يوم 23-6-1379هـ، كان يوماً مشهوداً بالنسبة لي، إنه اليوم الذي وقفت فيه مدرساً للصف الأول الابتدائي في دار الأيتام ببريدة، واليوم 23-6-1429هـ أكون أمضيت في مختلف القطاعات الحكومية خمسين عاماً مرت |
كلمح بالبصر، وكأني قد دخلت من باب وخرجت من آخر، ولكنها سنوات خضر وأخر يابسات، فيها الأفراح والأتراح والتجليات والإخفاقات، ومن سره زمن ساءته أزمان، عرفت فيها قيمة الحياة الدنيا، وأنها كما وصفها الذي لا ينطق عن الهوى: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها الكافر شربة ماء)، وكيف تكون بمستوى شيء تافه وكل الذي فوق التراب تراب. |
لقد كنت في مطلع شبابي أحمل هموماً كثيرة وأندم على فوات أي شيء، ولما خَلَتِ الحياة من الآباء والأمهات وأعز الأصدقاء والأقارب والمعارف هانت حتى لا أبالي بفوات النفائس: |
(نفسي التي تطلب الأشياء ذاهبة |
فكيف أبكي على شيء إذا ذهبا) |
نصف قرن من الزمان كأنه ساعة من نهار أعرف تفاصيل أحداثه، وكأنها لم تنته بعد، كنت في السادسة عشرة من عمري، وكنت أسمى ب(المدرس الصغير). |
دخلت المدرسة وأنا لا أحمل إلا الشهادة الابتدائية، ولا أعرف من الكتب إلا القرآن ورياض الصالحين، وكنت أحسبني العالم النحرير الذي لا تند عن ذاكرته شوارد العلم، وكلما تقدمت بي الدراسة وتخطيت بالسِّن طويت مرحلة جهل، ولكن قلَّ أن أعترف بالمقترفات أو أن أعتذر عن الزلات، وتلك خليقة إنسانية، لو تخلى عنها الإنسان لكانت الحياة أفضل مما هي عليه، وكلنا خطاؤون، وخير الخطائين التوابون. |
لقد كان التعليم إذ ذاك القاءً وتلقيناً وتحفيظاً، وكانت الفوقية والسلطوية على أشدها، وكان الطلبة لا يَرْجون من الطلب كسباً مادياً ولا يبحثون عن عملٍ وظيفي؛ فالتعلمُ من أجل العلم، وما يأتي من مكتسبات فهي بالنسبة للطالب ثانوية؛ غير أن شواغر الوظائف تتخطف حصرم العنب. |
وتلك السنوات الطوال مكنتني من التعرف على تحولات المناهج وطرق التعليم وسياساته وأهدافه ووسائله، ورجل دَرَّس في الابتدائي والمتوسط والثانوي والجامعي، والدراسات العليا وأشرف وناقش عدداً من رسائل الماجستير والدكتوراه وحُكِّم في بحوث الترقية لأستاذ مشارك، لا بدَّ أن يتوفر على خبرة ومعرفة، وأن يكون خبيراً بدخائل التعليم، ولكنه في الوقت نفسه يعرف ضخامة جهله وضحالة علمه، ولما كانت مخرجات التعليم دون المستوى المؤمل، فقد طاشت سهام النقد وتبادل أطرافُ القضية أبشع الاتهامات، وما زالت الحلقة مفقودة، وأي مقدمة خاطئة لا يمكن أن تؤدي إلى نتائج صائبة. |
والخطأ حين لا يُسْتدرك يتحول إلى خطيئة، ومن الخير لذوي الشأن أن يتخلوا عن الإسقاط أو البحث عن مشاجب، وأن يتقبلوا قدرهم بثقة واطمئنان، وإذ يتفق الجميع على أن هناك ضعفاً في المعرفة والوعي والأمانة، فإن الواجب مبادرة المشاكل، وإيقاف التدهور، ثم البحث عن الأسباب والمسببات، وبدء رحلة التصحيح خطوة خطوة؛ إذ القفز لا يجدي. ولكيلا نرمي الكرة في شباك واحد نقول: إن أسباب الضعف قسمة بين كل الأطراف، ولن تُحسم المشاكل إلا بالشعور المشترك. |
إن هناك مآخذ على المقررات من حيث النوع والكمية والأولوية وعلى المناهج وأساليب التوصيل، وعلى البيت والمدرسة وأجواء التعليم، وعلى الواقع المشحون بالمغريات، وتفادي الأخطاء لا يمكن أن ينهض به طرف دون آخر. إن هناك نوعاً من التخلي والاتكالية واحتمال الضعف والاستخفاف بالنتائج، وأي أمة يعتريها الضعف لابد أن تفكر في تعليمها، وأن يكون التفكير من الكل وباتجاه الكل. |
لقد قيل أعطني مديراً أعطك تربية ناجحة، وقيل أعطني مدرساً قوياً في مادته وفي شخصيته أعطك طالباً متفوقاً، وقيل أعطني مدرسة حديثة بمكتبتها ومختبرها وملاعبها ومعاملها ومقاصفها أعطك جيلا متألقاً، وقيل.. وقيل، ولما تزل الإشكالية غائبة. إن العملية التعليمية لا تقوم على مفردة من مفردات التعليم إنها تركيبة معقدة، وسيظل الحلُّ غائ،باً وإن أغدقت الدولة على التعليم. |
إن المادة وحدها غير كافية، المادة غير المرشَّدة كالماء غير المرشد لا يزيد إلا وحلاً، إشكالية التعليم في الإنفاق السخي عبر المنضبط. لابد من دراسة شاملة موسَّعة يشترك فيها العلماء والأدباء والمفكرون ورجال الأعمال وسائر الأطراف المؤثرة في التنمية الشاملة. التعليم قضية الأمة، والأمة أولى بقضاياها، والمسألة في النهاية عرض وطلب. لقد نسيت الحديث عن الذكريات العذاب في غمرة التساؤل عن مشاكل التعليم واضطراب الآراء وتبادل الاتهامات. |
قلت إن خمسين سنة مرت مليئة بالأحداث والتجارب، وبودي لو توفر الجهد والوقت لبث هذه الأحداث وتلك التجارب، وكم من محب ناشدني تدارك الأمر وقيد الأوابد، ولكن ضعف الجهد وشح الزمن يحول دون المراد، وعسى أن يأتي الزمن المواتي لتدارك ما فات. لقد أثبتت التجارب أن الحياة بحدِّ ذاتها جامعة، والذين خاضوها بعقول واعية حولتهم إلى عباقرة، ومن المسيء أن يكون هذا العصر عصر بطاقات وشهادات وليس عصر كفاءات، ومن ثم تهافت الجميع على الألقاب العلمية وأصبحت الشهادات تباع بسوق النخاسة، وما درى أولئك أن المواهب كامنة في النفوس، وأن القليل من الناس من يكتشف مواهب نفسه، وكم من موهوب أضاع نفسه أو أضاعه قومه: |
(أضاعوني وأي فتى أضاعوا |
ليوم كريهة وسداد ثغر) |
نعم.. إن العلم وحده لا يصنع الرجال؛ فلا بدَّ من الاستعداد الفطري، وصدق رسول الله: (فرب مُبَلَّغٍ أوعى من سامع). |
وفي الحديث المتفق على صحته: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فَعَلِم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به). |
إن هناك أوعية علم أشبه بالمستودعات التي تتكدس فيها البضائع، وهناك معامل تمد الحياة بكل جديد، وكم هو الفرق بين النحل والنمل! النحل يمتص نسغ الأزهار ثم يمجه عسلاً مصفى، والنمل يجمع الحبوب ولا يغير من خلقها شيئاً، وقد يكون جهد النمل أضعاف جهد النحل، ولو أدرك الناس تلك الفوارق لوضعوا الأمور في مواضعها. |
لقد قطع (محمود محمد شاكر) تعليمه وأغلق على نفسه مكتبته؛ فكان حملة الشهادات العليا من صغار طلبته، ولم يكمل (عباس محمود العقاد) دراسته المتوسطة، وأقبل على القراءة بنهم فكان علماً من أعلام الفكر والأدب، والمسألة في النهاية استعداد ذاتي، ولقد شهدت في مشواري التعليمي طلاباً يزنون بعقولهم ووعيهم وثقافتهم حملة الشهادات العليا. ومن تصور أن الشهادات أو الوظائف العليا هي المقياس الحقيقي للكفاءة فقد ضل سواء السبيل. إن المسألة في النهاية حظوظ وأقسام، وكلٌّ ميسَّر لما خُلق له، والمثل الإنجليزي يقول: (لا تكن عبداً إلا بإرادتك)؛ فالاستسلام للشائعات والمواضعات والأعراف يُلغي الحقائق ويُعطل القدرات ويصادر الحقوق. ولما هبت الشعوب طردت المستعمر وحكمت نفسها بنفسها. |
لقد فوت الناس على أنفسهم أشياء كثيرة بسبب المواضعات التي أصبحت بقوة المسلمات، ولو أن الراصد لحراك الحياة دَقَّتْ ملاحظته لأدرك أن أتفه الأشياء يمكن أن تُعطي الإنسان درساً لا تتسع له المجلدات، ويكفي أن يقوم (كتاب الحيوان) لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ أو جُلُّه على دقة الملاحظة وقوة الحفظ والخبرة الشخصية، والحياة في النهاية فرص وحظوظ، والعدل في إتاحة الفرص، نصف قرن مرَّ لا ريث ولا عجل، عرفت فيه الحياة بإنسانها وأنساقها، نشأت في ظلالها علاقات ود خالص ومداراة مريرة: |
(ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى |
عدوًّا له ما من صداقته بدُّ) |
والأذى المحتمل لم يكن وقعاً ذاتياً، ولكن الإنسان المسكون بهموم أمته يسوؤه أن يراها تحت ضربات موجعة لا تستطيع دفعها ولا ردها بمثلها. لقد سعدت بما أنجزت ورضيت بما لقيت {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}. |
هذا التاريخ الطويل الذي طواه كرُّ الجديدين لا عزاء له إلا آلاف الطلبة الذين يملؤون الرحب من حملة الشهادات ومختلف التخصصات، فبهم أؤكد الذات، وهم العمر الثاني، وأخسر الناس من يطويه النسيان، فلا يكون له علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له، أشرف بهم واعتز بالمراكز التي احتلوها، والعلم الذي حققوه، عشرات من الدكاترة في القسم الذي أعمل فيه كأستاذ غير متفرغ أجد فيهم شبابي، وأحقق طموحاتي واستقرئ آمالي وتطلعاتي، رضوا مني بجهد المقل، وأغرقوني برد الجميل. |
وتلك سنة الله في حلقة أجيال تتبادل المواقع، وتتوارث المسؤوليات، ولو دامت لغيرك لما وصلت إليك، إننا بحاجة إلى تقبل هذه السَّنَّة بثقة واطمئنان. |
وعلى كل مقبل على الحياة بحيوية أن يعرف أنه مفارق وعليه أن يعد العدة لهذه اللحظة اليقين. |
وصدق الله {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، وعسى أن يكون في العمر بقية لنعيد معاً قراءة هذا الزمن المليء بالذكريات والمغامرات والنجاحات والإخفاقات والتجارب والمكتسبات. |
|