاً لهممهم، تحثهم على المقاومة و(الاستشهاد) فداء للأمة اليابانية (الأبية)، لباءوا بالفشل في النتيجة، وانتهوا إلى الفقر والجوع والتخلف كما هو وضع بني يعرب الآن.
أذعن اليابانيون للهزيمة في الظاهر، لكنهم لم يذعنوا في العمق. لم يلطموا الخدود. ولم يلعنوا سنسفيل وثيقة الاستسلام كما لعن العرب سنسفيل سياكس بيكو. ولم يدبج شعراءهم القصائد العصماء في شتم الغرب؛ لكنهم قرروا أن يتلمسوا سبب هزيمتهم، فاكتشفوا أنها تكمن -ببساطة- في (حقيقة) مؤداها أن ثقافة المنتصر متفوقة على ثقافتهم، وأن المكابرة والتحدي لن يزيدهم إلا هزيمة وتخلفاً، فقرروا أن يحذوا حذوها، ويقلدوها، ويتعلموا منها؛ وفي الوقت ذاته رأوا على أرض الواقع كيف هي آلام الحروب، ومآسيها، وكوارثها، وعواقبها التدميرية على الإنسان، فقرروا أن يلغوا الحرب من (قاموسهم الثقافي) والحضاري، ويقاوموا (المحتل) بالعلم والتكنولوجيا والاقتصاد.
وها هو الإنسان الياباني اليوم من حيث الدخل والرفاهية الاقتصادية والأمن والاستقرار هو الأول على العالم بأجمعه. انتصر اليابانيون؛ ومازال بني يعرب يتبادلون التهم فيما بينهم، ويعلقون فشلهم على مشجب الآخر، وسياكس بيكو واليمين الأمريكي المتطرف؛ أما النتيجة فكما ترون!